هو؟
Who-Is-Jesus-Final
Who-Is-Jesus-Final
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
مَن <strong>هو؟</strong><br />
يسوع المسيح<br />
غريغ غيلبرت<br />
تقديم تريب لي
‘‘سَ أل يسوعُ تالميذه: »مَن تقولون إنِّ أنا؟« وهذا سؤالٌ علينا جميعًا أن نجيبَ<br />
عنه. لِذا يبحثُ غريغ غيلربت Gilbert) (Greg صفحات الكتاب املقدَّس بطريقةٍ<br />
مقروءةٍ وموجزةٍ ومدهشة ليُخرِج حقيقة ما قاله السيِّد املسيح عن نفسِ ه. إنَّ هذا<br />
الكتاب رضوريٌّ للمؤمن باملسيح والباحث عن الحقّ ’’.<br />
جيم دايل Daly) (Jim<br />
رئيس هيئة ‘‘الرتكيز عىل العائلة’’ Family) (Focus on the<br />
‘‘إنَّ أمثنَ ما لدى غريغ هو قُدرته عىل تبسيط األمور العميقة. فكام يساعدنا كتابُه<br />
»ما هي بشارة اإلنجيل؟« Gospel?) (What is the عىل متييز البشارة الحقيقيَّة عن<br />
الزائفة، يُساعدنا كتابُه هذا عىل متييز السيِّد املسيح مثلام قدَّم نفسَ ه مقارنةً مبا<br />
ابتدَعْناه عنه’’.<br />
جاي. دي. غريَر Greear) .J) .D<br />
راعي كنيسة القمَّة Church( )The Summit يف دورهام، كارولينا الشامليَّة<br />
ومؤلِّف كتاب ‘‘يسوع متواصل... ملاذا كَوْن الروح فيك أفضل من يسوع إىل جانبك؟’’<br />
(Jesus, Continued... Why the Spirit Inside You Is Better than Jesus Beside You?).<br />
‘‘ليس هناك سؤالٌ يف الكون أهمُّ من: »مَن هو يسوع املسيح؟« لذا يُفرِغ غريغ<br />
غيلربت، ذو العقل الالمع والقلب الرعويِّ ، ما تحويه إجابة هذا السؤال خطوةً<br />
تِلوَ األُخرى، وذلك بفطنةٍ ويُرس. فسواء كنت مُشكِّكًا تبحث يف هذه األمور للمرَّةِ<br />
األوىل، أم مؤمنًا منذ مدَّةٍ طويلة، سيقودك هذا الكتاب إىل حيثُ نحتاجُ جميعًا ألن<br />
نذهب- إىل مجد الله يف وجه يسوع املسيح’’.<br />
رَسِ ل دي. مور Moore) (Russell .D<br />
رئيس هيئة الحرِّيَّة األخالقيَّة والدينيَّة Commission( )The Ethics & Religious Liberty<br />
ومؤلِّف كتاب ‘‘مجرَّب ومختبَ ’’ Tried) (Tempted and
‘‘من الواضح أنَّه كتابٌ مسيحيّ ، لكنَّه يتَّسمُ باالحرتام والخُلُق يف محاجَجَته<br />
للمُشكِّكني، ويساعد عىل التفكري مليًّا يف يسوع املسيح. حيث يسلِّطُ غريغ الضَّ وء<br />
من جديدٍ عىل مشاهدَ مألوفةٍ، وهكذا فإنَّه يربط الحقائقَ مبعانيها. إنَّه كتابٌ<br />
بارعٌ، لكنَّه أيضً ا بسيطٌ ومآلنٌ بالالهوت الكتايبِّ الجميل. إنَّه دعوةٌ لك، أيُّها القارئ،<br />
لتتعرَّفَ إىل يسوع املسيح’’.<br />
مارك دَفر Dever) (Mark<br />
راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( ،)Capitol Hill Baptist واشنطن دي. يس<br />
ورئيس منظَّمة ‘‘العالمات التسع’’ (9Marks)<br />
‘‘يعملُ هذا الكتاب عىل أمرَين يف الوقت نفْسه: يضعُ يسوع املسيح مبوثوقيَّة ضمن<br />
سياق الزمان الذي جاء فيه، ويبنيِّ ملاذا ال ميكن عقالنيًّا تركُه هناك. هذا الكتاب هو<br />
ملن مل يفكِّر يف يسوع املسيح، كام أنَّه ملن يظنُّون أنَّهم يعرفونه أكرث مامَّ ينبغي’’.<br />
تيمويث جورج George( )Timothy<br />
العميد املؤسِّ س لكليَّة بيسون للدراسات الالهوتيَّة School( )Beeson Divinity<br />
ورئيس التحرير ‘‘للتفسري املُصلح للكتاب املقدَّس’’<br />
(Reformation Commentary on Scripture).<br />
‘‘إنَّ أهمَّ سؤالَني يحتاج املرء إىل اإلجابة عنهام يف ما يختصُّ بيسوع املسيح هام: مَن<br />
هو يسوع املسيح بالتَّحديد؟ وما أنسبُ موقف يل تجاهَه؟ لذا يخاطب غيلربت هذين<br />
السؤالني بفاعليَّة يف هذا الكتاب املهمِّ. فمن اللحظة التي سأل فيها يسوع تالميذه<br />
حينام كان يف قيرصيَّة فيلبُّس عن اآلراء التي تحيط بهُويَّته، مل يعُدْ هناك سؤالٌ آخر<br />
ترتتَّب عىل إجابته عواقب أبديَّة مثل هذا السؤال. إنَّ هذا كتابٌ حادُّ املالحظة مكتوبٌ<br />
بلَمسة روح الله الذي يكشف الستار عن يسوع، الذي هو املسيح’’.<br />
بايج باترسون Patterson( )Paige<br />
رئيس كلِّيَّة ساوثويسرتن املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة<br />
(Southwestern Baptist Theological Seminary).
‘‘سيكون لهذا الكتاب القصري دورٌ عظيمٌ لتَعريف الناس- ومن ضِ منِهم الرياضيِّني الذين<br />
أُدرِّبهم- إىل أروع شخصٍ عىل مرِّ العصور’’.<br />
رون براون Brown) (Ron<br />
مدرِّبٌ فريق كورن هسكرز يف جامعة نرباسكا<br />
(University of Nebraska Cornhuskers)<br />
‘‘إنِّ أبحثُ باستمرارٍ عن كتابٍ قصريٍ وجَيلٍّ عن حياة يسوع املسيح ميكِنُني إعطاؤه<br />
ملن يريد حقًّا معرفة مَن يكون يسوع املسيح، وما فعله. واآلن وجدتُ ضالَّتي يف<br />
هذا الكتاب. إنَّ غريغ غيلربت مُحقٌّ يف قوله: »ليست قصَّ ةُ يسوع قصَّ ةَ رجلٍ صالح؛<br />
بل هي قصَّ ة املطالَبة بالعرش«. ضع يف الحسبان األدلَّة املطروحة يف هذا العمل،<br />
وراقب إىل أين تقودُك’’.<br />
دانيال إل. أكني Akin) (Daniel .L<br />
رئيس كلِّيَّة ساوث إيسرتن املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة<br />
(Southeastern Baptist Theological Seminary)
مَن هو<br />
يسوع المسيح؟<br />
غريغ غيلبرت
Who Is Jesus?<br />
Copyright © 2015 by Gregory D. Gilbert<br />
Published by Crossway<br />
1300 Crescent Street<br />
Wheaton, Illinois 60187<br />
All rights reserved. No part of this publication may be reproduced, stored<br />
in a retrieval system, or transmitted in any form by any means, electronic,<br />
mechanical, photocopy, recording, or otherwise, without the prior permission of<br />
the publisher, except as provided for by USA copyright law.<br />
Cover design: Matthew Wahl<br />
First printing 2015<br />
Printed in the United States of America<br />
Scripture quotations are from the ESV ® Bible (The Holy Bible, English Standard<br />
Version ® ), copyright © 2001 by Crossway, a publishing ministry of Good News<br />
Publishers. 2011 Text Edition. Used by permission. All rights reserved.<br />
All emphases in Scripture quotations have been added by the author.<br />
Trade paperback ISBN: 978-1-4335-4350-0<br />
ePub ISBN: 978-1-4335-4353-1<br />
PDF ISBN: 978-1-4335-4351-7<br />
Mobipocket ISBN: 978-1-4335-4352-4<br />
Library of Congress Cataloging-in-Publication Data<br />
Gilbert, Greg, 1977–<br />
Who is Jesus? / Greg Gilbert.<br />
pages cm. — (9Marks books)<br />
Includes bibliographical references.<br />
ISBN 978-1-4335-4350-0 (tp)<br />
1. Jesus Christ—Person and offices. I. Title.<br />
BT203.G55 2015<br />
232—dc23 2014016639<br />
Crossway is a publishing ministry of Good News Publishers.<br />
LB 25 24 23 22 21 20 19 18 17 16 15<br />
15 14 13 12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1<br />
كل االقتباسات من الكتاب املقدس مأخوذة من الرتجمة العربية املبسَّ طة، إال إذا ذُكر غري ذلك.
إهداء<br />
إىل جاسنت وجاك وجوليت.
المحتويات<br />
11<br />
تقديم بقلم تريب يل 15<br />
ماذا تظنُّ ؟ 23<br />
شخصٌ استثنايئٌّ وأكرث 35<br />
ملكُ إرسائيلَ وملكُ امللوك 49<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’... 63<br />
واحدٌ منَّا 73<br />
انتصارُ آدمَ األخري 91<br />
حمل الله والذبيحة من أجل اإلنسان 111<br />
الربُّ املُقام والحاكم 127<br />
الخامتة: مَن تقول إنَّه <strong>هو؟</strong> 129<br />
عن السلسلة
تقديم بقلم تريب لي<br />
هل سبَقَ أن اختلطَ عليك األمرُ وظننتَ أنَّ أحَدَهم شخصً ا آخرَ تعرفُه؟<br />
أَذكر مرَّةً كنتُ فيها يف حفلٍ مع صديقي أيَّام املدرسة الثانويَّة. كنَّا قد<br />
وصلنا للتوِّ حينام رأينا صديقتنا نيكول (Nicole) واقفةً يف زاوية الغرفة<br />
متُ يض وقتًا طيِّبًا. وحيثُ إنَّنا كنَّا قد أمضَ ينا وقتًا مع نيكول وصديقتها<br />
الحُبىل يف اليوم السابق للحفل، قرَّرنا الذهاب إليهام وإلقاء التحيَّة.<br />
وهكذا، ألقى صديقي التحيَّة عىل نيكول، ومن ثمَّ أشار إىل بطن صديقتها<br />
بتبسُّ مٍ وسأل بلطفٍ : ‘‘كيف حال الطفل؟’’. كانت املشكلة الوحيدة يف<br />
ذلك أنَّ تلك كانت صديقةً أُخرى لنيكول، ومل تكن حُبىل. كم كنتُ شاكرًا<br />
أنِّ مل أكُنِ البادئَ يف الحديث!<br />
قد يكون األمر مُحرجًا وظريفًا حينام يختلطُ عليك األمر بشأن هُوِيَّة<br />
أحَدِ هم. لكنَّك تعرِّض نفسك للظهور بصورةٍ غبيَّة وإمكانيَّة إهانة اآلخر،<br />
لذا من األفضل لك التحقُّق قبل أن تبدأ الحديث.<br />
يدورُ الكتاب الذي بني يديك حول متييز هُوِيَّة شخصٍ آخر، لكنَّ<br />
املخاطر هنا أكرب بكثري؛ فحينام نكون يف صَ دَدِ الكالم عن يسوع املسيح،<br />
فنحن نضع أنفسنا يف خانةٍ أُخرى تختلف عن متييز صديقٍ أو رفيقٍ قديم.<br />
والحال هنا ليست مجرَّد إحراج حينام نيسء الظنَّ بهويَّة يسوع املسيح،<br />
بل األمرُ كاريثٌّ أيضً ا.<br />
11
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
لذا يرينا غريغ غيلربت منذ البداية أنَّ عنوان الكتاب ‘‘مَن هو يسوع<br />
املسيح؟’’ هو أهمُّ األسئلة التي ميكنُنا طرحُها. قد يبدو هذا سخيفًا للباحثني<br />
عن الحقِّ واملتشكِّكني، وقد يكونُ كذلك لبعض املؤمنني باملسيح. لكنَّك إنْ<br />
تابعْتَ القراءة ستجد ما يجعلُ السؤالَ جوهريًّا. أجل، لن نُصادفَ املسيح<br />
رئيس السالم يف الشارع أو يف حفلٍ ما؛ فاألمر ال يتعلَّق برَبْطِ اسمٍ بوَجْهٍ،<br />
لكنَّه يتعلَّق بالتجاوب معه باإلكرام والثقة التي يستحقُّها.<br />
مثالً يكتب غريغ: ‘‘يف اللحظة التي تبدأ فيها إدراك أنَّ يسوع املسيح<br />
هو بالحقيقة الله؛ وأنَّه عىل صلةٍ فريدةٍ واستثنائيَّة بالله اآلب، ستُدرك<br />
أيضً ا أنَّك إنْ أردتَ معرفةَ اإلله الذي خلقَك، فأنت تحتاجُ ألنْ تعرفَ<br />
يسوع املسيح. ليس هناك طريقٌ آخر بتاتًا’’.<br />
إن كان يسوع مجرَّد رجلٍ آخر، لن تُحدِ ث معرفته أيَّ فرقٍ يف حياتك.<br />
لكنْ إنْ كان ابن الله واملخلِّص الوحيد للعامل، فستُحدِ ثُ معرفته كلَّ<br />
الفرق متامًا.<br />
غالبًا ما نخلط الظنَّ بني يسوع املسيح ورجلٍ عاديٍّ آخر، أو معلِّمٍ<br />
صالحٍ آخر، أو مجرَّد نبيٍّ آخر. لكن ليس أيٌّ من هذا األوصاف كافيًا. لذا<br />
يساعدنا غريغ يف هذا الكتاب، عىل التفكري جيِّدًا يف مَن يكون يسوع<br />
املسيح حقيقةً.<br />
أحببتُ هذا الكتاب ألنَّه ممتعٌ، وقد أمضيتُ وقتًا طيِّبًا يف قراءته. إنَّه<br />
كتابٌ بسيطٌ كفايةً ليقرأه أيٌّ كان، كام أنَّه كتابٌ يعالج أسئلةً واقعيَّة.<br />
وأحببت هذا الكتاب أيضً ا ألنَّه حافلٌ بنصوص الكتاب املقدَّس. ما ال<br />
يحاول كريغ فعله هو استحضار أساليبَ جديدة للنَّظر إىل يسوع املسيح،<br />
12
تقديم بقلم تريب لي<br />
فاهتاممه الوحيد هو يف الحقيقة التاريخيَّة الفعليَّة. مَن يسوع املسيح<br />
هذا؟ وملاذا يهمُّنا؟ وبدل أن يركِّزَ كريغ عىل مؤرِّخني مل يروا املسيح قَطّ ،<br />
فهو يركِّز عىل شهادة مَن قابَلوا املسيح من شهودِ عِيانٍ مَوثوقني، وينصبُّ<br />
اهتاممُه عىل كلمة الله، لذا فهذا الكتابُ جديرٌ بالقُبول، وميكنُ القول إنَّ<br />
له قدرةً عىل تغيري الحياة.<br />
أدىل يسوع بترصيحات مفصليَّة عن نفسه، وهو أكرث شخصيَّة دارَتْ<br />
حولها األحاديث عىل مدى التاريخ. فام الذي ادَّعى أنَّه <strong>هو؟</strong> وهل هو<br />
كذلك فعالً ؟ ال ميكنني التفكري يف كتابٍ أفضل من هذا لإلجابة عن تلك<br />
التساؤالت. أظنُّ أنَّكم ستَتباركون به مثلام تباركتُ أنا.<br />
تريب يل Lee( )Trip<br />
مغنِّي راب، وراعي كنيسة، ومؤلِّف كتاب ‘‘قُم: انهض واحْيَ يف مجد الله العظيم’’<br />
.)Rise: Get Up and Live in God’s Great Glory(<br />
13
الفصل 1<br />
ماذا تظنُّ ؟<br />
مَن هو يسوع املسيح بحسب ظنِّك؟<br />
قد ال تكون فكَّرتَ مليًّا يف السؤال، وميكن تفهُّمُ هذا بطريقةٍ ما. فمن<br />
الواضح أنَّنا نتكلَّمُ عن رجلٍ وُلد يف القرن األوَّل لعائلة نجَّارٍ يهوديٍّ غري<br />
معروف. كام أنَّ يسوع مل يشغَلْ أيَّ منصبٍ سيايسٍّ ، ومل يحكُم أمَّةً، ومل<br />
يَقُد جيشً ا، ومل يقابل حتَّى أيًّا من األباطرة الرومان. إنَّ ا كان هذا الرجل<br />
ببساطةٍ يعلِّم الناس األمور األخالقيَّة والروحيَّة لثالث سنني ونصف، وكان<br />
يقرأ النصوصَ اليهوديَّة املقدَّسة ويفرسِّ ها للشعب. وإنْ أردْنا تصديقَ ما<br />
سجَّله شهودُ العِيان عن حياته، قام يسوع املسيح، فضالً عن ذلك، ببعض<br />
األعامل االستثنائيَّة. نَجِدُ أيضً ا أنَّ يسوع سار ضدَّ تيَّار السلطات التي<br />
كانت يف زمانه، وبعد مدَّةٍ ليست بطويلة من بدء خدمته العلنيَّة، آل به<br />
املطاف إىل اإلعدام عىل صليبٍ تحت إمرة أحد الحُكَّام اإلقليميِّني التابعني<br />
لروما، الذي كان إداريًّا مستبدًّا يحتلُّ موقعًا يف اإلدارة الوُسطى التابعة<br />
ملن لهم السلطة الحقيقيَّة.<br />
وعالوةً عىل هذا، جرت هذه األحداث قبل نحو ألفَي سنة. فلامذا إذًا<br />
ال نزال نتكلَّم عنه؟ وملاذا يبدو يسوع املسيح رجالً ال مفرَّ منه؟<br />
15
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
امنحْ يسوع فرصة<br />
مهام كان رأيك الشخيصُّ باملسيح، فيمكننا غالبًا االتِّفاق عىل أنَّه شخصيَّةٌ<br />
بارزةٌ يف تاريخ العامل. لذا يُشبِّه أحد املؤرِّخني املرموقني تأثريَ املسيح<br />
بالقَول: ‘‘إنْ أمكنَ سحبُ كلِّ قطعةٍ معدِ نيَّة من التاريخ تحمل ولو أثرًا<br />
لهذا التأثري باستخدام يشءٍ يشبه مغناطيسً ا خارقًا، فكم سيتبقَّى لدينا؟’’. 1<br />
هذا سؤالٌ جيِّد، وقد تكون اإلجابة: ‘‘ليس الكثري!’’.<br />
لكنْ ألنَّ يسوعَ حقيقةٌ ال مفرَّ منها ليس فقط من الناحية التاريخيَّة،<br />
بل أيضً ا من جهة العصور الحديثة. فكِّر مليًّا يف هذا: رمبَّ ا شخصٌ أو<br />
بضعةُ أشخاصٍ من معارفك هم مؤمنون باملسيح، ورمبَّ ا يرتادون الكنيسة<br />
بانتظامٍ ويُرنِّ ون ترانيم عن املسيح، أو حتَّى يرفعون إليه الرتانيم مبارشةً.<br />
وإنِ استدرجتَهم بالكالم، قد يقولون إنَّ لهم عالقةً بشخصه، وإنَّ حياتهم<br />
تتمحور حوله بطريقةٍ أو بأُخرى. وليس هذا فقط، بل قد تجدُ عددًا من<br />
الكنائس من جميع األشكال يف أرجاء مدينتك. قد يكون بعض هذه املبان<br />
مزدهرًا مبجتمعٍ من املؤمنني باملسيح أيَّام األحد، وقد يكون بعضها اآلخر<br />
مل يعد يُعدُّ كنيسةً بتاتًا. واملغزى من ذلك هو أنَّك أينام نظرتَ باهتامم،<br />
ستجد ما يُذكِّرك بهذا الرجل بالتَّحديد، الذي عاش قبل 2000 سنة. ويُلحُّ<br />
هذا علينا بالسؤال: مَن هو هذا؟<br />
ليس ذلك سؤاالً سهلَ اإلجابة؛ ألنَّنا مل نتمكَّن جميعنا غالبًا من اإلجامع<br />
عىل الهوِيَّة الفعليَّة للمسيح. وصحيحٌ أنَّ قلَّةً قليلةً ما زالت تُشكِّك يف<br />
وجوده، فالحقائق األساسيَّة حول حياته- أين ومتى عاش، وكيف مات-<br />
1) Jaroslav Pelikan, Jesus through the Centuries: His Place in the History of Culture (Yale<br />
University Press, 1999), 1.<br />
16
ماذا تظنُّ ؟<br />
هي جميعها مُتَّفق عليها إىل حدٍّ بعيد. لكن ال يزال هناك اختالفٌ رصيحٌ ،<br />
حتَّى وسط مَن يدَّعون أنَّهم مسيحيُّون، حول أهمِّيَّة حياته وموته. فهل<br />
كان نبيًّا؟ أم مُعلِّامً ؟ أم شيئًا آخرَ متامًا؟ هل كان ابنَ الله، أم مجرَّد رجلٍ<br />
ذي موهبةٍ فذَّة؟ واألهمُّ من ذلك، مَن ظنَّ هو نفسَ ه؟ هل كان موته عىل<br />
أيدي الرومان جزءًا من الخُطَّة منذ بدايتها، أم أنَّه وقعَ يف املكان والزمان<br />
غري املناسبَني؟ ويأيت بعد ذلك السؤال األهمُّ: هل ظلَّ يسوع ميِّتًا بعد<br />
إعدامه صلبًا، حالُه حالُ جميع أمواتنا، أم...مل يبقَ يف القرب؟<br />
رغم االختالف مبجمله، فإنَّ الجميع يتَّفقون عىل أمرٍ واحد: كان<br />
يسوع شخصً ا استثنائيًّا قال وفعل أمورًا غري مألوفة لدى الناس العاديِّني.<br />
وفضالً عن ذلك، مل تكن أقوال يسوع مجرَّد حِ كَمٍ المعةٍ وأخالقٍ حميدة؛<br />
كام مل تكنْ مجرَّدَ نصائحَ تساعد عىل العَيشِ بصورةٍ أفضل يف العامل، بل<br />
قال أمورًا مثل: ‘‘أنا واآلبُ ]عنى بذلك الله[ واحدٌ’’، وقال أيضً ا، ‘‘مَن رآن<br />
فَقدْ رأى اآلبَ ’’، وقال جملةً رمبَّ ا تكون األكرث إدهاشً ا: ‘‘ال أحَدَ يأيت إىل<br />
اآلب إالَّ يب’’. 2<br />
هل ترى ما أعنيه؟ ال يقول أشخاصٌ اعتياديُّون أقواالً كهذه! أنا والله<br />
واحد؟ ال يأيت أحدٌ إىل الله إالَّ يب؟ ليست هذه تعاليمَ أخالقيَّة تحتاج ألن<br />
تُقرِّر ما إذا كنتَ ستتبنَّاها يف حياتك أم ال، إذ إنَّها ترصيحات املسيح<br />
وأقواله عامَّ يرى أنَّه الحقّ .<br />
دون شكّ ، قد ترفض ما يقولُه متامًا. لكنْ فكِّر يف هذا: أال ترى أنَّ<br />
من الحكمة أالَّ تترسَّ ع يف قرارك؟ وأليس من املعقول أن تتعرَّف قليالً إىل<br />
17<br />
)2 يوحنَّا 30؛ :10 .6 :14
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
هذا الرجُل قبل أن ترميَ بعيدًا ما قاله عنك؟ وما دمتَ قد تناوَلْتَ هذا<br />
الكتاب وبدأت تقرأه، فألتجارسَ ْ وأطلبْ منك ما ييل: امنحْ يسوع فرصة؛<br />
ألنَّك قد تُدرك، بينام تتعلَّم املزيد عنه، أنَّ هناك بضعةَ أسبابٍ جيِّدة<br />
لتصديق ما قاله يسوع عن نفسه، وعن الله، وعنك أيضً ا.<br />
إلى أين تذهب لتَعرفَ عن المسيح؟<br />
18<br />
كيف لك إذًا أن تَعرف رجالً عاش قبل ألفي سنةٍ مضت؟ حتَّى وإنْ بدأتَ<br />
من نقطة اإلميان بقيامته من املوت وصعوده إىل السامء، فلن يتسنَّى لك<br />
طَرْقُ بابِ السامء والجلوس معه للتحدُّث وتناوُل القهوة. إىل أين تذهب<br />
لتعرفَ عن يسوع؟ تشري الكثري من الوثائق التاريخيَّة إىل وجود يسوع<br />
وحياته وموته وحتَّى قيامته، وقد تتمكَّن من معرفة بعض األمور عنه<br />
هناك. لكنَّ لغالبيَّة هذه الوثائق مشكلتني عىل األقلّ . فمثالً ، كُتبَت أكرثها<br />
يف وقت مُتأخِّرٍ نوعًا ما، يصل أحيانًا إىل مئات السنني بعد زمن يسوع،<br />
حتَّى إنَّها حقًّا ال تُعينُنا كثريًا لنعرفَ مَن يكون يسوع املسيح فعالً . وليس<br />
ذلك فقط، بل إنَّ أفضل هذه الوثائق ال تُطلعنا غالبًا عىل الكثري عن<br />
املسيح؛ فهي تُعنى بأُمورٍ أخرى، مامَّ يجعلها تذكُرُ املسيحَ أو تُشريُ إليه<br />
فقط، بدل أن تخربنا بشأنه وتُعطينا أيَّة تفاصيل.<br />
إالَّ أنَّ هناك كنزًا دفينًا واحدًا ميتلئ باملعلومات عن يسوع املسيح.<br />
وهو مصدرٌ مُفصَّ ل وشخيصٌّ يحكيه شهودُ عِيانٍ خطوةً بخطوةٍ حول ما<br />
قاله يسوع وما فعله وما كانه... إنَّه اإلنجيل املقدَّس.<br />
لكنِ انتظر لحظة قبل أن تُغلق هذا الكتاب! أعلمُ أنَّ بعض الناس<br />
ينفرون حينام يُذكر ‘‘اإلنجيل’’ أمامهم؛ ألنَّهم يرون أنَّه‘‘كتابٌ يخصُّ
ماذا تظنُّ ؟<br />
املسيحيِّني’’، لذا يظنُّون أنَّه مُنحازٌ وعديم الجدوى للحصول عىل معلوماتٍ<br />
دقيقة. إنْ كان هذا رأيك، فأقول لك إنَّك مُحقٌّ إىل حدٍّ بعيد يف ما تظنُّه؛<br />
فالكتاب املقدَّس هو حقًّا كتابُ املسيحيِّني، ودون أدىن شكٍّ ، كان كُتَّاب<br />
وثائق العهد الجديد- وهو الجزء الثان يف الكتاب املقدَّس- أُناسً ا آمنوا بكالم<br />
يسوع، وبأنَّ ما سجَّله العهد القديم كان يتطلَّع إىل مجيء يسوع. لكنَّ هذا<br />
ال يعني أنَّه كانت لديهم أجندةٌ خبيثة. فكِّر يف األمر: ماذا كانت أجندتُهم؟<br />
أن يَنالوا الشهرة؟ أن يجنوا املال؟ أن يصريوا زُعامءَ جبابرةً لكنائس ثريَّة؟<br />
ميكنك أن تُخمِّن ذلك، لكن إنْ كان ذلك هو مُرادَهم، فقد آلت خُطَّتهم إىل<br />
فشلٍ ذريع. فقد عَلِم معظم كُتَّاب وثائق العهد الجديد أنَّهم قد يُقَتلون من<br />
أجل ما قالوه عن يسوع. ورغم ذلك، استمرُّوا بإعالنه جهارًا.<br />
هل فهمتَ القصدَ من هذا كلِّه؟ ما أعنيه أنَّه إنْ كانت غايةُ أحَدٍ ما<br />
من كتابة روايةٍ عن أمرٍ ما هو مجرَّد نَيلِ االنتباه أو السُّ لطة أو الرثوة، فال<br />
بدَّ له أن يرتاجعَ عن القصَّ ة عندما تتصاعدُ وتريةُ األحداث وتصلُ إىل حدِّ<br />
قطع الرأس. الحالة الوحيدة التي تجعل املرء يلتزم تُجاهَ قصَّ ةٍ كهذه يف<br />
مثل تلك األوضاع هي أنَّ غايةَ املكتوب هي إيصال ما حدث فعالً . وهذا<br />
ما يتوافَر لدينا يف الكتاب املقدَّس: مجموعة من روايات شهودِ عيانٍ آمنوا<br />
مبا قاله املسيح يسوع وكتبوا أسفارَهم بهدفِ إعطاء وصفٍ دقيقٍ عنه<br />
وعامَّ قاله وفعله. كيف إذًا تتعرَّف إىل املسيح؟ أفضل وسيلة هي بقراءة<br />
هذه الوثائق، أي بقراءة الكتاب املقدَّس.<br />
يؤمن املسيحيُّون مع هذا، بأنَّ الكتاب املقدَّس هو أكرث من مجرَّدِ<br />
مجموعةٍ من أفضل املعلومات املتاحة عن املسيح؛ إذ يؤمنون بأنَّه كلمة<br />
الله، أي أنَّ الله نفسَ ه هو مَن قاد الرجال الذين كتبوه ليكتَبوا ما أرادَ هو<br />
19
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
20<br />
نفسُ ه أن يقولَه، حتَّى يكونَ كلُّ ما كتبوه صحيحًا جملةً وتفصيالً . ورمبَّ ا<br />
أدركتَ مُسبَّقًا أنِّ مسيحيٌّ ، وأُومن مبا قلتُه آنفًا عن الكتاب املقدَّس.<br />
قد يكون ذلك بعيدَ املنال لك لتقتنعَ به، وال بأس بذلك. فحتَّى لو مل<br />
تؤمنْ بأنَّ الكتاب املقدَّس هو كلمة الله، تبقى الوثائق التي يحويها تاريخيَّة<br />
بطبيعتها، كتبها ناسٌ أرادوا إيصال تقريرٍ دقيقٍ عن املسيح. فتعامَلْ معها<br />
اآلن عىل األقلِّ عىل هذا األساس، واطرحْ أسئلةً وابحث عن إجاباتٍ عنها،<br />
واقرأها بأسلوبٍ نقديٍّ كام كنتَ لتفعلَ مع أيَّة وثائقَ تاريخيَّة أُخرى.<br />
واسأل نفسك: ‘‘هل أجِدُ هذا حقًّا أم ال؟’’. فكلُّ ما أطلبه منك هو أن<br />
تتعاملَ مع هذه الوثائق بعدلٍ، قبل أن ترميَها يف صندوقٍ جعلتَه لألمور<br />
‘‘الدينيَّة غري النافعة’’، حاسبًا إيَّاها من البداية سخيفةً ورجعيَّةً وباطلةً.<br />
الحظْ أنَّ الذين كتبوا وثائقَ العهد الجديد أشخاصٌ أذكياء. فقد كانوا<br />
من سكَّان أعظم إمرباطوريَّة عىل وجه سطح األرض آنذاك، بل كان بعضٌ<br />
منهم من مواطني تلك اإلمرباطوريَّة، وقد قرأوا الفلسفة واألدب مامَّ ال<br />
نزال نقرأه حتَّى اليوم يف مدارسنا. )يف الواقع، إن كُنتَ مثيل، فأقولُ إنَّهم<br />
قرأوها بعنايةٍ وإمعانٍ أكرثَ مامَّ فعلنا نحن(. فضالً عن ذلك، فقد عرفَ<br />
أولئك الفرقَ ما بني الحقيقة والخيال، وعرفوا الخِ داع والضَّ الل، وكيف أنَّها<br />
تختلف عن التاريخ والحقّ . بل حافظ كُتَّاب العهد الجديد عىل التفريق<br />
ما بني هذه األمور برصامةٍ وحذرٍ أكرثَ مامَّ نقومُ به نحن عادةً. وستُدرك<br />
بينام تَقرأُ كتاباتهم إميانَهم مبا يقولونه يسوع، وأنَّهم، رغم دهشتهم منه،<br />
صدَّقوه وأرادوا أن يؤمنَ به اآلخرون أيضً ا. فقد كتبوا إذًا راجني أن يقرأ<br />
الناس ما قالوه، ليعرفوا مَن هو يسوع املسيح كام عرَفوه هم، ورمبَّ ا يُدرك<br />
الناسُ أنَّه جديرٌ باإلميان والثقة.
ماذا تظنُّ ؟<br />
وهذا متامًا ما أرجو أن يساعدكم هذا الكتاب عىل فعله: أن تعرفوا<br />
يسوع بواسطة كتابات املسيحيِّني األوائل. ومع أنَّنا لن نفحص أيًّا من كتابات<br />
العهد الجديد صفحةً فصفحة، فإنَّنا سنستخدم جميع هذه املصادر لنتعرَّف<br />
إىل يسوع بالطريقة نفسها التي اختربها أيٌّ من أتباعه: أوَّالً ، بوصفه رجالً<br />
استثنائيًّا أجرى أعامالً غري متوقَّعة، لكنَّنا سندرك عىل نحو غامر أنَّ كلمة<br />
‘‘استثنايئّ’’ ال توفيه حقَّه يف الوصف. ها إنَّ أمامنا رجالً ادَّعى أنَّه نبيٌّ<br />
ومخلِّصٌ وملكٌ ، بل ادَّعى أيضً ا أنَّه الله نفسه- رجالً كان سيتربَّر مستمعوه<br />
من ذنب إعالنه مخبوالً أو محتاالً ، لو أنَّه مل يستمرَّ بأعاملٍ تشهد ملا ادَّعاه!<br />
هذا إىل جانب الطريقة غري املتوقَّعة التي عامَل بها الناس، فقد تعامَلَ<br />
بتعاطُفٍ مع املنبوذين، وبسخطٍ مع ذوي السُّ لطة، ومبحبَّةٍ مع املكروهني.<br />
ومع أنَّ يسوع ادَّعى ما ادَّعاه، مل ميارسْ حقوقه بكَونه ملكًا وإلهًا، فرفضَ مثالً<br />
املُلكَ الذي عُرض عليه، وأَخربَ تالميذه أالَّ يخربوا أحدًا بحقيقته، بل تحدَّث<br />
بأنَّ السُّ لطات ستصلبه حاسبةً إيَّاه مجرمًا. ورغم كلِّ هذا، فقد اتَّضحَ من<br />
كالمه أنَّ ذلك كلَّه كان يسري منذ البداية بحسب خُطَّته بطريقةٍ ما. لذا بينام<br />
شاهده أتباعُه وسمعوه، بدأوا يُصدِّقون شيئًا فشيئًا أنَّه أكرث من مجرَّد رجلٍ<br />
استثنايئّ، أو مجرَّد مُعلِّمٍ ، أو نبيٍّ ، أو حتَّى ثائر، بل إنَّه أكرث من مجرَّد ملك.<br />
لقد قال له أحدُهم يف إحدى الليايل: ‘‘أنت هو املسيح، ابن الله الحيّ ’’. 3<br />
أهمُّ سؤالٍ ستطرحه في حياتك<br />
مَن هو يسوع املسيح إذًا؟ كثريًا ما كان هذا هو السؤال األبرز. فمن<br />
اللحظة التي ادَّعى فيها رعاةٌ أنَّهم رأوا مالئكة أخربوهم مبيالده، إىل<br />
21<br />
)3 مرقس .16 :16
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
اليوم الذي أَدهش فيه تالميذه بتهدئته البحر الهائج، إىل اللحظة التي<br />
أظلمت فيها الشمس يوم موته، كان الجميع يُرتَك بعدها مُتسائالً : ‘‘من<br />
هو هذا؟’’.<br />
قد تكون لجأت إىل هذا الكتاب ولك معرفةٌ قليلة عن يسوع، وقد<br />
تعرفُ عنه بعضَ األمور. لكنِّي أرجو يف كِلتا الحالتَني أن تتعرَّف إىل يسوع<br />
بطريقة أفضل بينام تقرأ عن حياته، ونستكشفها معًا، وأرجو أالَّ يكون<br />
ذلك مثل معرفة موضوعٍ أكادمييّ ، أو شخصيَّة دينيَّة، بل بوصفه معرفة<br />
رجلٍ عَرفه املسيحيُّون األوائل بوصفه صديقًا. كام أرجو أيضً ا أن ترى ما<br />
أعجبَهم به، وأن تُدركَ بصورةٍ أفضل السببَ الذي يجعل املاليني يقولون:<br />
‘‘هذا مَن نأمتنه عىل أبديَّتنا’’.<br />
وفضالً عن هذا كلِّه، أرجو أن يتحدَّاك هذا الكتاب لتأخذَ أقوال<br />
يسوع عىل محمَل الجِدّ. فإنْ كان املسيح قد قال إنَّه إلهٌ، فليس أمام<br />
أيٍّ منَّا سِ وى خِ يارَين فقط. أليس كذلك؟ إمَّا أن نرفض هذا اإلدِّعاء وإمَّا<br />
أن نقبله. ما ال ميكنك فعله، عىل األقلِّ ليس مدَّة طويلة، هو أن تؤجِّل<br />
الحُكم وتراقب ما سيحصل يف النهاية. رصَّح يسوع ببعض األمور العجيبة<br />
عن نفسه، وعنك أيضً ا. ولذلك تأثري مفصيلٌّ يف حياتك، سواء أعجبك األمر<br />
أم مل يُعجبك. لذا آمل أن يتحدَّاك هذا الكتاب لتُفكِّر مليًّا يف يسوع، وأن<br />
يساعدك عىل إيضاح هذه الترصيحات والنتائج، ويقودَك لتُقدِّمَ جوابَك<br />
النهايئَّ عن السؤال: مَن هو يسوع املسيح؟<br />
فهذا بالفعل أهمُّ سؤالٍ ستطرحه يومًا.<br />
22
الفصل 2<br />
شخصٌ<br />
استثنائيٌّ وأكثر<br />
كانت الساعة الثامنة صباحًا إالَّ عرش دقائق من أحد أيَّام الجمعة،<br />
حينام صعد رجلٌ عاديُّ املنظر درجًا كهربائيًّا إلحدى محطَّات األنفاق يف<br />
العاصمة واشنطن دي. يس، واستند إىل أحد الجدران، وفَتَح صندوق كامنٍ<br />
كان بحوزته، ثمَّ أخرجَ آلتَه التي بدا أنَّها عتيقة، حتَّى إنَّها كانت مهرتئةً<br />
من الوراء فظَهَرَ الخشبُ من بعض الحواف، وأدار الصندوقَ ليَقبَل أيَّ<br />
تربُّع قد يضعُه املارَّة، وراح يعزف.<br />
أخذ الرجل يعزف مجموعةً مختارة من املوسيقا الكالسيكيَّة مدَّة<br />
خمسٍ وأربعني دقيقة جرى فيها مقابلَه أكرث من ألفِ شخصٍ مُرسعني.<br />
نظرَ إليه شخصٌ أو اثنان إعجابًا، لكنْ مل يحطْ به أيُّ حشد. ثمَّ أدرك رجلٌ<br />
أنَّ أمامه ثالث دقائقَ قبلَ التوجُّه إىل عمله، فاستند إىل أحد األعمدة<br />
وأصغى- لثالث دقائق فقط. لكنَّ أغلب الناس انشغلوا بأمورهم ببساطة:<br />
يقرأون الصُّ حُف، أو يستمعون إىل اآليبود، مرسعني إىل املوعد التايل الذي<br />
ذكَّرتهم به شاشات أجهزتهم اإللكرتونيَّة.<br />
وباملناسبة، كانت املوسيقا جميلةً وانسابَتْ بإبداعٍ رائع متناغمةً بدقَّة<br />
متناهية يف أرجاء املمرّ، وجاعلةً أُناسً ا يفكِّرون الحقًا أنَّهم انتبَهوا فعالً - ولو<br />
23
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
24<br />
لِلُحَيظات- ملا كان يُعزَف. لقد كان ذلك حقًّا أمرٌ مميَّز. غري أنَّ العازفَ<br />
مل يبدُ مميَّزًا؛ إذ كان يرتدي قميصً ا أسودَ طويل األكامم، وبنطاالً أسودَ<br />
أيضً ا، وقبَّعةَ فريق ‘‘واشنطن ناشونالز’’ Nationals) (Washington للبايسبول.<br />
لكنَّ املقصودَ هو أنَّك لو استوقفْتَ نفسَ ك لتستمعَ، فستُالحِ ظُ أنَّه أكرث<br />
من مجرَّد عازفِ كامنٍ يعزفُ من أجل بعضَ الفكَّة يف جيوب املارَّة. فهذا<br />
املوسيقيُّ كان مُدهشً ا. حيث علَّق رجلٌ الحقًا بالقَول إنَّ : ‘‘أغلب العازفني<br />
يعزفون املوسيقا، لكنَّهم ال يشعرون بها، أمَّا هذا الرجل فقد كان يَشعُر<br />
بها. كان الرجل يتحرَّك ويتحرَّك مع األلحان’’. وأضافَ قائالً إنَّك لو استمعتَ<br />
قليالً ‘‘ألمكنَك أن تُدرك يف غضونِ ثانية أنَّ الرجل كان مُبدعًا’’. 1<br />
وبالفعل أمكنَك ذلك. فهذا مل يكن مجرَّدَ عازفِ كامنٍ كالعازفني<br />
اآلخرين يف محطَّة األنفاق صباح يوم الجمعة، ومل يكن حتَّى مجرَّد عازفٍ<br />
استثنايئٍّ آخر، بل كان‘‘جوشوا بِل’’ Bill) Joshua)؛ عازف الكامن املشهور<br />
عامليًّا ذي التسعة والثالثني عامًا، وهو عادةً ما يعزفُ يف أشهرِ مسارح<br />
املوسيقا العامليَّة، أمامَ جامهريَ تحرتمُه حتَّى إنَّهم ميسكون أنفسهم عن<br />
السُّ عال إىل أن يتوقَّفَ عن العزف. وليس ذلك فحسب، بل كان بِل حينها<br />
يعزفُ بعض أفخر املوسيقا الباروكيَّة، عىل كامنٍ عتيقٍ عُمره ثالث مئة سنة،<br />
ويُقدَّر مثنه بنحو ثالثة ماليني ونصف املليون دوالر!<br />
كان املشهَدُ كلُّه جميالً : بعض أجمل املوسيقا املؤلَّفة تُعزف عىل<br />
إحدى أكرث اآلالت إتقانًا من جهةِ الصُّ نع، يعزفُها أحد أمهر املوسيقيِّني<br />
املوجودين عىل قَيد الحياة. لكنْ رغم هذا كلِّه، كان ال بدَّ أن تتوقَّف<br />
وتُلقيَ انتباهَك ليك ترى الجامل الذي حواه املشهد.<br />
1) Gene Weingarten, “Pearls Before Breakfast,” The Washington Post, April 2007.
شخص استثنائيٌّ وأكثر<br />
أكثر من استثنائيّ<br />
ينطبق ذلك عىل أمورٍ كثريةٍ يف حياتنا، أليس كذلك؟ ففي دوَّامة العمل<br />
والعائلة واألصدقاء والفواتري واملتعة، كثريًا ما ينتهي املطاف بأمورٍ كالجامل<br />
والبهاء خارج أبواب عقولنا، إذ ليس لدينا مُتَّسعٌ من الوقت لتقديرها،<br />
والتوقُّف قليالً إلعارتها بعضَ االنتباه؛ فنحن مشغولون مبا هو طارئ.<br />
ينطبق هذا عىل ما يختصُّ بيسوع املسيح؛ فأكرثَ ُنا- وإنْ كنَّا نعرفُه<br />
سابقًا- نعرفه معرفةً سطحيَّة. وقد نعرفُ بعضَ القصص املشهورة عنه أو<br />
بعض املقوالت املعروفة املنسوبة إليه. فدون أدىن شكٍّ ، كان لدى يسوع<br />
املسيح يف أيَّامه ما أَرسَ َ انتباهَ الجُموع- كان حقًّا رجالً استثنائيًّا. لكنْ<br />
إنْ كنتَ تريدُ فعالً أن تعرفَ السيِّدَ املسيح وتفهَمَه وتستَوعبَ قيمتَه<br />
الحقيقيَّة، فإنَّك تحتاج ألن تَنظُر بإمعانٍ أعمَق. عليك أن تتخطَّى املُناظَراتِ<br />
املعتادة والخُطَبَ املتداولة والقصصَ املتناقَلة عنه وتخدشَ السطح لنتظرَ<br />
إىل ما تحته. فاألمرُ سيكون مأساويًّا- كام حدث مع عازف الكامن يف<br />
محطَّة قطار األنفاق- لو حسبتَ يسوعَ مجرَّد رجلٍ استثنايئٍّ آخر.<br />
لنكُنْ رصيحني! حتَّى لو مل تكن متديِّنًا أو مقتنعًا بفكرة أنَّ املسيح<br />
هو ابن الله ومخلِّص العامل، ال بدَّ أن تعرتفَ أنَّه شخصٌ يلفتُ االنتباه<br />
نوعًا ما. فمرَّةً بعد مرَّة، أجرى يسوعُ أعامالً أَرسَ َتْ أنظارَ معارصيه، وقال<br />
أقواالً أدهشَ تْهم بحِ كْمتِه، بل واجَهَهم بأساليبَ تركَتْهم يتخبَّطون محاوِلني<br />
استيعابَ ما حدث.<br />
قد يسهُلُ من النظرة األوىل القَولُ إنَّ حالَ يسوع املسيح حالُ غريه من<br />
مئات املعلِّمني الدينيِّني الذين ظهروا برزوا ثمَّ سقطوا وتواروا يف أورشليم<br />
25
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
)القُدس( نحو القرن األوَّل امليالديّ ؛ إذ إنَّ صيتَ التعليم الدينيِّ آنذاك مل يكن<br />
كام هو عليه اليوم. ومع أنَّ الناس كانوا يستَمِعون إىل هذه التعاليم لحيازةِ<br />
بصريةٍ تقودُهم إىل فهمٍ أفضل للكتب املقدَّسة وتعلُّم كيفيَّة العيش بربٍّ أكرث،<br />
فإنَّ بعضهم كان يستَمِع ملجرَّد التمتُّع اللَّحظيّ . فاألمرُ يُشبِهُ عدمَ توافُر<br />
األفالم السينامئيَّة والتلفاز والهواتف الذكيَّة. ماذا كنتَ لتَفْعَل حينها من أجل<br />
التَّسلية؟ ال بدُّ لك يف زمانهم من التحضري لنزهةٍ تستمع فيها ألحد املعلِّمني!<br />
قد يبدو األمر غريبًا لنا للوهلة األوىل، لكنَّه يساعدنا عىل فَهْم تفرُّد<br />
يسوع يف كونه معلِّامً جيِّدًا؛ فقد استمعَ يهودُ القرن امليالديِّ األوَّل للكثري<br />
من املعلِّمني، وأبدوا فيهم آراءً مُصاغةً كام يصيغُ الناسُ آراءهم بنجوم<br />
السينام اليوم. وبكلامت أُخرى، ليس من السَّ هل إثارة إعجاب الناس<br />
آنذاك. مامَّ يجعَلُ األمرَ يستحقُّ اإلمعان يف ما كان يحدثُ حني يَصِ فُ<br />
الكتاب املقدَّس مرَّة تلو األُخرى الناس بأنَّهم ‘‘بُهتوا’’ بتعاليم املسيح.<br />
يَرِدُ هذا الوصف يف الروايات األربع من الكتاب املقدَّس عن حياة<br />
يسوع املسيح، أو ما يُعرف بالبشائر أو األناجيل ، 2 ما ال يقلُّ عن عرش<br />
مرَّات. 3 أقتبسُ منها ما ورد عن متَّى، حيث كان يسوع قد أنهى للتوِّ<br />
تعليمه من عىل سفح أحد الجبال: ‘‘وَعِندَما أنهَى يَسُ وعُ حَدِ يثَه هَذا،<br />
ذُهِلَ النَّاسُ مِنْ تَعلِيمِهِ، ألِ نَّهُ كانَ يُعَلِّمُهم بِسُ لطانٍ وَلَيسَ كَمُعلِّمي<br />
الرشَّ يعة’’ . 4 ال تدَعْ هذا يفوتك! كانت وظيفةُ مُعلِّمي الرشيعة التعليمَ<br />
26<br />
2( ‘‘اإلنجيل’’ كلمة يونانيَّة تعني ‘‘الخرب السارّ’’، وميُ كن أن تُطلق عىل كتاب العهد الجديد كامالً )اإلنجيل(، أو<br />
عىل كتابات متَّى ومرقس ولوقا ويوحنَّا عن يسوع املسيح، وهي مضمَّنةٌ يف العهد الجديد )املرتجم(.<br />
)3 متَّى 33؛ :22 ،25 :19 ،54 :13 ،28 :7 مرقس 18؛ :11 ،26 :10 ،37 :7 ،2 :6 ،22 :1 لوقا .32 :4<br />
)4 متَّى .29-28 :7
شخص استثنائيٌّ وأكثر<br />
بسُ لطان، لكنَّ الناسَ رأوا أنَّهم مل يُجاروا يسوع ولو قليالً بتعليمه.<br />
ويف أحيانٍ أُخرى، وُصفت املشاعر بعباراتٍ مختلفة. الحظ ردَّة الفعل<br />
التي نالها املسيح يف أوَّلِ عِظَةٍ ألقاها يف بلدته حيثُ تَرعرَع: ‘‘كانَ الجَميعُ<br />
ميَ دَحونَه، مُندَهِشنيَ من الكَلِامتِ الجَميلَة التي تَخرُجُ من فَمِه’’. 5<br />
وكانت هذه الحالُ أيضً ا يف قرية صغرية تُشتَهرُ بصَ يد األسامك، تُدعى<br />
كَفرناحوم: ‘‘فَذُهِلوا من تَعلِيمِه، ألِ نَّهُ عَلَّمَهُم كَمَنْ لَه سُ لْطانٌ’’. 6<br />
ومُجدَّدًا يف بلدته: ‘‘فَاندَهَشَ كَثريونَ عِندَما سَ مِعوه، وقالوا: »من<br />
أينَ جاءَ هَذا الرَّجُلُ بِكلِّ هَذا؟ وَما هَذِ ه الحِ كْمَةُ املعطاةُ له، وما هَذه<br />
املُعجِزاتُ الَّتي يَصنَعُها؟«’’. 7<br />
بعد ذلك يف الحدث األكرب يف هيكل القُدس: ‘‘وَسَ مِعَ كِبارُ الكَهَنةِ<br />
وَمُعلِّمو الرشَّ يعةِ مبِ ا حَدَثَ ... لَكنَّهُم كانوا يَخافونَ منه ألنَّ تَعليمَه كانَ<br />
يُدهِشُ الجَميعَ’’. 8<br />
كانت ردود الفعل نحو يسوع املسيح مِرارًا وتَكرارًا تتَّسِ م بيشء<br />
من الدهشة وعدم التصديق 9 ؛ ففي ثقافةٍ كانت تنظر إىل التعليم<br />
بوصفه نوعًا من أساليب جَلْبِ البَهجةِ إىل عامَّة الشعب، نالَ يسوع<br />
تقييامتٍ استثنائيَّة!<br />
27<br />
)5 لوقا .22 :4<br />
)6 مرقس .22 :1<br />
)7 مرقس .2 :6<br />
)8 مرقس .18 :11<br />
9( اقرأ أيضً ا متَّى 54؛ 13: 33. 22، 22:
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
لماذا هذا الذُّهول؟<br />
لكنْ ملاذا؟ ما الذي كان مُميَّزًا والفتًا جدًّا يف تعاليم املسيح؟ جزءٌ من<br />
اإلجابة يكْمن يف تلك اللحظات التي كان الناس يتحدَّونه فيها ويطرحون<br />
عليه أسئلةً، وكان يُربهن لهم مدى حكمته وبصريته. إذ كان ببساطةٍ ال<br />
يسمح لهم بإيقاعه يف فِخاخهم اللفظيَّة واملنطقيَّة، بل كان حتَّى يقلبُ<br />
املوازين عىل الشخص الذي بدأ التحدِّي. فكان ليس فقط يربحُ الجَدَل،<br />
بل كان أيضً ا يربَحُ بطريقةٍ تتحدَّى روحيًّا جميعَ املستمعني. فألستعرضْ<br />
وإيَّاكَ إحدى هذه اللحظات.<br />
يَرِدُ يف سفر متَّى موقفٌ كان فيه يسوعُ يُعلِّم يف الهيكل، فاقرتبَتْ إليه<br />
مجموعةٌ من القادة اليهود ليتحدَّوه. غري أنَّ هذا اللقاءَ مل يكُنْ عَرضيًّا؛ إذ<br />
سبق أن خطَّطَ هؤالء القادة كلَّ مجرياته، حتَّى إنَّ الرواية تبدأ الحديث<br />
بأنَّ الفَرِّيسيِّني ‘‘اجتَمَعوا لِيتَشاوَروا كيفَ ميُ كِنُهم أنْ يَصْ طادوا يَسوعَ بِيشَ ءٍ<br />
يَقوله’’. أرادوا أيضً ا أن يكونَ ذلك علنًا؛ فساروا نحو املسيح بينام كان<br />
يُعلِّم يف الهيكل، ورمبَّ ا تدافعوا وسطَ الحشود وقاطَعوه بينام يتكلَّم.<br />
استَهلُّوا حديثَهم بتملُّقٍ : ‘‘يا مُعلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أنَّكَ صادقٌ وَتُعلِّمُ<br />
طَريقَ الله بِكُلِّ صِ دق. وأنَّكَ ال تُجامِلُ أحَدًا، ألنَّكَ ال تَنظُرُ إىل مَقاماتِ<br />
النَّاس’’. ميكنك أن ترى ما يحاول هؤالء فعله هنا: يحاولون إجبارَ يسوعَ<br />
عىل اإلجابة عن سؤالهم بالتَّلميح إىل أنَّه مخادعٌ ومحتالٌ إنْ مل يفعل ذلك.<br />
وبعد أن هيَّأوا الجوَّ سألوه: ‘‘أخربِ نا بِرأيكَ ، أيَجوزُ أنْ تُدفَعَ الضَّ ائِبُ<br />
لِلقَيرصَ ِ أمْ ال؟’’. 10<br />
)10 متَّى .17-15 :22<br />
28
شخص استثنائيٌّ وأكثر<br />
ال بدَّ أنَّ السؤالَ تطلَّب بعضَ الوقت والتخطيط؛ فهو محبوكٌ بدقَّة.<br />
والقصد منه هو مراوغة املسيح إلنهاء تأثريه يف الجموع بطريقةٍ أو<br />
بأُخرى، ولرمبَّ ا حتَّى تعريضه لالعتقال. والكيفيَّة كاآليت: كان رأيُ أغلبِ<br />
الفَرِّيسيِّني الذي علَّموه للشعب يف تلك األيَّام ينُصُّ عىل أنَّ إبداء الكرامة<br />
للحكومة األجنبيَّة، مبا فيه دفع الضائب، هو إثم. كانوا يعتقدون أنَّ ذلك<br />
يُهني الله كذلك. فكِّرْ يف األمر: كيف أرادَ الفَرِّيسيُّون ليسوعَ أن يُجيبَ عن<br />
السؤال؟ هل بتأييدهم عَلَنًا بأنَّ دَفْعَ الضائبِ أمرٌ مُحرَّمٌ ومُهني لله أم ال؟<br />
الحقيقة هي أنَّهم مل يهتمُّوا بجوابه؛ إذْ ظنَّوا أنَّهم أوقَعوا به يف كلتا<br />
الحالتَني. فإذا أجاب املسيح قائالً : ‘‘أجل، يجوز دَفْعُ الضَّ ائب لقَيرص’’، كان<br />
الجمعُ سيغضبُ ويفقدُ املسيح تأثريه. لكنْ إذا أجاب بالقَول: ‘‘ال، ال تَدفعوا<br />
الضائب له’’، فكان سيخاطرُ بالتَّعرُّض لسَ خَط الرومان جرَّاء التحريض عىل<br />
الفتنة عَلَنًا، ورمبَّ ا كان سيُعتقَل، مامَّ كان سيُنهي تأثريه أيضً ا. يف كلتا الحالتني،<br />
هذا ما أراده الفريسيُّون: نهاية يسوع بوصفه قوَّةً ثقافيَّة مؤثِّرة. لكنَّ ما<br />
حدث هو أنَّ يسوع متلَّصَ من الفخِّ وقَلَبَ السؤالَ رأسً ا عىل عَقِب وترك<br />
سائِليه يف حَريةٍ واندهاش.<br />
ما حدث هو أنَّ يسوع املسيح طلبَ قائالً : ‘‘أرُون العُملَةَ التي<br />
تَستَخدِ مونَها’’، وبعدما أحضوا إليه دينارًا، نظرَ إليه يسوع ورفعَه عاليًا<br />
عىل مرأى من الجمع وطرحَ عليهم سؤاالً سهَّل اإلجابة: ‘‘لِمَنْ هذا الرَّسمُ<br />
وهذا االسمُ املنقوشَ ني عىل الدِّينار؟’’، فقالوا: ‘‘إنَّهُام لِلقَيرصَ ’’. وقد كانوا<br />
مُحقِّني؛ إذ كان منقوشً ا عىل تلك العُملة وجهُ طيباريوس قيرص واسمُه،<br />
صاحب دار صكِّ هذه النقود، وهي تخصُّ ه هو. ومن الواضح أنَّ الشعبَ<br />
اليهوديَّ كان ال ميانع استخدامَ هذه النقود ملنفعته الشخصيَّة. إذًا، ما املانع<br />
29
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
أالَّ يُعيدوا إىل قَيرصَ ما هو مُلكٌ له؟ لذا قال لهم يسوع: ‘‘إذًا أعطُوا القَيرصَ َ<br />
ما يَخُصُّ هُ، وَأعطُوا اللهَ ما يَخُصُّ ه’’. 11<br />
قد يبدو لنا الجواب مبارشًا وبسيطًا، أليس كذلك؟ إنَّها نقود قيرص؛<br />
لذا ادفعوا الضائب. لكنَّ الكتاب املُقدَّس يقول إنَّ الناس اندهشوا لدى<br />
سامعِهم اإلجابة. ملاذا؟ كان ذلك أوَّالً ألنَّ املسيح كان للتوِّ قد أعاد تعريفَ<br />
األسلوب الذي ينبغي فيه أن ينظرَ اليهود إىل عالقتهم بالرُّومان، كام أضعفَ<br />
يف الوقت ذاته تعاليم الفَرِّيسيِّني؛ فمهام كانت الزواية التي تنظر منها إىل<br />
املوضوع، مل يكن أن تُعيدَ إىل قيرص ما كان له أصالً مُهينًا لله بأيَّة طريقة.<br />
لكنْ كان هناك أيضً ا بُعدٌ آخر ملا قاله يسوع، وهو ما أصابَ الناسَ<br />
بالدَّهشة الحقيقيَّة. أعِدِ التَّفكريَ يف السؤال الذي طرحَه املسيح عىل<br />
الجَمع حينام أراهم الدِّينار. عندما قال يسوع: ‘‘لِمَنْ هذا الرَّسمُ...عىل<br />
الدِّينارِ؟’’، وأجابوه أنَّه لقيرص، كان ذلك الربهانَ الذي اعتمده للمُلكيَّة.<br />
كانت صورةُ قَيرص عىل العُملة، لذا فهي مُلكه، لذا عليهم أن يُعطوا<br />
لقيرص ما يخصُّ قيرص، لكن أيضً ا- وهنا نجد املِفتاح- أن يُعطوا لله ما<br />
يخصُّ الله. أيْ أنَّهم ينبغي أن يُعطوا لله ما يحمل صورتَه املوسومة عليه.<br />
وما املقصود بهذا؟<br />
كلُّ الجمع عَلِموا ما ذاك فورًا. كان املسيح يُشري إىل سفر التكوين<br />
27-26، 1: حينام أعلنَ الله عن مشيئته يف خَلق البرشيَّة، فقال: ‘‘لِنَخلِقِ<br />
النَّاسَ عىل صُ ورَتنا وكَمِثالِنا...فخلَقَ الله النَّاسَ عىل صُ ورَتِه. عىل صورَتِه<br />
خَلَقَهُم ذَكَرًا وَأُنثى’’. أترى املقصود؟ كان يسوع يخاطبُ الناسَ مبا هو<br />
)11 متَّى .21-19 :22<br />
30
شخص استثنائيٌّ وأكثر<br />
أعمَقُ من فلسفةٍ سياسيَّة. كان يقول إنَّه كام تحمل العملةُ صورةَ قيرص،<br />
كذلك يعكس جوهرُ كيانِنا صِ فات الله؛ لذا نحنُ خاصَّ ته ومُلكٌ له! أجل،<br />
يُعطى يشءٌ من الكرامة لقيرص حينام يعرتفون بصورته عىل النَّقد ويُعيدون<br />
إليه ما يخصُّ ه، لكنَّ كلَّ الكرامة تُرفَع لله حينام نعرتف نحن بصفاته التي<br />
نحملُها ونعطيه ذواتنا، حينام نعطيه قلوبَنا ونفوسَ نا وفِكرَنا وقوَّتنا.<br />
أمتنَّى أن تُدرك ما كان يقولُه يسوع ملستمعيه. فاألهمُّ من أيِّ جَدَلٍ<br />
فلسفيٍّ وسيايسٍّ أو عالقة األفراد ببلدٍ آخر هو السؤال الذي يخاطِ بُ<br />
عالقةَ األفراد بالله. كان املسيح يُعلِّم أنَّنا جميعًا خليقة الله، وأنَّك أنت<br />
فعالً خليقة الله. خلقك الله عىل صورته ومثاله، ولذا أنت مُلكه وميكنُه<br />
أن يطلبَ منك تقديمَ حِ سابِك. فكان ما قالَه يسوعُ املسيح يحثُّك عىل أن<br />
تُعطيَ لله ما يخصُّ ه: ليس أقلَّ من حياتك كلِّها.<br />
لم يقُ م أحدٌ بأمرٍ مماثل<br />
ال عجب إذًا أنَّ الناس دُهِشوا من تعاليم املسيح. ففي عباراتٍ قليلة<br />
متكَّن من اإلطاحة مبَن تحدَّوه، وأعادَ تعريفَ النظرة السائدةِ إىل املعتقَدِ<br />
السيايسِّ املعارص آنذاك. ويف الوقت ذاته، متكَّنَ من الغَوصِ يف عُمقِ إحدى<br />
أكربِ حقائق الوجود البرشيِّ جوهريَّةً. كانت لتَعليمٍ كهذا القدرةُ عىل<br />
اجتِذابِ حُشودٍ بأكمَلِها!<br />
من جهةٍ أخرى، كانَتِ املعجزات حارضةً أيضً ا؛ إذ رأى آالفُ الناس<br />
بأنفسهم املسيحَ يُجري أعامالً ال ميكن للبرش القيام بها: شفى السُّ قامء،<br />
وحوَّلَ املاء إىل عصري عنبٍ فاخر، وأقامَ العُرجَ بكلمة، وأعادَ الرُّشدَ إىل مَن<br />
حُسِ بوا مجانني دون رجاء، حتَّى إنَّه أقامَ املوىت معيدًا إليهم الحياة.<br />
31
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
مل يكن الناس آنذاك سُ ذَّجًا يف التعامُل مع هذه األمور. أجل، هم عاشوا<br />
قبل زمنٍ بعيد، لكنَّ هذا ال يعني أنَّهم كانوا رَجعيِّني أو أغبياء. مل يكن<br />
الناس يدَّعون حصولَ املعجزات كلَّ يومٍ ، لذا نجدُ الكتاب املقدَّس يخربنا<br />
نصًّ ا تلوَ اآلخر عن أُناسٍ اعرتتهم الدَّهشة لدى وقوع هذه املعجزات. كان<br />
الحشود مدهوشني لدى رؤية املسيح يقوم بهذه األمور! وفضالً عن هذا،<br />
كان يهود القرن األوَّل قد صاروا بارِعني يف متييز السَّ حَرةِ والدجَّالني؛ ألنَّ<br />
كثريين حاوَلوا إشهارَ أنفسهم بوصفهم معلِّمني دينيِّني. كان اليهود آنذاك<br />
قد متكَّنوا من فَضْ ح خِ داع السَّ حرة مرارًا عدَّة، والضَّ حك هازئني بكلِّ رجلٍ<br />
يحاول إبهارهم بخدعةٍ برصيَّةٍ رخيصة يدَّعي أنَّها ‘‘معجزة’’. لذا فآخر ما<br />
ميكنك أن تظنَّه هو أنَّهم سُ ذَّج.<br />
غري أنَّ يسوع املسيح أدهشَ هم، فكان خالفًا لآلخرين إنسانًا استثنائيًّا.<br />
كان اآلخرون يُخرِجون أرانب من القبَّعات، أمَّا املسيح فقد شفى املئات،<br />
حتَّى إنَّه تعبَ جسديًّا ونام. أخذ يسوع سمكتَني وخمسةَ أرغفة خبز وأعدَّ<br />
وجبةً لخمسة آالفٍ رجلٍ صاروا بعد ذلك شهودًا لذلك الحدث. وأيضً ا وقفَ<br />
املسيح إىل جانب رجلٍ كسيح لسنوات وأمره بالوُقوف وامليش، وهذا ما كان<br />
فعالً . وقف يسوع كذلك يف مقدَّم قاربٍ وأمرَ البحرَ الهائج بالهدوء- وهذا<br />
ما حدث. وقف املسيح أيضً ا أمام قرب رجلٍ كان قد تُويفِّ قبل أربعة أيَّامٍ<br />
ودعاه ليخرجَ من القرب، فسمعَ الرجُلُ ذلك، وقام ومىش خارجًا من القرب. 12<br />
مل يقم أحدٌ بكلِّ هذا قَطّ .<br />
وكان الناس مدهوشني.<br />
)12 متَّى ،27-24 :8 ،7-6 :9 21-13؛ :14 يوحنَّا .43 :11<br />
32
شخص استثنائيٌّ وأكثر<br />
هذا كلُّه لسبب<br />
ومع هذا كلِّه، هناك املزيد. فإنْ أعرْتَ انتباهَك بحقّ ؛ وتجاوَزْتَ الدَّهشة<br />
الحاصلة، ورحْتَ تسأل عامَّ هو أعمق وعن السبب وراء إجراء املسيح كلَّ<br />
هذه األمور، ستجد أنَّ كلَّ هذا كان لسببٍ معنيَّ .<br />
الحقيقة هي أنَّ املسيح كان- يف كلِّ معجزةٍ أجراها ويف كلِّ عظةٍ<br />
ألقاها- يرصِّح ويدعَمُ ترصيحاتٍ أدىل بها عن نفسه، ومل يسبِقْ إلنسانٍ<br />
آخرَ أن أدىل بها. خُذ مثالً املوعِظة عىل الجبل يف متَّى 7-5، وهي تُعدُّ أشهَرَ<br />
عِظات املسيح. قد تبدو هذه العِظة أوَّلَ وَهلةٍ درسً ا أخالقيًّا ال يختلف<br />
عن سواه من جهة الحضِّ عىل العمل الصالح وتجنُّب السيِّئات: ال تَحلِفوا،<br />
وال تَزْنوا، وال تَشْ تَهوا، وال تَغْضبوا. لكنْ إنْ أمعنْتَ يف النظر جيِّدًا ستجدُ أنَّ<br />
‘‘كيفيَّة الترصُّف’’ ليسَ تِ البتَّة الهدفَ الرئييسَّ من العِظة، بل كان الهدفُ<br />
هو ادِّعاءً جريئًا من املسيح بامتالكه الحقَّ بتفسري الرشَّ يعةِ التي أعطاهم<br />
إيَّاها الله للنبيِّ موىس، وأنَّ له الحقَّ يف إعطاء معناها وسبب وجودها<br />
أصالً ! لذا نجدُ املسيح يقولُ مرَّة تلوَ مرَّة يف هذه املوعِظة: ‘‘سَ مِعْتُمْ أنَّه<br />
قِيلَ ...أمَّا أنا فَأقولُ لَكُم...’’. 13 وبالتشديد عىل الضمري أنا؛ يُقرُّ يسوعُ إقرارًا<br />
جسورًا بأنَّه املرشِّ ع صاحب األحقيَّة لبني إرسائيل. وفضالً عن هذا، الحظ<br />
أين أطلقَ هذا اإلعالن: أطلقَه يف أعىل جبلٍ ، مامَّ كان سيُعيدُ إىل ذاكرة كلِّ<br />
يهوديٍّ حينها ملَّا أعطى املرشِّ عُ العظيم الله شعبَه رشيعةَ العهد القديم<br />
مبخاطبته إيَّاهم من أعىل جبلٍ ! أالحظت املقصود؟ كان يسوعُ يَنسِ ب إىل<br />
نفسه الحقَّ بسلطةٍ أخَّاذة ال يجرؤُ أحدٌ عىل املطالَبة بها.<br />
33<br />
)13 متَّى .44-21 :5
عالوةً عىل ذلك، فلننظُرْ إىل ما قالَه ملرثا أمامَ قربِ أخيها امليِّت: ‘‘سَ يَقُومُ<br />
أخوكِ مِنَ املوت’’. وعىل ما يبدو من إجابتها، كانت مرثا شاكرةً لهذا التَّذكري:<br />
‘‘أنا أعرِفُ أنَّه سَ يَقومُ من املوتِ يف القِيامة، يف اليَوم األخري’’. وبكلامتٍ<br />
أُخرى: نعم، نعم، أعرِف. أشكرك عىل تعاطفك معي. هذه تعزيةٌ عظيمة<br />
يل. لكنَّها مل تدركْ ما قصده يسوع املسيح آنذاك. رمبَّ ا كانت لتُصدمَ جدًّا إنْ<br />
أخربَها يسوع مبارشةً: ال، أقصد أنَّه سيقوم بعدَ دقائق قليلة، حينام آمره<br />
بذلك. لكنَّ ما قاله كان أكرثَ جهارًا: ‘‘أنا هُوَ القِيامَةُ وَالحَياةُ’’. 14 ال متضِ قُدُ مًا<br />
ويَفُتْك هذا! مل يكُنْ الردُّ: ميكنني إعطاء الحياة. بل كان: أنا هو الحياة!<br />
لنَكُنْ صادقني! أيُّ رجلٍ مَن يقول أمورًا كهذه؟ أيُّ رجلٍ مَن يقول له<br />
صاحبه بإجاللٍ: ‘‘أنتَ هُوَ املَسِ يحُ ، ابْنُ اللهِ الحَيّ ’’، فيجيبه مؤيِّدًا بأنَّ الله<br />
هو مَن كشفَ له هذه الحقيقة؟ أيُّ رجلٍ مَن يسأله قادة األُمَّة: ‘‘أُناشِ دُكَ<br />
بِاسْ مِ اللهِ الحَيِّ أنْ تُخربِ نا إنْ كُنتَ أنتَ املسيحَ ابْنَ الله’’، فيجيبهم بقوله:<br />
‘‘نَعَم أنا هُو كَام قُلْتَ . وَأقُولُ لَكُمْ: منَ اليَومِ فَصاعِدًا، سَ رتَ َونَ ابْنَ اإلنسانِ<br />
جالِسً ا عَنْ ميَ ِنيِ عَرْشِ اللهِ، وَآتِيًا عىل سُ حُبِ السَّ امء’’. 15<br />
دون شكّ ، ليسَ رجالً عاديًّا، وليس رجالً يريد التميُّز بصفةِ معلِّمٍ<br />
عظيم، أو إنسانًا يطلبُ التكريمَ بوصفه صالحًا، كام ليس إنسانًا يسعى<br />
ألنْ يذكِّرَ بأنَّه فيلسوفٌ مؤثِّر. بل مَن يقولُ عن نفسه هذه الصِّ يَغ ينسبُ<br />
إىل نفسه أمرًا أكرث بهاءً وعَظَمةً وعُمقًا من كلِّ ما ذُكِر توًّا. وهذا بالتَّحديد<br />
ما قام به يسوعُ، عىل األقلِّ ملن أعاروه االنتباه.<br />
كان يسوعُ يرصِّح بكَونه ملك اليهود، والبرشيَّة جمعاء.<br />
)14 اقرأ يوحنَّا .25-23 :11<br />
)15 اقرأ متَّى ،17-16 :16 .64-63 :26
الفصل 3<br />
ملكُ إسرائيلَ وملكُ الملوك<br />
تذمَّر امللك هرني الرابع يف كتابات وليَم شكسبري )عام 1597م( حول<br />
واجباته امللَكيَّة قائالً برثاء: ‘‘ترى كم ألفًا من أفقر رعاياي نامئون يف هذه<br />
الساعة؟’’ ، 1 كام تعجَّب عن السبب الذي يجعَلُ النومَ يفضِّ ل السُّ كنى<br />
يف أكواخ الفُقَراء اآليِلَة للسُّ قوط عىل السُّ كنى يف قصور امللك، وتساءَلَ<br />
كيف ميكن أن يقدِّم النَّومُ عطيَّةَ الراحة لفتى البحر املبلَّل الذي تتقاذفُه<br />
األمواجُ من ناحيةٍ إىل أُخرى وهو ممدَّد يف السَّ فينة، عىل أن يقدِّمها<br />
للملك يف مكان راحتِه الساكن؛ فيرصخ مجدَّدًا: ‘‘ما أشقى الرأسَ الذي<br />
يلبس التاج!’’. 2<br />
مشهدٌ أخَّاذ يصفه شكسبري إذ يُظهِرُ سخريةً عميقة. فامللوك ينبغي<br />
أن يحظَوا بكلِّ يشء؛ فهُم أغنياءٌ وذوو سلطة، ولديهم جيوشٌ تحميهم<br />
وقصورٌ تأويهم وخدَمٌ يلبُّون أهواءهم. مَن ال يريد كلَّ هذا؟ لكن إن كانت<br />
لك درايةٌ بالتَّاريخ، فستَعرفُ أنَّ امللك هرني كان محقًّا. فامللكيَّة ال تحظى<br />
دامئًا بحياةٍ من الرتَّ ف والرخاء املتواصل، إذ ال بدَّ أن تحملَ معها شيئًا من<br />
1( وليَم شكسبري، امللك هرني الرابع، الجزء الثان، الفصل الثالث، املشهد األوَّل.<br />
2( املرجع السابق نفسه.<br />
35
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
القلق والخوف، بل حتَّى الرُّهاب أحيانًا. فالذي نالَ التاج، يحتاجُ الحقًا<br />
ألن يحافظَ عليه، وقد أدرك عددٌ من امللوك عرب التاريخ صعوبةَ هذا األمر<br />
وخطورته، لكن بعدَ فَواتِ األوان!<br />
وفوق كلِّ هذا، أظنُّ أنَّه ميكننا القَول إنَّ هناك شخصً ا آخرَ رأسُ ه أشقى<br />
من امللك الالَّ بس التاج، وهو اإلنسانُ الذي يطالبُ باالعرتاف به ملكًا حينام<br />
ال مييِّزُ ذلك أيُّ شخصٍ آخر. وقد أثبتَ التاريخ قسوَتَه عىل هؤالء الذين<br />
يطالبون مبَلَكيَّة ال ميلكونَها بعد. أجل! احتامل الفوز واعتالء العرش واردٌ،<br />
لكنَّ عاقِبة الفشل وخيمة؛ فإذا فشلتَ بوصفك ملكًا مُحتَمَالً ، فال يَسعُك أن<br />
تقولَ ‘‘آسف’’ ومتيض قُدمًا يف حياتك. إذ من املحتمل أن ينتهي بك املطاف<br />
بفقدان ذاك الرأس الذي أردتَ أن تضعَ عليه التاج يف بداية األمر!<br />
أحد األمور الالفتة يف حياة يسوع هو حقيقة الصِّ دام املحتَدِ م بينه<br />
وبني السُّ لطات يف زمانه. كان املسيح نجَّارًا فقريًا من بلدةٍ ريفيَّة مُهمَّشة<br />
يف الشامل، أصبح يف خالفٍ ليس فقط مع قادة شعبه، بل مع قادة<br />
السلطات الرومانيَّة التي كانت تبسطُ سيطرتَها عىل املنطقة. فمن شأن<br />
هذا أن يوحي لنا بأنَّ الذي أمامنا ليس مجرَّد معلِّمٍ دينيٍّ له من الحِ كَم<br />
اللَّطيفة قليلٌ عن الحياة وكيفيَّة العيش فيها، ولسنا أيضً ا بصَ دَد التَّعامُل<br />
مع فَيلسوفٍ أو حكيمٍ باألخالق. كالَّ ! فبينام عُلِّق يسوعُ ليموتَ مُهانًا عىل<br />
صليبٍ رومانّ، كانت التُّهمة التي علَّقها الرُّومان فوق رأسه ساخرين به<br />
وبالشعب املظلوم كلِّه: ‘‘يَسوعُ، مَلِكُ اليَهود’’. 3<br />
ليست قصَّ ةُ يسوعَ قصَّ ةَ رجلٍ صالح؛ بل هي قصَّ ةُ املطالَبة بالعرش.<br />
)3 متَّى .37 :27<br />
36
ملك إسرائيل وملك الملوك<br />
عرشُ إسرائيل لن يظلَّ فارغً ا<br />
بدأ يسوع خدمته العلنيَّة بحسب الكتاب املقدَّس يومَ عُمِّد يف نهر األردن<br />
عىل يد رجلٍ يُدعى يوحنَّا املعمدان.<br />
كان يوحنا يعِظُ الناس ألشهُر بحاجتهم إىل التَّوبة عن خطاياهم<br />
)ويعني ذلك ببساطةٍ االلتفاف واالبتعاد عنها( ألنَّ مملكة الله- وهي<br />
سيادة الله عىل األرض- كانت قد اقرتَ َبت، بحسب ما وعظ يوحنَّا. 4 وهذا<br />
ألنَّ امللكَ املختارَ من الله كان سيظهر عن قريب، والناس يف أمَسِّ الحاجة<br />
إىل إعداد أنفسهم ملجيئه.<br />
وكعالمة عىل توبتهم، سألَ يوحنَّا الجموعَ أن يُغطِّسوا أنفسهم مبياه<br />
النهر رمزًا إىل تنقِيَتهم من الخطايا واإلثم. وحقيقة أنَّ يسوع عُمِّد بهذه<br />
الطريقة حافلةٌ بالدَّالالت املهمَّة الخاصَّ ة مبعموديَّته هو خالفًا للباقني،<br />
والذي سنتحدَّث بشأنه الحقًا. أمَّا اآلن فيكفينا مالحظةُ أنَّ يوحنَّا ملَّا رأى<br />
يسوعَ مُقبِالً إليه آمن فورًا بأنَّه مَن كان يَعِظُ عنه طَوال الوقت املايض،<br />
ثمَّ قال: ‘‘هَذا هُوَ الذي قُلتُ عنه: »يَأيت بَعدي رَجُلٌ أعظَمُ منِّي، ألنَّه كانَ<br />
قَبيل«’’. 5<br />
إليك املقصود: عَلِمَ يوحنَّا أنَّ الله يريد تأسيسَ مملكته عىل األرض،<br />
وكان هذا أساسَ رسالة يوحنَّا، ثمَّ أشار إىل املسيح يسوع بِكَونه ملكَ هذه<br />
اململكة. وما يجعل األمرَ غايةً يف األهمِّيَّة هو ما أفاد به يسوع نفسه؛<br />
فهذا مل يكن مجرَّد قناعةٍ لدى يوحنَّا وحده، إذ أفادَ يسوع أنَّ يوحنَّا كان<br />
37<br />
)4 متَّى .2 :3<br />
)5 يوحنَّا .30-29 :1
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
38<br />
آخر أنبياء العهد القديم، ونهاية سلسلة من الرجال دامت قرونًا عدَّة<br />
كانت غايتُهم العُظمى تثبيت عيون األُمَّة عىل امللك الحقيقيِّ الوحيد<br />
الذي سريسله الله أخريًا ليخلِّصَ هم من خطاياهم. وما كان إعالن يوحنَّا<br />
سوى أنَّ اللحظة حانت، وامللك أىت.<br />
رمبَّ ا سمعتَ مبا حدث بعد ذلك. يقول الكتاب املقدَّس إنَّه حاملا<br />
صعدَ يسوع من مياه النهر عَقِب معموديَّته ‘‘َرَأى رُوحَ الله يَنزِلُ عىل<br />
هَيئةِ حَاممَةٍ وَيَستَقرُّ عليه. وجاءَ صَ وتٌ من السَّ امء يَقولُ : "أنتَ هُوَ ابني<br />
املحبوبُ . أنا راضٍ عَنكَ كلَّ الرِّضا"’’. 6 فضالً عن نزول روح الله عىل هيئة<br />
حاممة والصوت السامويِّ الذي علِمَ الجميع أنَّه صوت الله، كانت األهمِّيَّة<br />
العُظمى تكمن يف ما قاله الصوت. كالعادة، تحمل كلُّ كلمة يف الكتاب<br />
املقدَّس معنًى هائالً ، وأحيانًا أوجهًا عِدَّة للمعنى نفسه. لكنَّ ما يربز لدينا<br />
اآلن هو ما تحمله العبارة ‘‘أنتَ هُوَ ابني املحبوب’’؛ فالله توَّجَ فيها يسوع<br />
بتاج إرسائيل، أي أنَّ يسوع املسيح كان ينصَّ بُ رسميًّا بوصفه ملك اليهود.<br />
كيف نعرف هذا؟ اشتُهرت العبارة ‘‘ابن الله’’ بوصفها لقبَ ملك<br />
اليهود طَوال أيَّام العهد القديم. وتعود جذور هذه العبارة إىل خروج بني<br />
إرسائيل من أرض العبوديَّة يف مرص؛ فعندما سمع الله دعوات النَّجاة من<br />
املرصيَّني، هدَّدَ فِرعَونُ مرص قائالً : ‘‘إرسائِيلُ ابنِي البِكرُ، وَأنا أقولُ لَكَ : أطلِقِ<br />
ابنيَ لِيَعبُدَن’’ . 7 كان هذا إعالنٌ عن محبَّة شديدة ومُميِّزة لبني إرسائيل،<br />
نوهِ إىل انفصالهم واختالفهم عن باقي أمَم العامل. كان الله يُعلِّم فرعون أنَّه<br />
تعاىل سيصارع من أجل بني إرسائيل ألنَّه يحبُّهم؛ فَهُم كانوا ابنه.<br />
)6 متَّى .17-16 :3<br />
)7 خروج .23-22 :4
ملك إسرائيل وملك الملوك<br />
وبعد أعوامٍ ، أُطلق هذا اللقب ‘‘ابن الله’’ عىل ملك إرسائيل. قال<br />
الله عن داوُد امللك العظيم ووارثيه: ‘‘سَ أكُونُ أباه، وَهُوَ سَ يَكونُ ابني’’. 8<br />
اإليحاء الرمزيُّ مُهمٌّ جدًّا: دُعِيَ ملك اليهود بلقبِ ‘‘ابن الله’’-مثلام دُعِيَتِ<br />
األُمَّة- لسبب متثيله األُمَّة جمعاء يف ذاته؛ فهو مُمثِّلهم الرشعيُّ أمام الله،<br />
حتَّى إنَّ ما يحصل له بوصفه نائبًا عن األُمَّة ميُ ثِّل ما يحصل لألمَّة جمعاء.<br />
يف هذه الناحية من التشبيه يُجسِّ د امللكُ بني إرسائيل.<br />
يساعدنا هذا عىل فهم األهميَّة املُدهشة ملا قاله الله لحظة معموديَّة<br />
يسوع. أجل، كان يصف عالقة األب واالبن الكامنة منذ األزل بينه وبني<br />
يسوع )وسنتوسَّ ع يف الحديث عن هذا الحقًا(، إالَّ أنَّه تعاىل كان يُعلن بأنَّ<br />
يسوعَ كان يُخوَّل رسميًّا مبَهمَّة متثيل بني إرسائيل لكَونه ملكَهم. من تلك<br />
اللحظة فصاعدًا، سيمثُل يسوع أمام العيلِّ بوصفه نائبًا ومُمثِّالً رشعيًّا، بل<br />
حتَّى بوصفه بطالً لشعبه.<br />
كان يسوع يعلم منذ البداية أحقيَّته مبنصب امللك. ورُغم أنَّه غالبًا<br />
ما أمر الناس بالتكتُّم عىل هذه الحقيقة، بل إنَّه رفضَ يف أحد املواقف<br />
محاوَلة الجموع تنصيبه ملكًا- فإنَّ هذا مل يكن رَفضً ا للمَنصب، بل كانَ<br />
علامً منه أنَّه سيكون ملكًا مختلفًا عامَّ أراده الناس وتوقَّعوه. أراد الظَّفَرَ<br />
بالتَّاج برشوطه التي وضعها هو، ال بالرشوط الثَّوريَّة الخاطئة التى<br />
أرادَها الناس.<br />
ويف الحقيقة، قَبِل يسوعُ برسور تحيَّة الناس له كملك يف الوقت الذي<br />
أدرك فيه الناس فعالً مَن كانوا يحيُّون. يَرِدُ يف متَّى 16 ذِكرُ لَيلةٍ سأل فيها<br />
39<br />
)8 صموئيل الثان .14 :7
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
يسوع أقربَ أتباعه، بعد مواجهةٍ أخرى مع قادة الشعب، عامَّ يقول الجمع<br />
إنَّه هو. وكانت هناك العديد من اآلراء التي أخربه بها أتباعه: ‘‘بعضُ هُم<br />
يَقولُ إنَّكَ يُوحنَّا املعمدانُ ، وَآخَرُونَ إنَّكَ إيلِيَّا، وَآخَرونَ إنَّكَ إرمِيا، أو نَبِيٌّ<br />
كَباقِي األنبِياء’’. يتَّضح أنَّ يسوع كان مُدهشً ا جدًّا حتَّى إنَّ الناس ظنُّوا أن<br />
ال بُدَّ أن يكونَ أحَدَ األنبياء وبُعث إىل الحياة! لكنْ مهام ظنَّ الناس، كان<br />
املسيح أكرث اهتاممًا مبا ظنَّه تالميذه هو، لذا سألهم: ‘‘وَأنتُم، مَن أنا يف<br />
رَأيِكُم؟’’. سلَّط هذا السؤال األضواء عليهم، فكان رجلٌ يُدعى سمعان أوَّل<br />
مَن أجاب قائالً : ‘‘أنتَ هُوَ املسيحُ ، ابنُ الله الحيّ ’’.<br />
ومع أنِّ أرى أنَّ سمعان عنى بقَوله أكرث من هذا، فإنَّه كان عىل<br />
األقلِّ يُحيِّي يسوع بوصفه ملك األمَّة: أنت هو املمسوح )هذا ما عنته<br />
كلمة املسيح يف اللغة اليونانيَّة( ابن الله وامللك! وماذا كان ردُّ املسيح؟<br />
ما كان منه إالَّ أنَّه قَبِل التحيَّة امللوكيَّة، وقال فَرحًا: ‘‘هَنِيئًا لَكَ يا سِ معانُ<br />
بنَ يُونا، ألنَّ مَن أعلَنَ لَكَ ذَلِكَ لَيسَ إنسانٌ ، بَل هُوَ أيب الَّذي يف السَّ امءِ’’.<br />
كان سمعان- والذي أسامه يسوعُ بطرسَ - قد أدرك ما كان يسوع يعلِّمه<br />
مسبَّقًا عن نفسه، وهو كونه ملك إرسائيل الرشعيّ . 9<br />
ويَرِد يف إنجيل لوقا 19 حدثٌ آخر أعلن فيه يسوع بصورةٍ دراميَّة<br />
وعلنيَّة عن حقِّه باملَلكيَّة، قبل أسبوع فقط من موته عىل الصليب حيث<br />
كان وتالميذه يف طريقهم إىل أورشليم )القُدس( لحضور عيد الفصح. ومن<br />
املُحتمَل أنَّ مئات اآلالف من الناس كانوا يشقُّون طريقَهم إىل املدينة ذلك<br />
األسبوع، إذ إنَّه أهمُّ أعيادِ السنة اليهوديَّة.<br />
)9 متَّى .20-13 :16<br />
40
وبينام كانوا يقرتبون من املدينة، أرسَ لَ يسوع بعضً ا من تالميذه إىل<br />
قريةٍ صغريةٍ تُدعى بيت فاجي، وأمرهم بإحضار أتان )أنثى حامر( مُعَدٍّ<br />
لهم. يقول الكتاب املقدَّس إنَّ يسوع امتَطى األتان وذهب يف مسريةٍ<br />
قصريةٍ من بيت فاجي إىل أورشليم )القدس( بينام تبعه حشدٌ كبري من<br />
الناس. وإليك ما حدث بعدها:<br />
‘‘وَاقرتَ َبَ من مُنحَدَر جَبَل الزَّيتُون. حينَئذٍ ابتَدَأت حُشُ ودُ<br />
أتباعه كُلُّهم يُسبِّحونَ اللهَ بفَرَحٍ بأصواتٍ عاليَةٍ من أجل<br />
كلِّ املُعجزات التي رَأوها. فَسبَّحُوا وقالوا: »مُبارَكٌ امللكُ<br />
الذي يَأيت بِاسْ م الرَّبِّ ! يف السَّ امء سَ المٌ، وَاملجدُ لله يف<br />
األعايل!«’’. 10<br />
‘‘وكانَ مُعظَمُ النَّاس يَفرِشونَ أردِيَتَهُم عَىل الطَّرِيق. ولكنَّ<br />
آخَرينَ قَطَعوا أغصانًا من األشجارِ وَفَرَشوها عىل الطَّريق.<br />
وَجُموعُ النَّاس الذينَ كانوا يَسريونَ أمامَه وَخَلفَه كانوا<br />
يَهتِفونَ : »يَعيشُ املَلكُ ! يَعيشُ ابنُ داوُدَ. مُبارَكٌ هُوَ اآليتِ<br />
بِاسمِ الرَّبّ . يَعيشُ املَلِكُ يفِ عُاله«’’. 11<br />
ميتلئ هذا املشهد بالدَّالالت بالغة األهمِّيَّة. مل يكُنِ الناس فقط<br />
يلوِّحون باألغصان ويفرشون أرديَتَهم عىل الطريق أمام يسوع كأسلوبٍ<br />
رمزيٍّ ومُعتاد للخضوع للملوك، بل كانوا أيضً ا يدعونه ملكًا ويهتِفون<br />
بكَونه وارث داوُد! وفوق هذا، كانوا يقتبسون أنشودةً قدمية اعتادَ الناس<br />
41<br />
)10 لوقا .38-37 :19<br />
)11 متَّى .9-8 :21<br />
ملك إسرائيل وملك الملوك
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
إنشادَها مللكِهِم حينام كان يقرتب من الهيكل لتقريب ذبيحة. 12<br />
كان املشهد كلُّه مَوضعًا للفُرجة، وقصد يسوع من هذا جذب<br />
االنتباه. ارتاع بعضٌ من الفريسيِّني وتذمَّروا ليسوع بعد أن سمعوا هتافَ<br />
الجمع وما كان يُقال، فأَعرَبوا عن ذلك قائلني: ‘‘يا مُعَلِّمُ، وَبِّخ تَالميذَك!’’.<br />
هل أدركتَ ما كان مسؤولو الهيكل هؤالء يفعَلون؟ كانوا يريدون تأييد<br />
املسيح لهم بأنَّ هتافاتِ الشعب امللَكيَّة مل تكُنْ مناسبة، أي أنَّهم أرادوا<br />
منه رَفْضَ امللَكيَّة. لكنَّ املسيحَ أىب ذلك وقال: ‘‘أقُولُ لَكُمُ الحقَّ ، إنْ سَ كَتوا<br />
هُم، فَسَ تَرصُخُ الحِ جارة!’’. 13 ال مجال للتَّأخري، كان الوقت قد حان لتتحقَّقَ<br />
النبوَّة بوُصول امللك إىل عاصمته عىل ظَهْرِ أتان.<br />
مل يَعُدْ عرشُ إرسائيل فارغًا كام كان منذ أكرث من ستِّ مئة سنة، بل<br />
صار يعرفُ مَلِكَه.<br />
ملكٌ حقيقيٌّ على عرشٍ<br />
42<br />
حقيقيٍّ ذي تاريخ حقيقيّ<br />
يصعبُ علينا اليوم استيعاب الداللة الواضحة ملا كان يحصل عند دخول<br />
يسوع أورشليم )القدس( ممتطيًا األتان يف ذلك اليوم. ميكن أن نفرتضَ<br />
أنَّ الناسَ الذين تدافَعوا حوايلَ املسيح كانوا يأدُّون شيئًا يشبه مرسحيَّة<br />
دينيَّة صاخبة، كانت ستُنىس فورَ أن عادوا إىل صوابهم وقصدوا بيوتَهم.<br />
إالَّ أنَّ هؤالء مل يكونوا يهتفون مبُلكٍ حقيقيٍّ سيجلس عىل عرشٍ حقيقيٍّ<br />
له تاريخٌ حقيقيّ .<br />
مل يحظَ بنو إرسائيل دَومًا مبَلك. ففي بداية تاريخهم؛ وبينام<br />
)12 مزمور .26 :118<br />
)13 لوقا .40-39 :19
كان الشعب مجرَّدَ عائلةٍ ممتدَّة، كان يقودهم ساللة من اآلباء ومن<br />
ثمَّ سلسة طويلة من األنبياء والقضاة أقامَهم الله ليحكُموا الشعبَ<br />
ويحموه. غري أنَّ بني إرسائيل سألوا النبيَّ صموئيل قائدَهم أخريًا أن<br />
ميسحَ لهم ملكًا. ورغمَ أنَّ صموئيل اعرتض وحذَّرهم من اإلساءات التي<br />
قد ميارسها امللك مُستغالًّ السلطة، فإنَّهم أرصُّوا، وهكذا مسحَ صموئيل<br />
ملكًا عليهم. وصلت الساللة امللكيَّة إىل أوجِها يف أثناء حُكم امللك داوُد؛<br />
فتًى راعٍ من قرية بيت لحم اختارَه الله )مُسبِّبًا دهشةً للنَّاس( ليحكُمَ<br />
الشعب. حينها بدأ نجمُ داوُد بالسُّ طوع تحت برَكة القدير وإرشاده، إىل<br />
أنِ اعتَىل الحُكمَ نحو عام 1000 ق. م، حيث وحَّد أسباطَ بني إرسائيل<br />
االثني عرش تحت تاجٍ واحد، وأخضعَ أعداء األُمَّة، واستَوىل عىل أورشليم<br />
)القدس( وجعلها عاصمةَ اململكة. وفوق كلِّ هذا، وعده الله بأن يُثبِّت<br />
ساللتَه املالكة إىل األبد.<br />
يُعرَفُ داوُد بأنَّه أعظَمُ ملوك اليهود، حتَّى إنَّ املنصب نفسه دُعي<br />
‘‘بامللكيَّة الداوُديَّة’’، وعرشُ ه ‘‘بالكُريسِّ الداوديّ ’’. أمَّا داوُد نفسه فكان<br />
محاربًا مِقدامًا وعازفًا موهوبًا وحكيامً ، كام كان شاعرًا. كتب داوُد<br />
أكرث من نِصف األناشيد التي يحتويها كتاب املزامري، كام يُعرَفُ بأنَّه<br />
مثالٌ لإلميان والربِّ. مل يكن داوُد كامالً - حاشا!- إالَّ أنَّه أحبَّ الله حُبًّا<br />
جامًّ ، وأحسَّ بعُمق ذنبه وعوَزه، وآمن بصدقٍ برحمة العيلِّ مبغفرة<br />
خطاياه. ويذكُرُ الكتاب املقدَّس أنَّ الله وصفَ داود بأنَّه ‘‘رَجُل كَام<br />
يُريده قَلبُه’’. 14<br />
وبعدما تُوُيفِّ داوُد نحو عام 970 ق. م، خلفَه عىل العرش ابنه سُ لَيامن،<br />
43<br />
)14 1صموئيل .14 :13<br />
ملك إسرائيل وملك الملوك
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
44<br />
حيث كان مُلكُه أعظم شأنًا من ذلك الذي ألبيه من عدَّة نواحٍ، ال سيَّام<br />
يف بدايات الحُكم. فقد ازدادت عَظَمة اململكة وغناها وتأثريها وصوالً إىل<br />
عرصها الذهبيّ . غري أنَّ الساللة امللكيَّة آلتْ إىل الفَوىض مبوت سليامن بعد<br />
أن حَكم ألربعني عامًا. وقَسَ مَت حربٌ أهليَّة اململكةَ قسمَني: مملكة إرسائيل<br />
)الشامليَّة(، ومملكة يهوذا )الجنوبيَّة(، حيث شَ هِدَ الشعبان يف القرون<br />
الالحقة انحطاطًا مروِّعًا للمُلوك يف عبادة األوثان والرشِّ الفظيع، حتَّى إنَّ<br />
امللك آحاز، من اململكة الشامليَّة، ضحَّى بابنه إللهٍ وثنيٍّ بحرقه حيًّا بالنَّار.<br />
ويف غضون كلِّ هذا، واصل الله إرسال أنبياء لتحذير إرسائيل ويهوذا<br />
وحثِّهم عىل ترك خطاياهم والعودة إىل طاعته، وإنْ فعلوا هذا كان الله<br />
سيغفر لهم ويُعيد بناءَ أُمَّتهم، وإالَّ كانت ستَحلُّ عليهم الدينونة، ويطالهم<br />
املوت. لكنَّ أيًّا من الشعَبني مل يتُب، مامَّ أدَّى إىل تعرُّض اململكة الشامليَّة<br />
لغزو اإلمرباطوريَّة األشوريَّة الفتَّاكة نحو سنة 700 ق. م، ووُقوع أهلها يف<br />
السبي وتعرُّضهم للتَّهجري. أمَّا مملكة يهوذا الجنوبيَّة فقد نجت ألكرث من<br />
مئة عام، إىل أن أىت نبوخذنرصَّ البابيلُّ واجتاحَها سنة 586 ق. م، ودمَّر<br />
أورشليم )القدس( والهيكل وسبى أهلها إىل بابل. وأرس البابليُّون امللك<br />
الداوُديَّ وقَلَعوا عَينَيه، ووَضعوا خزامةٍ يف أنفه واقتادوه إىل بابل حيث<br />
أمىض حياته يشارك نبوخذنرصَّ مائدة الطعام. ومع أنَّ هذا الدعوة تبدو<br />
حسنة، فقد كانت بالفعل تعبريًا عن اإلذالل أكرث منه عن التكريم. فقد كان<br />
امللك الداوديُّ اآلن مجرَّد تابعٍ أعمًى وبائس لإلمرباطور البابيلّ.<br />
مضت السنوات، وهزمَتِ اإلمرباطوريَّة الفارسيَّة البابليِّني، وأطاحَ<br />
اليونانيُّون بالفارسيِّني، والحقًا ابتلعَ الرومان حضارة اليونانيِّني، إالَّ أنَّ أمَّة<br />
بني إرسائيل مل تتمكَّن من إعادة استقاللها وتثبيت عرشها. فقد بقيت
تابعةً مذلولة وخاضعة لباقي األمم، وألكرث من ستِّ مئة عام ظلَّ العرش<br />
الداوُديُّ ال يعرفُ ملكًا.<br />
ورغم هذا مل يضمحلَّ الرجاء؛ إذ ظلَّ األنبياء يتنبَّأون بزمنٍ آتٍ تُقام فيه<br />
الساللة امللكيَّة الداوُديَّة من جديد، يف وسط األحداث املأساويَّة التي أصابت<br />
إرسائيل من انقسام وانحطاط وسقوط. كام أنبأوا اليهود بيَومٍ سريسل الله<br />
فيه ملكًا يحكُم من عرش داوُد بربٍّ وعدلٍ مُطلَقَني- ملكًا ممسوحًا بروح الله<br />
سيعيد قلبَ األُمَّة إىل عبادة الله وحده، وسيملُك إىل األبد بالحكمة والرأفة<br />
واملحبَّة. ليس ذلك فحسب، بل وعد الله أيضً ا أالَّ يكون العرش الداوُديُّ<br />
مجرَّد عرشٍ محيلِّ ّ، بل ستَشملُ سُ لطتُه كلَّ األرض حتَّى إنَّ الشعوب ستأيت<br />
إىل أورشليم )القدس( وتُقدِّم اإلجاللَ مللِك إرسائيل، ملِك امللوك. 15<br />
بدت هذه النبوات سخيفةً عىل األرجح بينام شاهدَ اليهود ملوكَهم<br />
يقَعون يف الرشِّ وتحت دينونة الله العادلة واحدًا تلو اآلخر، وبدا أنَّها<br />
استهزاءٌ قاسٍ أيضً ا حينام شاهدوا آخرَ ملكٍ داوديٍّ يرجو الرحمة عندما اقتلعَ<br />
البابليُّون عينَيه. لكنَّهم لو أصغوا بحذرٍ للنبوَّات، ألدرَكوا أنَّ هذا امللك الذي<br />
وعد به األنبياء ليس مثل باقي الرجال الذين اعتَلَوا العرشَ لزمانٍ ثمَّ ماتوا،<br />
فقد أوحت النبوَّات أنَّه أعظم من ذلك بكثريٍ. يف الواقع، لو أصغى الشعب<br />
جيِّدًا ألدركوا أنَّ الله مل يَعِدْ مبجرَّد إرسال ملكٍ إىل اليهود، بل سيأيت بنفسه<br />
ويكون امللك عليهم. الحظ ما قاله النبيُّ إشعياء عن ميالد هذا امللك العظيم:<br />
‘‘هَذا حنيَ يولَدُ لَنا وَلَدٌ، ونُعطى ابنًا،<br />
وتَكونُ مَسؤولِيَّةُ القِيادةِ عىل عاتِقِه’’.<br />
15( إقرأ مثالً إشعياء 9؛ 11؛ مالخي 5.<br />
ملك إسرائيل وملك الملوك<br />
45
ال يشء ملحوظ يف هذا، أليس كذلك؟ يبدو كأيِّ ملكٍ آخر. تابعِ القراءة:<br />
‘‘وَسَ يُدعى اسمُهُ: املشريَ العَجيبَ ، اللهَ الجَبَّارَ،<br />
األبَ األبَدِ يَّ ، رَئِيسَ السَّ الم.<br />
لَن يَكونَ هُناكَ حَدٌّ لِعَظَمةِ سُ لطانِه<br />
وَسَ المِهِ عَىلَ عَرشِ داوُدَ وَمَملَكَتِه.<br />
سَ يُؤَسِّ سُ ها وَيَحفَظُها بِالربِ ِّ من اآلنَ وإىلَ األبَد’’. 16<br />
ليس هذا ملكًا اعتياديًّا. ال ميلكُ أيُّ ملكٍ اعتياديٍّ ‘‘من اآلنَ وإىلَ<br />
األبَد’’، وليس من ملكٍ له سلطانٌ بال حدٍّ. وال من ملكٍ يُدعى املشريَ<br />
العَجِيبَ أو األبَ األبَدِ يَّ أو رَئِيسَ السَّ المِ . وفوق كلِّ ذاك، ليس من أحدٍ -<br />
ملكًا كان أم ال- ميكنه أن يحملَ لقب اللهَ الجَبَّارَ وال أليِّ سبب كان. ال<br />
أحد، ما عدا... الله نفسه.<br />
أعيُنٌ وذهنٌ مذهوالن بالجالل<br />
كثريًا ما تخيَّلتُ سمعان بطرس يقول هذه الكلامت: ‘‘أنتَ هُوَ املَسِ يحُ ،<br />
ابنُ الله الحيّ ’’، هامسً ا وعيناه وذهنُه مذهوالن بإجالل. أظنُّ أنَّه بدأ<br />
يستوعِب حينها ما كان يجري من حوله. أجل، كان امللوك القُدامى<br />
يحملون اللقب ‘‘ابن الله’’ الذي ظنَّه الجميع مجرَّد لقبٍ عاديّ . إالَّ أنَّه<br />
مل يكن كذلك؛ بل كان قصد الله منه اإلشارة إىل املستقبل وإىل مشيئته<br />
بتنصيب نفسه عىل عرش داود. وكام أعلن األنبياء، سيكون امللك العظيم<br />
‘‘ابن الله’’ ال رمزًا فقط، وال تلقيبًا، بل بالحقيقة. الله نفسه هو امللك.<br />
)16 إشعياء .7-6 :9
ملك إسرائيل وملك الملوك<br />
هذا ما أدركه بطرس: أنَّ هذا الرجل الجالس أمامه هو امللك املسيح<br />
املمسُ وح إلرسائيل، لذا كان لقبه ‘‘ابن الله’’ من هذه الناحية، ومن ناحية<br />
طبيعته: هو ابن الله األزيلّ. ليس فقط مَلِكَ إرسائيل، بل مَلِك امللوك.<br />
لقد أدرَكَ بطرس أنَّ هذا الرجل هو الله املتجسِّ د.<br />
47
الفصل 4<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’...<br />
مل يَتَبادر إىل ذهن بطرس فكرة ألوهيَّة املسيح يسوع من ال يشء. فلنذكُر<br />
أنَّه رافَقَ يسوعَ أشهرًا عدَّة شاهد فيها املعجزات التي صنعها، والسقامء<br />
الذين شفاهم إذ مل يكُن لهم رجاءٌ يف الشفاء، بل إنَّه أقامَ أُناسً ا من املوت.<br />
كانت هذه األحداث كافيةً لتُدهشَ أيًّا كان.<br />
هذا فضالً عن أوقاتٍ أُخرى أصابتْهم بالذُّهول- أوقاتٍ بدت فيها<br />
الطبيعة أيضً ا تنحني منصاعةً للمسيح.<br />
إحدى هذه املرَّات كانت تقريبًا عند بداية خدمة املسيح العلنيَّة.<br />
كان قد ذاع الخربُ عن رجلٍ يشفي السُّ قَامء ويُخرج الشياطني، لذا بدأت<br />
الحشود تتجمهَرُ من حوله. تعاملَ يسوع معهم بصربٍ ولُطف، حيث<br />
أمىض الساعات بإخراج الشياطني وشفاء من عانوا جرَّاءَ شتَّى األمراض.<br />
لكنَّ يسوع تَعِب يومها، إذ كان له عدَّة ساعات يشفي ويخدم عىل شاطئ<br />
بحر الجليل )بُحرية طربيَّا(. وحينام أبرص جَمعًا كبريًا يُقبل إليه من بعيد،<br />
صعد مع تالميذه إىل قاربهم وأبحروا إىل الطرف اآلخر من البُحرية.<br />
كان يسوعُ وتالميذه معتادين اإلبحار يف بحر الجليل؛ إذ إنَّ قسطًا<br />
كبريًا من تعاليم املسيح والشفاءات التي صنعها كانت قد جرت يف القُرى<br />
49
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
50<br />
املحيطة بالبُحرية، والتي متتاز بصيد السمك. كام أنَّ بعضً ا من تالميذه،<br />
ومن بينهم بطرس، كانوا قد امتهنوا الصيد هناك قبلام دعاهم يسوع<br />
ليتبعوه. وتجدرُ اإلشارةُ إىل أنَّ بحرَ الجليل ليس كبريًا، وهو يف الواقع<br />
ليس بحرًا، بل بحريةٌ من املاء العذب ال يتجاوز محيطها ثالثةً وخمسني<br />
كيلومرتًا. إالَّ أنَّ أبرزَ ما مييِّزه هو انخفاضه نحو مئتَي مرت تحت مستوى<br />
سطح البحر، واملنخفضات السحيقة التي تحيط به تأيت إليه برياح رسعتها<br />
هائلة. لذا فضالً عن اشتهار بحر الجليل بالسمك الوفري، اشتُهر آنذاك<br />
أيضً ا برياحٍ عاتية تعصف عادةً ودون إنذار.<br />
وهذا ما حدث يف ذلك اليوم بالتَّحديد؛ فبعد ساعات من إبحار سفينة<br />
املسيح وتالميذه، هبَّت إحدى هذه العواصف بينام كانوا يف منتصف<br />
البحرية، إىل حيث ال منفعة من االلتفاف والعودة. يبدو أنَّ هذه العاصفة<br />
مل تكن متوسِّ طة الشدَّة، بل وصفها البشري متَّى، وهو أحد التالميذ الذين<br />
خاضوا التجرِبة، ولهم درايةٌ بهذه العواصف، بأنَّها ‘‘اضطرابٌ عظيم’’؛<br />
والكلمة اليونانيَّة التي استخدمها البشري متَّى لتشريَ إىل العُنف االستثنايئِّ<br />
للعاصفة هي ‘‘سيسموس’’ ،(Seismos) 1 وتعني زلزاالً . أي أنَّ متَّى أرادَنا<br />
أن ندركَ أنَّ هذه مل تكن عاصفةً مثل العواصف األخرى، بل كانت كزلزال<br />
عىل سطح املاء! وهكذا وجدَ التالميذ أنفسهم غارقني يتخبَّطون يف قاربهم<br />
الصغري بني أمواج البحر العاتية التي أثارتها رياحٌ وجدت طريقَها إىل<br />
البُحرية من الوديان املحيطة.<br />
كان الرجال مرتعبني دون شكّ . وهذا أمرٌ طبيعيّ ؛ إذ ميكنُ قَلْبُ<br />
القارب الصغري وتحطيمه بسهولة، لينتهيَ بهم املطاف بالغرق واملوت<br />
)1 متَّى .24 :8
دون أن يدريَ بهم أحدٌ. ورُغم خوف هؤالء الرجال، فلم يكن املسيح<br />
خائفًا، بل كان نامئًا عىل منت مؤخَّر القارب. عندها هُرِع التالميذ إىل<br />
يسوع املسيح وأيقَظوه قائلني: ‘‘يا سيِّدُ، نَجِّنا فإنَّنا نَهلِكُ !’’، وهذا ما<br />
سجَّله متَّى. أمَّا ما ورد عن مرقس فهو قولهم: ‘‘يا مُعَلِّمُ، أما يَهُمُّكَ أنَّنا<br />
نَهلِكُ ؟’’، ولوقا أوْرَد: ‘‘يا مُعلِّمُ، يا مُعلِّمُ، إنَّنا نَهلِكُ !’’. 2 ومع أنَّ الكثري كان<br />
قد قيل حينها، فإنَّ التالميذ أدركوا شيئًا واحدًا: كانوا جميعهم يف مأزق<br />
أرادوا تدخُّل املسيح فيه.<br />
لنتوقَّف هنا قليالً . إنَّ استنجادهم بيسوع مثريٌ لالهتامم، أليس<br />
كذلك؟ أقصدُ من ذلك: ما الذي أراد هؤالء الرجال من يسوع فعله؟ فأنا<br />
أشُ كُّ يف وُجود أيَّة خُطَّة. يبدو عليهم االنبهار الكايف من املسيح ليفرتضوا<br />
قدرتَه عىل فعل أمرٍ ما. فهم مل يقولوا: ‘‘ أتعلمون أيُّها الرجال؟ ينبغي<br />
لنا أن نهدأ. فالربُّ نائمٌ يف الخلف’’. فلرُمبَّ ا توقَّعوا منه أن يحميَهم من<br />
العاصفة الهوجاء بطريقةٍ ما، أو أنْ يدفعَ بالقارب مرسعًا، أو أنْ ينقُله يف<br />
لحظة إىل الطرف اآلخر من البُحرية. ومع أنَّهم انتظروا املسيح ليفعلَ شيئًا<br />
ما، فام ال ميكن إنكاره هو عدم توقُّعهم ما قام به فعالً .<br />
لنعُد إىل الرواية. هُرِعَ التالميذ فَزِعني إىل مؤخَّر القارب وأيقَظوا<br />
يسوع. أمَّا يسوعُ فقامَ بأمرٍ عجيب: استيقظَ من نومه، ورمبَّ ا فرك عَينَيه،<br />
وكلَّمهم قائالً : ‘‘ما بالُكُم خائفنيَ يا قَلييل اإلميان؟’’. 3 ال يسعني إالَّ تصوُّر<br />
رغبة واحد أو اثنني من التالميذ– بطرس عىل وجه التحديد– بأن يجيبوا:<br />
‘‘ما بالنا خائفني؟ ال بدَّ أنَّك متُ ازحنا!’’. لكنَّهم مل ينطقوا بكلمة. ويقول<br />
51<br />
2( متَّى 25؛ 8: مرقس 38؛ 4: لوقا 24. 8:<br />
)3 متَّى .26 :8<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’...
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
الكتاب املقدَّس إنَّ يسوع وقف بهدوءٍ عجيب ‘‘وانتهر الريح’’ وقال<br />
للبحر: ‘‘اسكُت! ابكَم!’’. 4<br />
يا لها من كلمة آرسة! ‘‘انتهرهم’’ متامًا كام يؤدِّب أبٌ أوالده. هل<br />
سبق لك أنِ انتهرت الريح أو اعرتضت عىل عاصفة؟ قد تحاول وتذهب<br />
لتحاجج إعصارًا آتيًا من الشاطئ حول الدمار الذي قد يجلبه، إالَّ أنَّ<br />
اإلنجيل يقول إنَّه حينام أمر يسوعُ العاصفةَ بالهدوء، أطاعت العاصفة<br />
فِعالً . ويقول مرقس: ‘‘فسكَنَتِ الرِّيحُ وصارَ هُدوءٌ عظيم’’. سبق أن رأى<br />
هؤالء التالميذ عواصفَ تهدأ، وبرسعة أيضً ا. لكن هذا مل يحدثْ بتاتًا؛<br />
فحتَّى لو هدأت الرياح برسعة، كانت املياه تستمرُّ بالتخبُّط مدَّةً إضافيَّة<br />
قبل أن تهدأ هي أيضً ا. أمَّا ما رأوه فكانَ توقُّف الرياح واألمواج يف آنٍ<br />
واحد بهدوءٍ خارق للطبيعة. وقف التالميذ مذهولني يقطرون ماءً. وراحوا<br />
يتبادلون النظرات ما بينهم وينظرون إىل يسوعَ مدهوشني. ال يذكرُ<br />
اإلنجيل من الذي طرحَ السؤال يف النهاية، إالَّ أنِّ أراهن عىل أنَّ جميعهم<br />
هزُّوا رؤوسهم بعُجبٍ مؤيِّدين السائل: ‘‘مَن هو هذا؟ فإنَّ الرِّيحَ أيضً ا<br />
والبحرَ يُطيعانِه!’’. 5<br />
أكثرَ من مُجرَّد ملك<br />
أتساءل ما إذا كان ذلك اليوم يجول يف خاطر بطرس حينام أجاب عن<br />
سؤال املسيح، وقال: ‘‘أنتَ هو املسيحُ ابنُ الله الحَيّ !’’. 6 يعتقد بعض<br />
)4 مرقس .39 :4<br />
)5 مرقس .41 :4<br />
)6 متَّى .16 :16<br />
52
العظيم ‘‘أنا هو’’...<br />
الناس أنَّ بطرس مل يكنْ يُعربِّ عامَّ هو أعمق من اعرتاف بأحقيَّة يسوع<br />
املسيح باملُلك عىل إرسائيل. يعتقدون أنَّه ترصيحٌ ذو عالقة بالسياسة ال<br />
أكرث. غري أنِّ ال أتَّفق مع ذلك. وإليك السبب: آخر مرَّةٍ دعا فيها التالميذ<br />
يسوع بلقب ‘‘ابن الله’’ كانت عندما قامَ بأمرٍ آخر وضعَه يف خانة أسمى<br />
من مجرَّد ملك. وليس ذلك فحسب، بل ما حدث كانت له ذكرى خاصَّ ةٌ<br />
لدى بطرس نفسه.<br />
كانت الحال مشابهة لتلك التي أَسْ كَت فيه املسيح العاصفة. كان<br />
التالميذ مرَّة أُخرى يف قاربٍ متَّجهني إىل الناحية األُخرى من البحرية، وأخذت<br />
الرياح تَعصف واألمواج تتخبَّط نحو القارب، متامًا كام سبق. كان ما يحصل<br />
مألوفًا جدًّا ما عدا فارقًا واحدًا: مل يكن يسوع هذه املرَّة موجودًا معهم.<br />
كان يسوع يف ذلك اليوم قد أطعم أكرث من خمس آالف رجلٍ مع<br />
عائالتهم من سمكتني وخمسة أرغفة، ثمَّ أرسل تالميذه ليسبقوه إىل<br />
الجانب اآلخر من بحر الجليل. لرمبَّ ا ظنُّوه سيَستأجرُ قاربًا آخر أو سيذهبُ<br />
برًّا حول البُحرية، لكن يف كلتا الحالتَني، أبحروا بالقارب بينام بَقِيَ يسوعُ<br />
ليُنهيَ خدمته للجموع، حيث صعد بعدها أعىل جبلٍ قريب واعتزل ليصيلِّ .<br />
يف هذه األثناء، كان التالميذ ميُ ضون ليلةً صعبةً عىل منت القارب<br />
املضطرب بسبب الرياح واألمواج التي هاجت مُجدَّدًا، مامَّ أقلقَهم جدًّا.<br />
يذكرُ اإلنجيل أنَّ الوقت حينها كان الهزيع الرابع من اللَّيل؛ أي يف وقتٍ<br />
ما بني الثالثة والسادسة فجرًا. حينها أبرص التالميذ أحدهم ماشيًا عىل املاء<br />
نحوهم! ومن املتوقَّع أنَّ قلقهم حاالً تحوَّل إىل رُعبٍ ورصخوا: ‘‘إنَّه خيالٌ !’’.<br />
ما حدث بعدها يُعدُّ من أبرز أحداث سرية حياة املسيح يسوع، ولرُمبَّ ا<br />
53
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
54<br />
أغناها باملعنى واألهمِّيَّة. فبعدما سمع يسوع رصخاتهم ناداهم قائالً :<br />
‘‘تشَ جَّعوا! أنا هو. ال تخافوا’’. توقَّفِ اآلن وتأمَّل يف ما قاله، إذ يبدو أنَّ<br />
يف هذه الكلامت القليلة سمع بطرس ما حاز ثقته. مال بطرس ونادى:<br />
‘‘يا سيِّدُ، إنْ كُنتَ أنتَ هو، فمُرن أنْ آيتَ إلَيكَ عىل املاء’’. يا له من قولٍ<br />
عجيب! ال بدَّ أن تتساءل ما إذا نظر اآلخرون إىل بطرس حاسبني أنَّه<br />
فَقَدَ عقله! لكنَّه مل يفقد عقله. إذ كان هناك يشءٌ ما يف ما قاله يسوع<br />
جعل األمر جليًّا لبطرس، وحان الوقت ليختربه. كان يسوع يعلم أيضً ا ما<br />
يجول يف خاطر بطرس، فدعاه مُجيبًا: ‘‘تعال!’’. ثمَّ، خطوة تلو األخرى،<br />
نزل بطرس من القارب ووقف عىل املاء ومىش. ال يذكر اإلنجيل مقدارَ<br />
ما مشاه بطرس، إالَّ أنَّه قبل أن يصلَ إىل يسوع الحظَ الرياح التي تدفعه<br />
وأحسَّ باملياه تالمس رجليه. ويف اللحظة التي أشاح بنظره عن املسيح<br />
ارتعبَ وبدأ يغرق، فرصخ مناديًا املسيح ليُنقذه. يقولُ اإلنجيل إنَّه و‘‘يف<br />
الحال’’ مدَّ يسوع يده وأمسكه ورفعَه إىل القارب. مل يكن يسوع محتاجًا<br />
إىل إسكات الريح هذه املرَّة، فلامَّ دخال القارب سكنت الريح يف الحال.<br />
وبحسب ما جاء يف متَّى، تىل ذلك أنَّ ‘‘الذينَ يف السَّ فينَة جاءوا<br />
وسَ جَدوا لهُ قائلنيَ: "بالحَقيقَةِ أنتَ ابنُ الله!"’’. 7<br />
لكن ماذا عَنوا مبناداتهم إيَّاه ‘‘ابن الله’’؟ هل قصدوا أن يقولوا إنَّه<br />
ملكُ إرسائيلَ الرشعيُّ ؟ هل كانوا يلقِّبونه بلقبٍ مليكٍّ حملَه العرشات من<br />
امللوك السابقني؟ ال ميُ كن! فالتالميذ شاهدوه للتوِّ مييش عىل املاء، ويأيت<br />
بأحدهم ليقومَ باملِثل، ويهدِّئ الرياح دون كلمة. عُدْ بالذَّاكرة أيضً ا إىل ما<br />
قاله املسيح وحفَّز بطرس عىل النزول من القارب من بداية األمر. ما الذي<br />
)7 متَّى 33-26 :14
العظيم ‘‘أنا هو’’...<br />
سمعه يف كالم املسيح حينام قال: ‘‘تشَ جَّعوا! أنا هو’’، ودفعَه للنُّزول من<br />
القارب بدلَ أن يقول: ‘‘حسنًا، ميكنُنا التوقُّف عن القلق اآلن. إنَّه يسوع’’؟<br />
ملاذا مأله اإلميانُ فجأة بأنَّ يسوع كان مسيطرًا عىل الوضع متامًا؟<br />
تكمنُ اإلجابة يف كلمتي ‘‘أنا هو’’...رغم أنَّنا لن نجد فيهام املعنى<br />
الذي قصده يسوع إنْ نظَرْنا إليهام دون النظر إىل الخلفيَّة التاريخيَّة<br />
للشَّ عب اليهوديّ . كانت هذه الكلمة هي ما منحَ بطرس ثقةً عالية<br />
بيسوع ملَّا سمعَها؛ إذ إنَّ بطرس مل يسمَعْ سيِّده يقول فقط: ‘‘أيُّها رجال!<br />
إنَّه أنا يسوع’’، بل أطلق يسوع عىل نفسه االسم القديم والشهري إلله<br />
إرسائيل القدير.<br />
يعود بنا هذا مجدَّدًا إىل وقتِ فداء بني إرسائيل من مرص. أحد<br />
الجوانب الطريفة للقصَّ ة هو جدلُ موىس مع الله حول عدم أهليَّته<br />
للقيام باملهمَّة التي أوكِلَت إليه. طرحَ موىس عددًا من األعذار: لستُ مهامًّ<br />
كفاية، لن يصدِّقونني، لستُ خطيبًا مفوَّهًا. ويف كلِّ مرَّة، كان الله يُجيبه<br />
ويُبطل أعذاره. إالَّ أنَّ أحد األسئلة التي رفعها موىس كانت عامَّ يجيبُ<br />
الشعبَ حينام يسألونه عن اسم إلههم الذي أرسل موىس إليهم. فكشفَ<br />
جوابُ الله عن ذاته بعمقٍ جيلّ: ‘‘فقالَ الله لِموىس: "أنا هوَ الذي هوَ.<br />
هكذا تُجيبُ بَني إِرسائيلَ : هوَ الذي هوَ أرسلَني إليكُم"’’. 8 وهكذا أفصحَ<br />
الله عن نفسه بأنَّه إله الكون املتسامي واملطلَق، أصلُ كلِّ ما هو موجود،<br />
وصانع الوجود، والخالق وسيِّد العاملني، الكائن والذي كان والذي يأيت؛<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’.<br />
8( خروج 14 3: )الرتجمة العربيَّة املشرتكة للكتاب املقدَّس(.<br />
55
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
هذا كان ما سمعه بطرس وحازَ ثقته. كان يسوع ينسبُ إىل نفسه<br />
اسمَ الله، وكان يفعل هذا بينام كان مييش عىل وجه البحر. كان البحر<br />
أقوى الخليقة شدَّةً وإفزاعًا، وكان الرمزَ القديمَ للفَوىض والرشَّ ّ، واملوطنَ<br />
الخرايفَّ لآللهة املُعادِية. وها يسوع يُخضعُه ويغلبُه ويحكمُه، ويدوسُ ه<br />
تحت قدمَيه حرفيًّا. يقول أحدُ األناشيد الكتابيَّة القدمية: ‘‘ضَ جيجُ املحيطِ<br />
عالٍ جِدًّا. وَأمواجُ البَحرِ املتالطِ مةُ قَويَّةٌ جِدًّا! وَلَكِنَّ اللهَ أعىلَ وَأعْظَمُ!’’. 9<br />
أترى املقصود؟ حينام دعا التالميذ يسوع ‘‘ابن الله’’، كانوا يُعلِنون<br />
أكرث من اعرتافٍ بكَونه مجرَّد ملك. كانوا يعرتفون أنَّه الله- الخالق<br />
والعظيم ‘‘أنا هو’’.<br />
الرجل يدَّعي األلوهة<br />
56<br />
يدَّعي بعض األشخاص أحيانًا أنَّ فكرةَ كَونِ يسوع هو الله هي مجرَّد<br />
اختِالقِ مخيِّلة التالميذ، وأنَّ يسوع مل ينسب هذا إىل نفسه، بل إنَّهم<br />
اختَلَقوا هذه القصَّ ة بعد موت املسيح، أو أنَّهم يف أفضل الحاالت أساءوا<br />
تفسريَ ذكرياتهم حول جميع األمور الحاصلة. إالَّ أنَّك ال تحتاج حتَّى ألن<br />
تقرأ اإلنجيل بحذرٍ شديد لتالحظَ ادِّعاءَ يسوع أنَّه الله مرَّة تلو األُخرى، كام<br />
حاول أحيانًا أن يكونَ أوضح ما ميكن.<br />
فمثالً ، حدث مرَّةً أنْ قال يسوع: ‘‘أنا وَاآلبُ واحدٌ’’. ومرَّةً أُخرى<br />
سأله فيها فيلبُّس بحامسٍ أغفله عامَّ كان يسوعُ يقصد أن يقولَه: ‘‘يا<br />
ربّ ، أرِنا اآلبَ ، وهَذا يَكفِينا’’، فأجابه يسوع: ‘‘أمضَ يْتُ مَعكُمْ كُلَّ هَذه<br />
املدَّة الطَّويلَة، وما زِلتَ ال تَعرِفُنِي يا فيلِبُّسُ ؟ مَن رَآنِ فَقَد رَأى اآلبَ<br />
)9 مزمور .4 :93
أيضً ا، فَكَيفَ تَقولُ : "أرِنا اآلبَ "؟’’. كانت هناك أيضً ا تلك الحادثة التي<br />
ردَّ فيها املسيح عىل قادة اليهود يف نهاية محاكَمَتِه قائالً : ‘‘منَ اليومِ<br />
فَصاعِدًا، سَ رتَ َوْنَ ابْنَ اإلنسانِ جالِسً ا عن ميَ ِنيِ عَرْشِ اللهِ، وَآتِيًا عىل<br />
سُ حُبِ السَّ امء’’. أدركَ رئيسُ الكهنة حاالً ما كان يدَّعيه املسيح؛ وهذا<br />
ما جعله ميُ زِّق ثوبَه ويتَّهم يسوع بالتَّجديف؛ فالرَّجل الذي أمامه كان<br />
يدَّعي أنَّه الله. 10<br />
كام ادَّعى يسوع يف إحدى املرَّات ادِّعاءً تجاوزَ حدَّ تصوِّر القادة،<br />
حتَّى إنَّهم التَقَطوا حجارةً لريجموه. ويذكر اإلنجيل أنَّ املوقف كان<br />
بالغَ الخطورة حتَّى إنَّ املسيح توارى عن األنظار وغادر. كان الجدلُ<br />
قد بدأ بتَطاوُل الفَرِّيسيِّني عىل يسوع وشَ تْمِه قائلني: ‘‘ألَسْ نا مُحقِّنيَ يف<br />
قَولِنا إنَّكَ سامريٌّ وَفِيْكَ رُوحٌ رشِّير؟’’. كانت هذه إهانةٌ دنيئة؛ ليس<br />
أنَّهم ادَّعوا فقط بأنَّ فيه روحًا رشِّيرًا، بل كأنَّهم اتَّهموه بأنَّه من مدينة<br />
معروفةٍ برشِّها املقيت. عمومًا، كان ردُّ املسيح: ‘‘لَيسَ يفَّ روحٌ رشِّير، بل<br />
أنا أُمجِّدُ أيب وأنتُم تُهِينُونَني!... أقُولُ الحَقَّ لَكُمْ: إنْ أطاعَ أحَدٌ تَعليمي<br />
فلن ميَ وتَ أبَدًا’’. روَّع كالمه هذا الفَرِّيسيِّني فاتَّهموه بالتعجرُف قائلني:<br />
‘‘اآلنَ تَأكَّدنا أنَّ فِيكَ روحًا رشِ ِّيرًا! فَحتَّى إبراهِيمُ واألنبِياءُ كلُّهم ماتوا،<br />
وَأنتَ تَقُولَ : "إنْ أطاعَ أحدٌ تَعلِيْمِي فَلَن ميَ وتَ أبَدًا". فَهَلْ تَزعُمُ أنَّكَ<br />
أعظَمُ من أبِينا إبراهِيمَ؟ فَقَد مات هو، وماتَ األنبياءُ أيضً ا. فَمَنْ<br />
تَحسِ بُ نَفسَ كَ ؟’’. 11<br />
أمَّا يسوع فأجاب: ‘‘أبوكُمْ إبراهيمُ ابتَهَجَ مُتشَ وِّقًا ألن يَرى يَومي، وقد رَآهُ<br />
57<br />
)10 يوحنَّا 30؛ :10 9-8؛ :14 متَّى .64 :26<br />
)11 يوحنَّا .53-48 :8<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’...
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
وفَرحَ ’’. أو بكلامتٍ أُخرى، علِمَ إبراهيم بوَعد الله بإرسال مخلِّص، لذا ترقَّب<br />
هذا بفَرحٍ. أغاظَ هذا الكالمُ أيضً ا القادةَ وأربَكَهم. كان لهم ادِّعاء املسيح<br />
مبعرفة إبراهيمَ إيَّاه، بل أيضً ا معرفة املسيح إلحساس إبراهيم بالفَرَح، أمرًا<br />
مُبالغًا فيه، فقالوا: ‘‘لَم تَبلُغِ الخَمسِ نيَ بَعْدُ، وقَد رَأيتَ إبراهِيم؟’’.<br />
أمَّا إجابة املسيح لسؤالهم فقد هزَّتهم: ‘‘أقولُ الحقَّ لَكُم: قَبلَ أن<br />
يَكونَ إبراهيمُ، أنا كائنٌ ’’. 13،12<br />
إليك هذا االسمَ مجدَّدًا، وهذه املرَّةُ استَعمَله يسوع متعمِّدًا<br />
ملواجهتهم. كيف نعلمُ هذا؟ السبب هو إنْ كان املسيح يقصدُ إيصالَ<br />
مجرَّد فكرة وجوده قبل إبراهيم، لكان ما قاله توظيفًا خاطِ ئًا لقواعد<br />
اللغة وكان ينبغي أن يستعملَ الفعل بهذه الطريقة: ‘‘قبل أن يكونَ<br />
إبراهيم، أنا كنتُ ’’. لكنَّه حينام قال ‘‘أنا كائنٌ ’’ )أو ‘‘أنا هو’’( كان ينسبُ<br />
إىل نفسه مرَّةً أُخرى وبكلِّ وضوحٍ االسمَ الفريدَ والخاصَّ بالله. وهذا ما<br />
دفعهم ليَتَناوَلوا حجارةً لريجموه. فإنْ مل يكنْ حقًّا الله- وهم مل يعتقدوا<br />
ذلك- لكانَ جدَّفَ بأسوأ أنواع التجديف.<br />
وجهً ا لوجه مع الثالوث<br />
58<br />
لكنَّه دون شكٍّ مل يُجدِّف. بل كان مُحقًّا؛ فقد أثبتَ مِرارًا وتَكرارًا ادِّعاءه<br />
األلوهيَّة. فام إنْ تفهمُ هذا ستبدأ يف مالحظة جوانبَ جديدةٍ ألهمِّيَّة<br />
إرصار املسيح عىل كَونه ابن الله. مل يكن هذا مجرَّد لقبٍ مليكٍّ؛ بل كان<br />
زعامً من يسوع بالتَّساوي مع الله باملكانة والشخصيَّة واإلجالل. وهذا<br />
12( أو برتجمة أُخرى للنصِّ األصيلّ : ‘‘أقولُ الحقَّ لَكُمْ: قَبلَ أنْ يَكونَ إبراهيمُ، أنا هُوَ’’ )املرتجم(.<br />
)13 يوحنَّا .58-56 :8
ما يوضِ حه يوحنَّا قائالً : ‘‘فازدادَ اليَهودُ إرصارًا عَىلَ قَتلِه...ألنَّه قالَ إنَّ<br />
اللهَ أبوه، مُساوِيًا نَفسَ ه بالله’’. 14<br />
ويبقى املزيد من املعنى يف هذه العبارة؛ إذ كان يسوع فيها ليس<br />
فقط يُلقَّبُ بلقبٍ مليكٍّ أو يُخربُ بشأن مساواته مع الله، بل أيضً ا يَصِ فُ<br />
فيها أيضً ا عالقةً فريدةً وحرصيَّة بينه وبني الله اآلب. لذا قال حينًا: ‘‘فال<br />
أحَدَ يَعرِفُ االبْنَ إالَّ اآلبُ ، وال أحَدَ يَعرِفُ اآلبَ إالَّ االبنُ وكُلُّ مَن يَشاءُ<br />
االبنُ أنْ يَكشِ فَ لَه’’. 15 وأوضح حينًا آخر قائالً :<br />
وَمَهام عَملَ اآلبُ ، فإنَّ االبنَ يَعْمَلُه أيضً ا. اآلبُ يُحبُّ االبنَ ،<br />
وَيُرِيه كلَّ يشَ ءٍ يَعْمَلُه...ألنَّه مِثلَام يُقيمُ اآلبُ األمواتَ<br />
وَيُحيِيهِم، فَإنَّ االبْنَ أيضً ا يُحيِي مَن يَشاءُ. اآلبُ ال يُحاكِمُ<br />
أحَدًا، لَكنَّهُ سَ لَّمَ كلَّ القَضاءِ لِالبنِ ، وذَلكَ لِيكَ ْ يُكْرِمَ كلُّ<br />
الناسِ االبْنَ ، كَام يُكرِمونَ اآلبَ . فالذي ال يُكْرِمُ االبن، ال<br />
يُكرِمُ بِذلكَ اآلبَ الذي أرسَ لَه أيضً ا’’. 16<br />
أرأيتَ هذا؟ ادَّعى يسوع ابن الله بكَونه الله نفسه، وأيضً ا بكَونه يف<br />
عالقةٍ فريدةٍ وحرصيَّةٍ ومتناغمةٍ كلِّيًّا بالله اآلب.<br />
كيف ميكن هذا؟<br />
كيف ميكن أن يكون املسيح الله ويكونَ يف الوقت ذاته يف عالقة<br />
بالله اآلب؟ يف هذه املرحلة نأيت وجهًا إىل وجهٍ مع عقيدة الثالوث<br />
59<br />
)14 يوحنَّا .18 :5<br />
)15 متَّى .27 :11<br />
)16 يوحنَّا .23-19 :5<br />
العظيم ‘‘أنا هو’’...
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
60<br />
املسيحيَّة Trinity) (The والتي هي يف اللغة اإلنكليزيَّة دمجٌ رصيفٌّ للكلمة<br />
.(Tri-Unity) 17 رمبَّ ا سبقَ لك أن سمعْتَ بكلمة الثالوث، أو رمبَّ ا سمعتَ<br />
املسيحيِّني يتحدَّثون بشأن الله اآلب والله االبن والله الروح القدس،<br />
وبأنَّهم مُتَاميِزون بعضهم عن بعض- ثالثة أقانيم 18 مختلفة- لكنَّهم<br />
يف الوقت ذاته اإلله الواحد. ليسوا ثالثة آلهة! بتاتًا! فالكتاب املقدَّس<br />
واضحٌ من الصفحة األوىل بشأن وجودِ إلهٍ واحد، وأنَّ هذا اإلله يف ثالثة<br />
أقانيمَ مُتَاميِزة.<br />
ما أرجوه لك هو أن تجدَ أنَّ املسيحيِّني مل يختَلِقوا فكرةَ الثالوث،<br />
بل عرَّفوها ووَصَ فوها وعلَّموها ودافَعوا عنها؛ ألنَّهم وَجَدوها يف الكتاب<br />
املقدَّس. وأنَّهم سمِعوها يف كالم املسيح عن نفسه، وعن عالقته باآلب،<br />
وعن الروح القدس. وسأستعرض هنا بإيجازٍ خالصةَ ما سمعوه من املسيح:<br />
1.1سمعوا املسيح يشدِّد عىل وجودِ إلهٍ واحد. 19<br />
2.2سمعوا املسيح يخرب بأنَّه هو الله، وأنَّ اآلب هو الله،<br />
وأنَّ الروح القُدس هو الله. 20<br />
3.3ونهايةً، سمعوا املسيح يوضِ حُ أنَّه واآلب والروح القدس<br />
17( الجزء األوَّل )Tri( هو بادئة تعني ‘‘مؤلَّفٌ من ثالثة’’، والجزء الثان )Unity( يعني ‘‘وحدة أو اتِّحاد’’.<br />
لذا يصري معنى الكلمة ‘‘واحدٌ من ثالثة’’ )املرتجم(.<br />
18( أَقانيم: مُفردها أُقنوم. هي كلمة رسيانيَّةُ األصل معناها ‘‘شَ خص’’، تُستَعار يف اللغة العربيَّة حينام<br />
نتحدَّث بعِلم الالهوت لنُشري إىل أيٍّ من اآلب أو االبن أو الروح القدس ملجرَّد أنَّ كلمة ‘‘شَ خص’’ يف العربيَّة<br />
شائعةُ االستعامل عن البرش، أمَّا حينام نتحدَّث بشأن الله تعاىل وبِكَونه إلهٌ واحد موجود يف ثالثة أقانيم، فإنَّنا<br />
نُفضِّ ل استعاملَ هذه الكلمة حتَّى ال نقعَ يف خطأ مُشابَهة أمورِ الخالق بالبرش )املرتجم(.<br />
)19 مثالً : مرقُس .29 :12<br />
)20 مثالً : يوحنَّا 18؛ :5 58؛ :8 لوقا .10 :12
العظيم ‘‘أنا هو’’...<br />
ليسوا األقنوم )أو الشخص( ذاته، بل هم مُتَاميِزون<br />
بعضهم عن بعض، ويف عالقة فريدة وحرصيَّة بعضهم<br />
ببعض. 21<br />
قد تقرأ هذه النقاطَ الثالثَ وتقول: ‘‘ال ميكنني استيعاب إمكانيَّة<br />
أن تكونَ هذه الثالثة صحيحة يف الوقت ذاته ويف الطريقة ذاتها’’.<br />
فألكُنْ صادقًا معك وأقول إنَّه ال ميكنني ذلك أيضً ا، وال ميكن ذلك أليِّ<br />
مسيحيٍّ آخر. لكنَّ فَهمي أو نُقصانه ليس أساسَ املوضوع، بل نؤمن، نحن<br />
املسيحيِّني، باملسيح يسوع الذي علَّم هذه النقاط الثالثة، لذا أومن بها-<br />
22<br />
أومن بجميعها، حتَّى إنْ مل تتناغَمْ متامًا ونهائيًّا يف عقيل يف الوقت نفسه.<br />
خالصة املوضوع هي عدم وجود أيَّة تَناقُضاتٍ منطقيَّة بني هذه<br />
النقاط الثالث، فضالً عن إدرايك محدوديَّة عقيل؛ فهناك الكثري من األمور يف<br />
هذه الحياة ال ميكنني استيعابها كلِّيًّا. لذا ال يصعب عيلَّ تصوُّر وجود عددٍ<br />
غري محدودٍ من األمور التي يعلمُها الخالق غري املحدود، لكنِّي ال أعلَمُها أنا.<br />
ما أعلَمُه بالتأكيد هو أنَّ املسيح علَّم عن إله واحد، وأنَّه هو واآلب والروح<br />
القدس هم اإلله واحد، وأنَّه واآلب والروح القُدس ليسوا األقنوم ذاته، بل<br />
يف عالقة متبادلة بعضهم ببعض. لذا أدعو هذه الحقيقة املعقَّدة، كام فعل<br />
جميع املسيحيِّني عىل مدى التاريخ، بعقيدة الثالوث أو الوَحدة الجامِعة.<br />
21( الحِ ظِ الحديثَ بشأن العالقة مثالً يف يوحنَّا 17-16. 14:<br />
22( ال يقصد الكاتب هنا أنَّ ما يؤمن به املسيحيُّون عن الله ال ميُ كن فهمه أو أنَّه مجرَّد إميان ساذج أو<br />
أعمى؛ إذ أنَّه سارَ يف الصفحات السابقة ليوضحَ عقيدةَ الثالوث واإلميان املسيحيِّ بالله. غري أنَّه يحاول إيصال<br />
فكرة عدم قدرتنا عىل استيعاب أمور الله كلِّيًّا وبكلِّ تفاصيلها وجوانبها، وإالَّ ملا كان الله أعظمَ منَّا )حاشا<br />
لله!(؛ فالحظ ما يقولُه الحقًا )املرتجم(.<br />
61
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
الطريق الوحيد<br />
إليك الهدفَ من كلِّ هذا: حينام تبدأ تفهم أنَّ يسوع هو الله بالحقيقة؛<br />
وأنَّه يف عالقةٍ فريدةٍ وحرصيَّةٍ بالله اآلب، ستبدأ أيضً ا تفهَمُ أنَّك إنْ أردْتَ<br />
أن تعرفَ اإلله الذي خلقك فأنت تحتاجُ ألنْ تعرفَ يسوع املسيح. ليس<br />
من طريقٍ آخر.<br />
وما يجعلُها بِشارةً سارَّة هي أنَّ يسوع ليس فقط العظيم ‘‘أنا هو’’،<br />
بل هو أيضً ا واحدٌ منَّا إىل األبد.<br />
62
الفصل 5<br />
واحدٌ منَّا<br />
أنكَرَ أشخاصٌ يف بداية تاريخ املسيحيَّة أنَّ يسوعَ إنسانٌ حقًّا. وادَّعوا أنَّ<br />
دالئلَ ألوهيَّته كانت أقوى من أنْ يكونَ إنسانًا أيضً ا، كام ادَّعوا أنَّه الله<br />
رمبَّ ا اتَّخذ بعضَ الجِلدِ ، أو أنَّه كان يف حالة متوسِّ طة بني األلوهة والبرشيَّة،<br />
إالَّ أنَّهم مل يعرتفوا أنَّه حقًّا كان واحدًا منَّا. عُرف هؤالء الذين أنكروا<br />
الناسوت الكامل ليسوع الحقًا باسم الدكوتيِّني )أو املشبِّهني(. اشتُقَّ هذا<br />
االسم من الكلمة اليونانيَّة األصل دويك ،(Doke) وتعني ‘‘يُشبه أو يبدو’’،<br />
وكان هذا وَصْ فًا مناسبًا الدِّعائهم بشأن املسيح، إذ يرَون أنَّ املسيح مل يكُنْ<br />
إنسانًا حقًّا، بل شابَهَ البرشَ أو بدا عليه ذلك.<br />
وفَورًا أعلَنَ املسيحيُّون بأن العقيدة الدوكيتيَّة خاطئة؛ إذ إنَّ<br />
املسيحيِّني قرأوا الكتاب املقدَّس ووجدوا أنَّ يسوع مل يبدُ إنسانًا، وكأنَّه<br />
مجرَّد خيالٍ أو شبح ما، أو كأنَّ الله اتَّخذ منظرَ اإلنسان ال حقيقته. كالَّ !<br />
فلو صدَّقنا الكتابَ املقدَّس، لوجدنا أنَّ يسوعَ كان بالحقِّ إنسانًا بالتَّامم.<br />
ومع هذا، مل يُنكِرِ املسيحيُّون ألوهيَّته قَطّ ، بل كانوا مُقتَنِعني أنَّ يسوعَ<br />
هو ابن الله وخالق الكون والعظيم ‘‘أنا هو’’. لكنَّهم كانوا مقتَنِعني كذلك<br />
أنَّ العظيمَ ‘‘أنا هو’’ صار واحدًا منَّا بإعجازٍ عجيب.<br />
63
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
ليسَ مجرَّد زائر<br />
شكَّلَتِ الرواياتُ الكتابيَّة عن حياة املسيح أساسً ا متينًا ميتَلئُ باألدلَّة عىل<br />
كَونِ املسيح إنسانًا مثلنا متامًا؛ إذ يُخربُنا اإلنجيل بأنَّه جاعَ وعَطِ شَ وتَعِبَ<br />
وشعرَ بالنُّعاس أيضً ا )أتذكُرُ قَيلولَتَه يف القارب؟(. ومل يكن كام تصوَّر<br />
اليونانيُّون والرومان آلهتَهم الزائفة؛ كأنَّه أُولِيمبِيٌّ اتَّخذَ شكلَ اإلنسان<br />
دون أن يكونَ كذلك بالحقيقة، أي مُتحاشيًا التحدِّيات، أو حتَّى الضَّ عفات<br />
التي تأيت مع الطبيعة البرشيَّة. كالَّ ! كان يسوع إنسانًا بالتَّامم، وتعامَلَ مع<br />
جميع هذه متامًا مثلنا.<br />
ويعني هذا أنَّه جاع حني مل يَأكُل كِفايةً. وتعِبَ حني مل ينَمْ كفايةً.<br />
وحني غرز الجُنود الشَّ وك يف فَروةِ رأسه ودقُّوا املسامري يف مِعصميه،<br />
آمله ذلك. وحينام تُوُيفِّ صاحبُه، حزِن وبىك- مع أنَّه كان مُزمِعًا أن<br />
يُقيمَه من املوت بعد بضعِ دقائقَ ! كام خارت قواه أيضً ا. يُخربنا الكتاب<br />
املقدَّس عن اضطرار الرومان إىل تسخريِ أحَدِ املتفرِّجني ليحمَلَ الصليبَ<br />
مع يسوع إىل موضع الصَّ لب بعدما جَلَدوا يسوع. هناك أيضً ا أحَدُ<br />
أقوى الرباهني عىل اإلطالق: موت يسوع. مل يبدُ عىل يسوع املوت، ومل<br />
ميُت قليالً أو تقريبًا، لكنْ مل تَنتهِ القصَّ ة مبوت املسيح، إالَّ أنَّه ال سبيل<br />
للمراوَغة: لقد مات. 1<br />
من الضوريِّ أنْ نفهَمَ حقيقة برشيَّة يسوع، إذ يعني هذا أنَّه مل يكنْ<br />
مجرَّد زائرٍ إىل عاملنا. مع أنَّ فكرة كونه زائرًا تبدو مُبهجةً بصورةٍ ما، أليس<br />
كذلك؟ أليس مُفرحًا أن يزورَنا أعظم مَن يف الوجود؟ لكنَّ هذا مل يحصل.<br />
)1 متَّى 50؛ :27 ،24 :8 ،2 :4 يوحنَّا .33 :19 ،35 :11 ،2 :19<br />
64
واحد منَّا<br />
ما حصل حقًّا هو أروَعُ من هذا مبقدارٍ عظيم؛ الله الخالق، أعظم مَن يف<br />
الوجود، العظيم ‘‘أنا هو’’ صار إنسانًا.<br />
يسمِّي املسيحيُّون هذا األمرَ التجسُّد. وهو مفهومٌ يعني اتِّخاذ الله،<br />
يف يسوع، جسدًا برشيًّا. وال بدَّ من الحذر هنا؛ ألنَّنا قد نيسء فَهْمَ املقصود<br />
بالظنِّ أنَّ برشيَّةَ يسوع كانت مجرَّد مسألة جِلْدٍ برشيّ ، وأنَّ الله ارتدى<br />
غطاءَ إنسانٍ كام نرتدي أنا وأنت مِعطفًا، وأنَّ هذا ما كانت عليه برشيَّة<br />
يسوع. إنَّ هذا يقرتب كثريًا من الفكر الدوكيتيِّ ، أنَّ يسوع كان فقط يبدو<br />
إنسانًا. لكنْ كيفام صِ غنا تعريفَ الطبيعة البرشيَّة، ال بدَّ أن نتَّفقَ عىل<br />
كون جوهرها ال يقترص عىل الجلد البرشيّ ؛ بل ما هو أعمَقُ من هذا.<br />
والكتاب املقَّدس يُرصِّح بأنَّ يسوع كان إنسانًا حتَّى الصميم. وهذا ما دفع<br />
املسيحيِّني عىل مدى القرون لوَصْ ف يسوع بأنَّه ‘‘إلهٌ حقًّا وإنسانٌ حقًّا’’.<br />
ليس يسوع نصف إله ونصف إنسان، أو خليطًا من األلوهة والبرشيَّة، أو<br />
شيئًا ما بني الله واإلنسان.<br />
هو الله.<br />
وهو إنسان.<br />
واعلَمِ التايل أيضً ا: ليس هذا واقعًا مؤقَّتًا؛ فيسوع إنسانٌ اآلن، ولن<br />
يتوقَّف عن أن يكون إنسانًا إىل األبد. كنتُ أتناوَلُ طعامَ اإلفطار مع صديقٍ<br />
قبل بضع سنوات حينام باغَتَت ذهني هذه الحقيقة فجأة. كنَّا حينها<br />
نخوضُ نقاشً ا عن إمكانيَّة وجود حياة يف الفضاء، وما إذا ذكرَ الكتاب<br />
املقدَّس شيئًا عن املوضوع، وعن النتائج املرتتِّبة إذا فرَضْ نا وجودَها...<br />
وهلمَّ جرًّا. فسألنا أنفسنا: إذا كان هناك فضائيُّون، وكانوا خُطاةً مثلنا، هل<br />
سيُخلِّصهم الله؟ وكيف سيقوم بذلك؟<br />
65
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
كان ردِّي املبارش: ‘‘بالتأكيد سيفعل! سيتجسَّ د يسوع كمرِّيخيٍّ وميوت<br />
ألجل خطاياهم أيضً ا، وهكذا! ومن ثمَّ يقرِّر ما سيفعله مع سكَّان املجرَّة<br />
التالية’’. شعرتُ وكأنَّ جوايب كان منطقيًّا، لكن هل اكتشفت املشكلة فيه؟<br />
طأطأ صديقي رأسه وقال: ‘‘ال، يا غريغ! يسوعُ إنسانٌ . دامئًا وإىل األبد. لن<br />
يكونَ شيئًا آخر سوى إنسانٍ ’’. مل يسبقْ يل أن فكَّرتُ يف األمر هكذا.<br />
كلمةٌ واحدة: أحبَّنا<br />
كان هذا حتامً نِقاش غري مألوف، غري أنَّ اإلدراكَ الذي نتج عنه أدهشَ ني:<br />
يسوعُ إنسانٌ ، وسيبقى هكذا إىل األبد. الذي يجلسُ يف هذه اللحظة عىل<br />
عرش الكون هو إنسانٌ ، إىل األبد، دهرًا تلو دهر. صار الله إنسانًا وسيبقى<br />
ذلك إىل األبد. مل يرتَدِ جِلدَ إنسانٍ كمِعطَف ليخلَعَه الحقًا حينام يعودُ إىل<br />
سامئه. بل صار إنسانًا- قلبًا ونفسً ا وفِكرًا وقوَّةً!<br />
تصوَّر معي للحظة من الزمن كم أحبَّ ابنُ الله الناسَ ليُقرِّر أن<br />
يصريَ إنسانًا إىل األبد. هو األقنوم الثان من الثالوث املقدَّس، أزيلٌّ، وبعالقة<br />
مثاليَّة ومتناغمة وجميلة مع الله اآلب والله الروح القدس، إالَّ أنَّه قرَّر أن<br />
يصريَ إنسانًا، عاملًا أنَّه متى قام بذلك سيبقى كذلك إىل األبد.<br />
ليس من يشءٍ دفعَ ابنَ الله ليقومَ بهذا سوى أنَّه أحبَّنا بشَ غفٍ ، وهذا<br />
ما ميكن رؤيته يف كلِّ تفاصيل حياته عىل األرض.<br />
يُخربِ ُنا كُتَّابُ اإلنجيل مرَّةً تلو األُخرى عن تحنُّن املسيح عىل جميع<br />
مَن حوله. إذ يذكُر متَّى السببَ وراء سَ هَر املسيح طويالً يف شفاء السُّ قَامء<br />
من الجموع؛ إنَّه شفقته عليهم. وحينام نَظَر جَمعًا من أربعة آالفِ رَجُلٍ<br />
66
ونسائهم وأطفالهم مل يأكلوا جيِّدًا منذ أيَّام، قال لتالميذه: ‘‘إنَّني أُشفِقُ<br />
عىل هؤُالءِ الناس، فَهُمْ مَعي منذُ ثَالثَة أيَّامٍ وال يشَ ءَ مَعهم لِيأكُلوا. وَال<br />
أُريدُ أنْ أرصِفَهم جَوعَى، لِئَالَّ يُغْمى عَلَيهِم يف الطَّريق’’. وحني رَسا بقاربٍ<br />
عىل الشاطئ واستقبله حشدٌ من أُناسٍ كانوا يتوقون إىل تعاليمه، ‘‘تَحنَّنَ<br />
عَلَيهم ألنَّهم كانوا كَخِ رافٍ ال راعِيَ لها. فَابتَدأ يُعلِّمُهم أُمورًا كَثرية’’. 2<br />
لقي يسوعُ يومًا مَوكبَ جنازةِ شابٍّ وحيدٍ ألمٍّ أرملةٍ ليس لها مَن<br />
يُعيلُها، وإليك ما حصل عندئذٍ : ‘‘فلَامَّ رآها الربُّ تَحنَّنَ عَلَيها وقالَ لها:<br />
»ال تَبيكِ «. وَاقرتَ َبَ وَلَمَسَ التابوتَ ، فَتَوقَّفَ حامِلوه. ثمَّ قالَ يَسوعُ: »أيُّها<br />
الشابُّ ، أنا أقولُ لَكَ ، انهَضْ !«. فَجَلَسَ امليِّتُ مُعتَدالً ، وَبدَأ يَتكَلَّم. فرده<br />
يَسوعُ إىل أُمِّه’’. 3<br />
هناك أيضً ا حنيَ وَصَ لَ إىل منزل صاحبه لِعازَرَ ورأى شقيقة املتوفَّ<br />
تبيك، ‘‘فَلَامّ رَآها يَسوعُ تَبْيكِ هِيَ وَاليَهُودُ الَّذِ يْنَ جاءُوا مَعَها، تَأثَّرَ يفِ روحِ هِ<br />
وَتَضايَقَ ’’. حينئذٍ سألهم يسوع: ‘‘أينَ دَفَنتُموه؟’’. يُخربنا اإلنجيل أنَّهم<br />
أروه القرب، ‘‘فَبَىكَ يَسوعُ’’، بىك هناك أمام قربِ صاحبه. مل يتوهَّم أيٌّ من<br />
اليهود الحارضين حينها أنَّ ما أبداه يسوع من مشاعر هي ليست فائضً ا<br />
من األىس والحبِّ ، لذا أومأوا برؤوسهم وقالوا: ‘‘انظُروا كَمْ كانَ يُحِ بُّه!’’. 4<br />
أترى مَن هو يسوع؟ مل يكُنْ رجالً قاسيًا ماكرًا يجول قامِعًا ومطالبًا بامللك<br />
واالعرتاف باأللوهة. كالَّ ! بل كان رجُالً ينبضُ قلبُه باملحبَّة ملن حوله. كان<br />
يستمتع بإمضاء الوقت مع منبوذي املجتمع، وتَناوَلَ الطعامَ معهم وحضَ<br />
67<br />
2( متَّى 32؛ 15: مرقُس 34؛ 6: واقرأ أيضً ا متَّى 1. 14: 34، 6:<br />
)3 لوقا .15-13 :7<br />
)4 يوحنَّا .36-33 :11<br />
واحد منَّا
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
مناسباتهم، فبحسب قَوله: ‘‘ال يَحتاجُ األصِ حَّاءُ إىلَ طَبيبٍ ، بلِ املَرىض. أنا لَم<br />
آتِ لِيكَ أدعُوَ الصَّ الحني، لَكنِّي جِئتُ ألِ دعُوَ الخُطاةَ إىل التَّوبة’’. 5 دعا يسوع<br />
األطفال وضمَّهم إليه وباركهم، كام وبَّخ تالميذه ملَّا صدُّوهم عنه ملَّا كان<br />
مشغوالً جدًّا. غري أنَّه حَضَ ن تالميذَه أيضً ا، وكان ميُ ازحهم، ونادى الناسَ<br />
بأسامئهم بلُطفٍ . شجَّع يسوع اآلخرين وسامحهم وقوَّاهم وطأمنَهُم وقوَّمهم.<br />
بكلمةٍ واحدة، أَحبَّ يسوع الناس.<br />
أترى ذلك؟ حتَّى بينام صنعَ العجائب- ما ميُ كن أن يصنعَه الله<br />
وحده- صنعَها بلُطفٍ وحنانٍ ومحبَّة للبرش. ما كان فقط يسوع إنسانًا؛<br />
بل أرانا أيضً ا ما ابتغاه الله للبرشيَّة أن تكون، منذ البداية.<br />
لماذا صار اهلل االبن إنسانًا؟<br />
ألنَّنا احتَجْ نا ألن يفعلَ ذلك<br />
إالَّ أنَّنا نحتاج ألن نُدركَ إىل جانب جميع ما سبق أنَّ يسوع مل يأتِ فقط<br />
لريُ يَنا الطبيعة البرشيَّة األصليَّة التي ابتغاها الله. بل صار يسوع إنسانًا ألنَّنا<br />
احتَجنا ألن يفعلَ ذلك. احتجنا مَن ميَ ثُل أمام الله بديالً منَّا. هذا أساس<br />
ما جاء يسوع من أجله، ليكونَ ملِكًا مُحاربًا مُحِ بًّا سيخلِّصُ شعبَه العزيز.<br />
لذا فإنَّ جُزءًا مامَّ كان يعملُه يسوع حينام صارَ إنسانًا هو مُامثلَتُنا<br />
ليصريَ واحدًا منَّا ليكونَ له أن ميُ ثِّلنا. وهذا ما جعل املسيح يرصُّ أن يعمِّده<br />
يوحنَّا يف اليوم األوَّل من خدمته العلنيَّة. اعرتضَ يوحنَّا يف بداية األمر؛<br />
ألنَّه علمَ أنَّ معموديَّته كانت للتَّوبة- أي أنَّها كانت للخطاة الذين اعرتفوا<br />
)5 لوقا .32-31 :5<br />
68
واحد منَّا<br />
بخطاياهم وأرادوا الرجوع عنها- وعلمَ أنَّ يسوع هو ابن الله املنزه عن<br />
اإلثم، لذا فهو ال يحتاجُ إليها. مل يوبِّخ يسوعُ يوحنَّا عىل اعرتاضه؛ إذ عَلمَ<br />
مثلام علمَ يوحنَّا أيضً ا أنَّه ال يحتاجُ إىل التَّوبة عن أيِّ أمر. لكنَّ هذا مل يكن<br />
ما قصده مبعموديَّته، إذ قال ليوحنَّا: ‘‘اسْ مَحْ بِذلِكَ اآلنَ ، ألنَّه من الَّالئقِ أنْ<br />
نُتمِّمَ كلَّ ما يَطلُبُه الله’’. 6 وبكلامتٍ أُخرى: وكأنَّ يسوع كان يقول: ‘‘أنتَ<br />
مُحقٌّ ، يا يوحنَّا. لستُ بحاجةٍ إىل معموديَّة التوبة، إالَّ أنَّ لديَّ غايةً أُخرى<br />
منها. أمَّا اآلن، فمن الجيِّد واملناسب أن نقومَ بهذا’’. عُمِّدَ املسيح ليس<br />
حاجةً إىل التَّوبة من خطيَّةٍ ما، بل ليُامثِلَنا إىل التامم. كان يالقينا حيثُ<br />
وُجِدنا، ويُرسِّ خ نفسَ ه يف تربَتِنا. كان يصنعُ لنفسه مكانًا يف وَسْ طِ نا ويداه<br />
تُشابِك أيدي البرشيَّة اآلمثِ ة واملكسورة يف الرسَّاء والضَّاء.<br />
أتذكر ما تىل هذا؟ جاءَ صوتٌ من السامء يعرتِف بيسوع أنَّه ابن الله<br />
األزيلُّ، مع تنصيبه ابن الله املليكّ- ملك إرسائيل. ومع أنَّ هناك املزيد مامَّ<br />
ميُ كن فَهمُه من هذه الكلامت اآلتية من السامء، فيكفي اآلن أن نفهمَ<br />
ما جعلَه من املناسب للمسيح أن يُعمَّد مع مجموعةٍ من الخُطاة: كان<br />
يتسلَّمُ منصبَ ممثِّلهُم ومَلِكهم، وبَطَلهم أيضً ا.<br />
بدايةُ الصِّ راع<br />
يُخربنا مُرقس بعد ذلك: ‘‘واقتادَ الرُّوحُ يَسوعَ إىل الربِّيَّة وَحدَه. وَبَقِيَ هناكَ<br />
أربَعنيَ يَومًا يف مُواجَهَةِ تَجارِبِ الشَّ يطان’’. 7 كانت هذه الخطوة التالية<br />
األمثل بعدما متثَّل امللك يسوع دون رجعةٍ بشعبه الخُطاة، تقدَّم ليَخوضَ<br />
69<br />
)6 متَّى .15 :3<br />
)7 مرقس .13-12 :1
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
نِزالهم القديمَ بالنيابة عنهم، مُستأنفًا قضيَّتهم الخارسة لريبَحها من أجلهم.<br />
لذا ذهب إىل الربِّيَّة ملجابهة عدوِّ شعبه، مُبتَدئًا املعركة التي ستَستمرُّ إىل<br />
نهاية الزمان بني يسوع امللك العظيم والشيطان املشتَيك البغيض.<br />
تنوِّه تفاصيل الحدث، حتَّى البسيطة منها، إىل أنَّ املسيح امللك كان<br />
يخوض املعركة ذاتها التي سبق وخَرسِ ها شعبه. الحظْ أنَّ تجاربَ إبليس<br />
كانت يف الربِّيَّة؛ والربيَّة كانت حيث تاه الشعبُ بعدَ الخروج من عبوديَّة<br />
مِرصْ َ لزمانِ جيلٍ كامل، وأخفقَ إخفاقًا ذريعًا. وأمَّا أيَّام الصيام األربعني<br />
التي صامَها املسيح فكانت متثِّلُ السنوات األربعني التي تاهَ فيها الشعبُ<br />
يف الربِّيَّة، لذا خاضَ املسيح ما توازى مع ذلك- يومًا واحدًا مُقابل كلِّ سنة.<br />
ما يحدُثُ هنا ال ميُ كن إغفاله. مبناسبة تنصيب يسوع باللَّقب، تقدَّم اآلن<br />
ليَخوضَ معركةَ شعبه.<br />
يخربنا متَّى أكرثَ من اآلخرين بشأن تجرِبة إبليس ليسوع. كانت إحدى<br />
أكرث لحظات حياة يسوع األرضيَّة إثارةً. وبينام سدَّد الشيطان تجاربه<br />
الثالث عىل املسيح، ارتفعت وترية املوقف عاليًا. حتَّى مواقع التجارب<br />
تحيك لنا شيئًا: األوىل عىل أرضيَّة الربِّيَّة، والثانية عىل قمَّة الهيكل، واألخرية<br />
أعىل جبلٍ شاهق؛ وكأنَّ ارتفاع مكان الرصاع كان يصاحبُ ارتفاع وتريته.<br />
ال تبدو تجرِبة الشيطان األوىل شيئًا يُذكر. إذ قال الشيطان فيها: ‘‘إنْ<br />
كُنتَ ابْنَ الله، فَقُلْ لِهَذه الحِ جارةِ أنْ تَصريَ أرغِفةَ خُبزٍ’’. الحِ ظْ أنَّ أكرث من<br />
شهرٍ مىض عىل صيام يسوع- لرمبَّ ا كان صيامه انقطاعيًّا أو قد يكون تناوَلُ ما<br />
يكفي إلبقائه عىل قيد الحياة- غري أنَّه كان بالتأكيد جائعًا جدًّا. هذا فضالً<br />
عن كونه سيصنع بعد مدَّةٍ وجيزة من املعجزات ما هو أعظم وأعجب، أمَّا<br />
70
واحد منَّا<br />
تحويل الحجر إىل خُبز فكان سهالً . لكنْ ما الذي كان سيجعل قيامه بذلك<br />
أمرًا غري صحيح؟ الجواب يكمُن يف ردِّه عىل الشيطان: ‘‘يَقولُ الكِتابُ : »ال<br />
يَعِيْشُ اإلنسانُ عَىلَ الخُبزِ وَحده«. بَلْ بِكُلِّ كَلِمةٍ تَخرُجُ من فَمِ الله’’. مل يكُنِ<br />
الهدفُ هو ما إذا كان يسوع سيصنع أمرًا اقرتحه إبليس، بل إنْ كان يسوع<br />
)كام فعل اليهود قبل ذلك( سيطالب مبا يريحه ويُناسبه يف تلك اللحظة<br />
أمْ سيُخضع نفسه إىل سبيل التواضع والتألُّم الذي وضعه الله اآلب أمامه.<br />
يف املكان الذي ارتكبَ فيه الناس اإلثم مرَّة تلو األُخرى مبطالبتهم باإلشباع<br />
الفوريِّ لرغباتهم، وَثِق يسوع امللك بالله حافظه وراعيه.<br />
بعد تغلُّب يسوع عىل التجربة األوىل، راح الشيطان يجرِّبه من قمَّة<br />
الهيكل يف أورشليم. كان االرتفاع يُسبِّب الدَّوخة ال محالة. ومُجدَّدًا قال<br />
شيطان: ‘‘إنْ كُنتَ حقًّا ابْنَ الله، فارْمِ بِنَفسِ كَ من هنا. فَالكِتابُ يَقُولُ :<br />
»يُوصِ الله مَالئِكَتَهُ بِكَ ". وَبأنَّهُم: "سَ يَحْمِلونَكَ عَىلَ أياديهم، لِئالَّ تَرتَطِ مَ<br />
قَدَمُكَ بِحَجَر«’’. كان ما قاله إبليسُ يبدو معقوالً مرَّةً أُخرى، بل هذه املرَّة<br />
كان يقتبسُ الكتاب املقدَّس عىل مسمَع املسيح! لكنْ كام سبق وحصل،<br />
كان الهدفُ من التجربة جَعْلَ املسيح يطالب مبا يناسبه بدلَ ما يُريض<br />
الله- بأن يطالب )كام فعل اليهود كثريًا( مبا يُثْبتُ عناية الله بطريقةٍ<br />
معيَّنة. أفهمت املقصود؟ أرادَ إبليس من املسيح متجيد نفسه بدلَ أبيه<br />
السامويِّ بإجبارِ تدخُّل أبيه السامويِّ بدلَ تصديق كالم الله. رفضَ يسوع<br />
القيام بذلك، وردَّ عىل الشيطان قائالً : ‘‘يَقولُ الكِتابُ أيضً ا: »ال متَ تَحِ نِ الربَّ<br />
إلهَك«’’. وبكلامتٍ أخرى، يوصينا الكتابُ أالَّ نشُ كَّ يف الله بِطَلبِ دليلٍ عىل<br />
عنايته. ثِق به وآمن بكالمه، فإنَّه سيعتني بك كيفام شاء ووقتام شاء.<br />
كانت التجربة الثالثة األكرث بذاءةً بني الثالث. إذ استعرضَ إبليسُ عىل<br />
71
جبلٍ شاهق ماملكَ الدُّنيا وأمجادَها أمام املسيح. وقدَّم عَرضَ ه قائالً : ‘‘سَ أُعطيكَ<br />
هَذه كلَّها إنْ سَ جَدْتَ يل’’. يا له من عرضٍ وقح وخبيث! كان املخلوقُ يسأل<br />
خالقَه بالرُّكوع وعبادته، مقابل إعطائه جميع ما سبقَ ووعدَ اآلبُ املسيحَ بِه-<br />
إنَّ ا دون خَوضِ طريق اآلالم التي وضعَها اآلب أمامه. كان اليهود قد واجهوا<br />
هذا االمتحانَ عدَّةَ مرَّاتٍ - اإلغراء بجَمْع حُلفاء من الدول املجاورة القويَّة،<br />
والتآمُر والعصيان، من أجل الحصول عىل األمان واملجد ألنفسهم من أيدي<br />
اآلخرين بدل الله. أخفقَ اليهود يف االمتحان مرَّة تلو األخرى، أمَّا يسوع فلم<br />
يُخفِقْ . فقد أنهى العِراك بالرَّد عىل املجرِّب: ‘‘ابتَعِدْ يا شَ يطانُ ، فَالكِتابُ يَقُولُ :<br />
»يَنبَغِي أنْ تَعبُدَ الربَّ إلهَكَ ، وأنْ تَسجُدَ له وَحده«’’. 8<br />
هل أدركْتَ ما كان يسوع يفعلُه مبجابهته الشيطان يف الربِّيَّة؟ كان<br />
يُحرِّض رصاعَ الربِّ والطاعة الذي خرسه بنو إرسائيل متامًا قبل زمنٍ بعيد.<br />
كانت التجارب الثالث التي ألقاها الشيطان عليه بأن ال يثقَ بالله أو<br />
ميتحنَه أو يعبده، هي إخفاقات اليهود األشهر. كانت رضبات إبليس<br />
األكرث نجاحًا، لذا سدَّدها هذه املرَّة عىل ملك إرسائيل. غري أنَّ إبليسَ هو<br />
مَن أخفق. خاضَ امللك املسيح النِّزال خطوةً بخطوة. عادَ امللك وخاض<br />
معركة شعبه الفاشلة، وانترص.<br />
أمَّا لوقا فَريَ ِد عنه: ‘‘وملَّا استَنْفَدَ إبليسُ كلَّ مُحاوَلةٍ إلغراءِ يَسوع،<br />
تَرَكَه إىل أنْ تَحنيَ فُرصةٌ ثانيةٌ’’. 9 مل تكُنِ نهايةَ املعركة، بل هناك دخلَ<br />
املعركةَ من أجل روح البرشيَّة مَن يُعدُّ األفضل واألقوى، وهي معركة<br />
كانت مستمرَّة منذ عصور خَلَتْ .<br />
)8 متَّى .10-3 :4<br />
)9 لوقا .13 :4
الفصل 6<br />
انتصار ُ آدمَ األخير<br />
غالبًا ما متتدُّ جذور الرصاعات عميقًا يف التاريخ؛ فإن قرأتَ عناوين<br />
الصحف حول الحروبِ واملعارك والرصاعات املستَعِرة يف أيِّ يومٍ كان،<br />
ستجدها نادرًا ما نشبَتْ من العَدم. إذ تعود أحيانًا جذور هذه الرصاعات<br />
إىل قرون مضت.<br />
وهذه هي حالُ الرصاع ما بني يسوع املسيح والشيطان. فحينام واجهَ<br />
املسيح الشيطان وغلبَه يف الربِّيَّة، كانت هذه اللحظة أوجَ الرصاع الذي<br />
دام آالف السنني وشمل البرشيَّة جمعاء. بل كانت بدايةَ النهاية لهذا<br />
الرصاع. كان الشيطان يحاول مقاومة الله وخُطَطه يف األرض لقرون خلَتْ ،<br />
لكنَّه وقع حينها يف مواجهةٍ حاسمة مع مَن سيغلِبه غلبةً نهائيًّة. مل يكن<br />
الشيطان يجهلُ مَن يكون يسوع؛ إذ إنَّ تجرِبتَني ركَّزتا تحديدًا عىل هُوِيَّة<br />
يسوع لكونه ابن الله. لكنْ مع أنَّ الشيطانَ يعرفُ ذلك، فقد ظنَّ أنَّه<br />
ميكنه بطريقةٍ ما جعل يسوع يُخطئ. ولِمَ ال يَظنُّ ذلك؟ فكلُّ إنسانٍ<br />
آخَر يف التاريخ سبق أن وقعَ ضحيَّةَ تجارِبه. لِمَ ال يقع هذا اإلنسان<br />
أيضً ا؟ هكذا اعتقَدَ الشيطان. كام ظنَّ هذا الكذَّابُ أنَّ الله أخطأ )وحاشا<br />
لله!( يف أن يصريَ إنسانًا، باتِّخاذ الطبيعة البرشيَّة والضعفات البرشيَّة<br />
73
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
واملحدودات البرشيَّة، ورمبَّ ا أخريًا صار الله...قابالً للهزمية.<br />
إالَّ أنَّ الشيطان أدركَ حتامً يف نهاية هذا اللقاء األوَّيلِّ مع يسوع أنَّ<br />
آمالَه خائبةٌ ال محالة. وال بدَّ أن تتساءل ما إذا عَلِمَ الشيطان باقرتاب<br />
نهايته بعدما رأى فشَ ل أفضل أساليبه الرشِّيرة. وال بدَّ أيضً ا أن تتساءل<br />
ما إذا تذكَّر الشيطان صوتَ القدير يقول لهُ قبلَ بضعِ ألفِ سنةٍ مُتوعِّدًا:<br />
‘‘حينام يأيت امللك، أجل، ستلدَغُ عَقِبَه، لكنَّهُ سيَسحقُ رأسَ كَ ’’. 1<br />
حتامً جعلَه هذا يتوقُ إىل األيَّام التي بدت فيها الحربُ ضدَّ الله<br />
تَجري عىل ما يُرام.<br />
أراد إنزالَ العليِّ عن العرش<br />
ال يرصف الكتاب املقدَّس كثريًا من الوقت يف التحدُّث بشأن الشيطان؛<br />
فرتكيزُهُ عىل الله وعالقته بالبرش، ومترُّدهم وخطاياهم نحوه، ومشيئته يف<br />
إنقاذهم ومُسامحتهم. لكنَّ الشيطان موجود أيضً ا، فهو املجرِّب واملُشتيك<br />
عىل بني البرش، وعدوُّ الله وخُطَطه. ومع أنَّه ليس لدينا الكثري عن أصله،<br />
فإنَّ الكتابَ املقدَّس يحوي تلميحاتٍ هنا وهناك عن أصله. وتجدرُ اإلشارةُ<br />
قبل كلِّ يشءٍ إىل وضوح الكتاب بشأن عدم كون الشيطان ضدًّا لله بصورةٍ<br />
ما تجعله يف القوَّة أو العظمة نفسهام، بل هو مضادٌّ لله بالصِّ فات. بعبارةٍ<br />
2<br />
أُخرى، ال يُقدَّم الشيطان عىل كونه ‘‘اليانغ’’ الذي يُقابل ‘‘يِن’’ الله.<br />
ويشري أنبياء العهد القديم بالحقيقة إىل أنَّ الشيطانَ يف األصل مالكٌ<br />
74<br />
)1 اقرأ تكوين .15 :3<br />
2( اليانغ والنيِ يف الفلسفة الصينيَّة القدمية هام قوَّتا الطبيعة املتقابِلتان واملتساوِيَتان، وتحتاج كلتاهام إىل<br />
األُخرى إلحداث التوازن. مثل النور والظُلمة، والسكون والنشاط...إلخ )املرتجم(.
خَلَقَه الربُّ لخدمته، حالُه حالُ املالئكة اآلخرين. وإليك وَصْ ف حِ زقيال<br />
النبيِّ للشَّ يطان:<br />
‘‘أنتَ صُ ورَةٌ عنِ الكَاملِ!<br />
مَملُوءٌ بِالحِ كْمَةِ، وَفائِقُ الجَاملِ.<br />
كُنتَ يفِ عَدنٍ ، يف جَنَّةِ الله.<br />
أنتَ مُزَيَّنٌ بِكُلِّ األحجارِ الكَرمية:<br />
بِالعَقِيقِ األحمَرِ وَالياقُوتِ األصفَرِ وَالعَقَيقِ األبيَضِ<br />
وَالزَبَرْجَدِ وَالجَزْعِ وَاليَشبِ<br />
وَالياقُوتِ األزرَقِ وَالبَهرَمانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالذَّهَبِ .<br />
أُعِدَّتْ كلُّ هَذه الحِ جارَةِ لَكَ ،<br />
يَومَ خُلِقْتَ .<br />
أنتَ كَرُوبٌ حارِسٌ مُختارٌ،<br />
وَضَ عْتُكَ عَىلَ جَبَلِ اللهِ املقدَّس.<br />
تَجَوَّلْتَ وَسَ طَ الحِ جارَةِ البارِقَة كالنَّار.<br />
كُنتَ مُسْ تَقيامً وكامالً يف كُلِّ طُرُقِكَ<br />
من اليَومِ الذي خُلِقْتَ فيهِ إىل أنْ أخْطَأْتَ ’’. 3<br />
سيتبنيَّ لك بينام تقرأ سِ فر حزقيال أنَّ هذا الوصفُ يتكلَّم مبارشةً<br />
عن ملكِ مدينةٍ تُدعى صور. إذ إنَّ الوصف يتقدَّمه أمرُ الربِّ لحزقيال:<br />
‘‘يا إنْسانُ ، غَنِّ أُغنِيَّةَ رِثاءٍ عَىل مَلِكِ صُ ورَ’’. 4 غري أنَّ نبوَّات العهد القديم<br />
75<br />
)3 حزقيال .15-12 :28<br />
)4 حزقيال .12 :28<br />
انتصار آدم األخير
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
76<br />
هي رسائل غامضةٌ مدهشة، وهناك أحيانًا أكرث مامَّ يظهرُ عىل السطح.<br />
وهذه هي حال ما لدينا هُنا؛ إذ يتَّضح من مطلع كلامت الرِّسالة أنًّ<br />
حزقيال ال يتكلَّمُ عن ملكِ صُ ور فقط. فام املعنى من قوله إنَّ هذا الرَّجُل-<br />
حاكِمُ مدينةٍ ثريَّة وساحليَّة غري ملحوظة تقريبًا من الرشق األدىن القديم-<br />
كان يف عدن، وأنَّه كَروبٌ حارِسٌ مختار، وأنَّه عىل جبل الله املُقدَّس؟ لن<br />
يكونَ هذا منطقيًّا بتاتًا. فحتَّى لو كان تعبريًا شِ عريًّا، لكان مُبالغةً إىل حدِّ<br />
السخافة والفشل الشعريّ .<br />
ال مجال للشكِّ أنَّ هنالك تصويرًا لشخصيَّةٍ أُخرى يف هذا الكالم<br />
بطريقةٍ تبدو سينامئيَّة. كأنَّ وجه ملك صُ ور الرشِّير كان يعكس حينًا وجه<br />
آخرَ- وجهَ مَن يقف وراء رشِّ املدينة كلِّها، ومَن يحرِّك ذلك الرشَّ ويحرِّضه،<br />
ومَن يعكسُ الرشُّ حقيقتَه. هل ترى ما يفعله حزقيال؟ تصعيدًا لقوَّة<br />
نبوَّته ضدَّ ملك صُ ور، يعطينا حزقيال ملحاتٍ عمَّن يُجسِّ د فِعليًّا التمرُّد<br />
ضدَّ الله: الشيطان. وهكذا تابعَ النبيُّ وصفه لسقطة الشيطان من منصبه<br />
العايل قائالً : ‘‘جَعلَكَ جَاملُكَ مُتَكَربِّ ًا، وَفَسَ دَتْ حِ كمَتُكَ بِسَ بَبِ بَهائِكَ ، ولِذا<br />
طَرَحْتُكَ أمامَ امللوكِ اآلخَرِينَ ، رصِ ْتَ مَثارًا للدَّهشة’’. 5 يصوِّر نبيٌّ آخر اسمُه<br />
إشعياءُ خطيَّة الشيطان قائالً : ‘‘كيفَ سَ قَطْتَ مِنَ السَّ امءِ، يا هِاللَ الفَجْر.<br />
كيفَ أُسقِطتَ إىل األرض، يا هازِمَ األُمَم؟ قُلتَ يفِ نَفسِ كَ : »سَ أصعَدُ إىلَ<br />
السَّ امءِ، وَسَ أرفَعُ عَريشِ َ فَوقَ نُجوم الله، وسَ أجلِسُ عىل قمَّةِ جَبَلِ صافون<br />
حَيثُ تَجتَمعُ اآللهةُ. سَ أصعَدُ إىل أعايل السَّ حاب، وأصريُ مِثلَ العَيلِّ«’’. 6<br />
خطيَّةُ الشيطان هي الكربياء أكرث من أيِّ يشءٍ آخر. ومع كلِّ جامله<br />
)5 حزقيال .17 :28<br />
)6 إشعياء .14-12 :14
انتصار آدم األخير<br />
ورَوعته األخَّاذين، مل يرضَ مبا خلقه الله ليكونَ عليه، بل أرادَ املزيد- أراد<br />
أن ‘‘يصري مثل العيلّ’’، بحسب ما قاله إشعياء. أرادَ إنزال الله عن عرشه.<br />
لذا هل من الغريب أنَّ الشيطان هاجمَ الناس مبحاولة جعلهم<br />
يتمرَّدون عىل الربِّ وميشون يف سبيلهم، بإعطائهم الوعد أنَّهم إذا ما<br />
عصَ وا سيادة الله، فسيَصريون هم أيضً ا مثل العيلّ؟<br />
تذكيرٌ حيٌّ باهلل الملك<br />
نجدُ هذه األحداث يف سفر التكوين يف بداية الكتاب املقدَّس، حيث يتَّضح<br />
لنا رسيعًا سبب حاجة البرشيَّة إىل يسوع املسيح. سدَّد الشيطان حينها<br />
رضبةً بإغوائه اإلنسان األوَّل ليُخطئ ظنًّا منه أنَّ ذلك سيدمِّرُ البرشيَّة<br />
دمارًا نهائيًّا، ويف الوقت ذاته، يؤلِم قلب الله ويُصيبُ حتَّى أساسَ عرشه.<br />
يشريُ اسمُ سفر التكوين إىل فَحواه. فاألصحاحات األوىل منه تُخربنا<br />
بكيفيَّة خلق الله الكون بأكمله-األرضَ والبحرَ والطيورَ والحيواناتِ<br />
واألسامك- بكلمةٍ منه. ويُخربنا السفر أنَّ الله حينام خلقَ كلَّ ما يف الكون<br />
كان الكلُّ حسنًا جدًّا، وأنَّ الله توَّج جميعَ ما صَ نع بخَلقِه اإلنسان. مل يكُنِ<br />
اإلنسانُ األوَّلُ حَيوانًا آخر، بل كان- كام يُخربنا الكتاب املقدَّس- مميَّزًا<br />
ومخلوقًا عىل صورة الله ليجعلَه عىل كلِّ ما صنعه. كان لإلنسان مكانٌ<br />
خاصٌّ يف قلب الله ويف خُطَّته. إليك ما يَردُ يف سِ فر التكوين عن خلق الله<br />
لإلنسان األوَّل: ‘‘ثمَّ شَ كَّلَ الله الرَّجُلَ من تُرابِ األرض، ونَفَخَ يف أنفِه نَفَسَ<br />
الحَياة، فَصارَ الرَّجلُ نَفْسً ا حيَّة’’. 7 واللفظ العربيُّ لكلمة ‘‘الرجُلُ ’’ هو أدام<br />
،(Adam) والذي صار فورًا اسمَ اإلنسان األوَّل- آدم.<br />
77<br />
)7 تكوين 27؛ :1 .7 :2
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
78<br />
كان الله رؤوفًا مع آدم منذ البداية؛ إذ وضعه يف جنَّةٍ زرعَها الله<br />
يف مكانٍ فاضلٍ يف األرض اسمه عَدْن. كانت الجنَّةُ خالَّ بةً يجري وسطها<br />
نهرٌ يُنمي ‘‘كلَّ شَ جَرةٍ جَميلَةٍ وصالحَةٍ لِألكل’’. كام كانت يف وسط الجنَّة<br />
شجرتان فريدتان: شجرة الحياة وشجرة معرفة الخري والرشَّ ّ. كانت حياةُ<br />
آدم يف الجنَّةِ صالحةً، ما عدا هذا: كان آدم مُحتاجًا إىل رفيقٍ . وهذا ما<br />
عَلِمه الله إذ قال: ‘‘لَيسَ حَسَ نًا أنْ يَكونَ الرَّجُلُ وَحيدًا. لهذا سأصنَعُ له<br />
مُعينًا مِثله’’. وهكذا من الطبيعيِّ أن نجدَ إثرَ هذا أنَّ الله جعلَ آدم<br />
يُسمِّي جميع الحيوانات بأسامء! 8<br />
إذا كنت تتساءل متعجِّبًا عامَّ حصل هنا، فاعلم أنَّك لستَ الوحيد!<br />
فالكثري من الناس أبدوا مظاهرَ الحَرية نتيجةَ هذا االستطراد يف رسَ ْدِ<br />
األحداث. كام إنَّ الكثريين منهم، حتَّى الذين لهم أعوامٌ يف اإلميان املسيحيّ ،<br />
يحسبون األمرَ قصَّ ةً طفوليَّةً طريفةً أو فاصالً إعالنيًّا قبل متابعة الكالم عن<br />
خلق حوَّاء. لكنْ عليك أالَّ تنىس مبدأً مُهامًّ إذا ما أردت أن تفهم الكتاب<br />
املقدَّس: أنْ ليس يف الكتابِ املقدَّس أيَّة عَشوائيَّة. يُشريُ حدثُ تسمية<br />
آدم للحيوانات إىل أمرَين بالغَي األهمِّيَّة: األوَّل أنَّ الله أعطى درسً ا مُهامًّ<br />
آلدم. فبعد أن عربَتِ الحيواناتُ والطيورُ واألسامكُ والحرشاتُ أمامه وأطلق<br />
عليها أسامءً مثل ‘‘نر!’’ و‘‘وحيد قرن!’’ و‘‘بعوضة!’’، أدرك آدم أخريًا عدم<br />
صالحيَّة أيٍّ منها ليكونَ رفيقًا له. فليس منها ما يشبهُه.<br />
ويف اللحظة التي تربهنت فيها حكمة الله مامَّ فعل، أوقعَ آدمَ يف<br />
نومٍ عميق، وأخذ ضلعًا من أضالعه وخلقَ املرأة األوىل لتكونَ رفيقةً آلدم.<br />
تخيَّل فرحةَ آدم حينام استيقظ من سباته ووجدها ماثلةً أمامه. كانت<br />
)8 تكوين ،10-8 :2 .18
مثاليَّة، ال سيَّام بعدَ أن شاهدَ فَظاعةَ احتامليَّة أن يكونَ الحوت األزرق أو<br />
الزرافة أو الخنفساء رُفقاءَ له. لذا أعرب عن رأيه قائالً : ‘‘أخريًا! هَذه عَظْمٌ<br />
من عِظامِي ولَحمٌ من لَحمي! سأُسمِّي هَذه »امرأةً« ألنَّها أُخِ ذَتْ من<br />
امرِئٍ ’’. 9 هذا جزءٌ مامَّ قصدَه الله بجَعْل آدم يسمِّي الحيوانات؛ إذ أراده<br />
أن يعلمَ يقينًا أنَّ املرأةَ املاثلةَ أمامه خُلقت له، بل عىل سبيل الحميميَّة...<br />
خُلقَتْ منه.<br />
لكنَّ أمرًا آخرَ كان يحدُثُ بينام كان آدم يُعطي الحيواناتِ أسامءَها. ال<br />
بدَّ أنَّ الله رَيضِ َ مبشاهدة آدم يتوىلَّ عمالً ليس بأالعيبَ أو متعةً بالية. كان<br />
الله يُخرب آدم بهذه الطريقة أنَّ له وظيفةً يُتمِّمها يف األرض. كان آدم هو سيِّد<br />
العامل الذي أوجَده الله ليكونَ اللمسةَ األخريةَ يف الخليقة، واملخلوق الوحيد<br />
عىل صورة الله. تسميةُ يشءٍ هي طريقةٌ ملامرسة السلطة عىل هذا اليشء،<br />
متامًا كام يتسنَّى لألبِ واألمِّ رشف تسمية أوالدهام. وهكذا كان آدم ميُ ارس<br />
سلطتَه عىل الحيوانات بإعطائها أسامءً. كان يقوم بوظيفته كخليفة الله عىل<br />
الخليقة، وتحت سيادة الله املبارشة.<br />
وما يزيد من أهمِّيَّة األمر هو حقيقة أنَّ آدم أعطى املرأة اسامً حينام<br />
رآها- ‘‘سأُسمِّي هذه امرأةً’’- والحقًا يُخربنا الكتاب املقدَّس بأنَّه أسامها<br />
مُجدَّدًا: ‘‘ودَعا آدَمُ زَوجَتَه »حَوّاءَ«’’. ترى، ما الذي يقوم به الله هنا؟<br />
إنَّه يؤسِّ سُ نظامًا متكامالً من السُّ لطةِ أُعطِ يَ آدم فيه السُّ لطةَ عىل حوَّاء،<br />
وأُعطي كالهام، بوصفهام زوجَني، السُّ لْطةَ عىل الخليقة كلِّها، والقصد من<br />
هذا كلِّه هو إبراز حقيقة ملكيَّة الله عىل الجميع. فهذا جزءٌ من السبب<br />
وراء ما عناه الله حينام قال إنَّه سيخلق الرجل واملرأة ‘‘عىل صورته’’.<br />
79<br />
)9 تكوين .23 :2<br />
انتصار آدم األخير
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
80<br />
كان امللوك املُستعمِرين يستخدمون الصور والتامثيل لتذكري الشعوب<br />
املستَعمَرة مبَن يحكُمُهم حينها، حيث كانوا ينصبونها عىل مُرتفعٍ عالٍ<br />
كفايةً لرياه كلُّ مَن يف املنطقة. وكان هذا أشبَه بتنبيهٍ مَفاده: ‘‘هذا هو<br />
مَلِكُكُم’’. وهذه هي حال آدم وحوَّاء يف الخليقة؛ فمهام كانت املعان التي<br />
يتضمَّنها الخَلقُ عىل صورة الله، كان اإلنسان يقفُ كأنَّه تذكريٌ للكَون كلِّه<br />
بأنَّ الله هو امللك. فالسُّ لطةُ التي مارَسها عىل الخليقة كانت أنَّهم مُمثِّلون<br />
عن امللك العظيم: الله.<br />
وقد أثارَ هذا كلُّه غَيظَ الشيطان دون توقُّف.<br />
كان الدمار ُ كلِّيّ ًا تقريبًا<br />
كان هجوم الشيطان عىل البرشيَّة محبوكًا بدِ قَّةٍ بجَعْل اإلنسان يتخلَّص<br />
من جميع ما صنعه الله يف الجنَّة. الحظ معي عدم اهتامم الشيطان<br />
مبجرَّد جعل إنسانٍ بسيط يُخطئُ بذنبٍ بسيط تجاه الله، بل أراد اإلجهاز<br />
عىل هيكليَّة السلطة التي وضعها الربُّ ، واإلجهاز عىل كلِّ رمزٍ وضعه الله<br />
ليُشري ملمَلَكيَّته وحُكمه. أراد قلبَ هيكليَّة الخليقة كاملةً رأسً ا عىل عقب،<br />
من أجل أن يُهني الله )حاشا لله(.<br />
يُخربنا الكتاب املقدَّس بشأن سَ امح الله آلدم وحوَّاء باألكل من كلِّ<br />
أشجار الخليقة ما عدا واحدة- شجرة معرفة الخري والرشَّ ّ. وتكمُن أهمِّيَّة<br />
هذه الشجرة يف أنَّها كانت تذكريًا لإلنسان بأنَّ لسُ لطته عىل الخليقة<br />
مُحدِّدات، أيْ أنَّها مل تكُن سيادةً مُطلَقة. مل يكن الله مزاجيًّا حينام منعَهام<br />
من تناوُلِ مثِ ارها، بل كان يُذكِّر آدم وامرأته بأنَّه مَلِكُهُم، وأنَّه مع كلِّ الرشف<br />
الذي حازاه بالنيابة عن الله يف حُكم الخليقة، فام زال هو الخالق والسيِّد.
وهذا ما جعل التوعُّد بعقابِ عِصيانه عسريًا، إذ قال: ‘‘ألنَّكَ حنيَ تَأكُلُ منها،<br />
مَوتًا متَ وت’’. 10 عِصيان آدم وحوَّاء لهذه الوصيَّة ما هو إالَّ محاولةً للتخلُّص<br />
من سلطة الله عليهم، يف جَوهر ذلك إعالنٌ للحرب عىل مَلِكِهم.<br />
تكمنُ أهمِّيَّة الشجرة أيضً ا يف ما يُشري إليه اسمُها. فالقُرَّاء اليهود<br />
القُدامى لسفر التكوين سيتذكَّرون فورًا أنَّ ‘‘معرفة الخري والرشِّ’’ هي<br />
الوظيفة االعتياديَّة للقُضاةِ يف إرسائيل، والتي مفادُها أن مييِّز القايض<br />
الخريَ من الرشِّ ويصدرَ األحكامَ التي تعربِّ عن الواقع. وهكذا كانت شجرة<br />
معرفة الخري والرشِّ منصَّ ةً للقضاء. كانت حيث ينبغي آلدمَ مُامرسة سلطته<br />
بوصفه حاميَ جنَّةِ الله، وذلك بالتحقُّق من عدم ترسُّبِ الرشِّ إليها. وإنْ<br />
حدث ذلك، أن يضمنَ القضاء عىل هذا الرشِّ وطرحَه خارجًا.<br />
غري أنَّ الشيطان نفَّذ الهجومَ هناك، مُقابل شجرة القضاء التي كانت<br />
تعملُ كتذكريٍ آلدم بسيادة الله املطلقة. وهكذا قدَّم الشيطان اقرتاحَه<br />
لحوَّاء، آخذًا هيئة حيَّةٍ، بأن تتعدَّى وصيَّةَ الله وتأكل من مثر الشجرة.<br />
وإليك ما يُخربنا به سفر التكوين عن اللقاء:<br />
‘‘وكانَتِ الحَيَّةُ أمكَرَ الحيواناتِ الربِّيَّة التي خَلَقَها الله.<br />
فَقالَتْ لِلمَرأة: »أحَقًّا قالَ الله لَكُام: ال تَأكُال من أشجارِ<br />
الحَديقة ]الجنَّة[كلِّها؟«. فقالَتِ املَرأةُ لِلحيَّة: »بل نَأكُلُ من<br />
مثَ َرِ جَميع األشجارِ يف الحَديقة، أمَّا الشجَرةُ التي يف وَسَ طِ<br />
الحَديقة، فقد قال الله: ال تأكُال منها وال تَلمَساها وإالَّ<br />
فَستَموتان!«. فَقالَتِ الحَيَّةُ لِلمَرأةِ: »لَن متَ وتا! لَكنَّ الله<br />
81<br />
)10 تكوين .17 :2<br />
انتصار آدم األخير
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
يَعرِفُ أنَّكُام حنيَ تَأكُالنِ منها، تَنفَتحُ أعيُنُكُام، وتُصبِحانِ<br />
مثلَ الله يف التَّمييزِ بنيَ الخَري والرشَّ «. وَرَأتِ املرأةُ أنَّ<br />
الشجَرةَ شَ هِيَّةٌ لِألكلِ وَجذَّابةٌ لِلعَني، ومَرغوبٌ فِيها بِسَ بَبِ ما<br />
تُعطيه من الحِ كمة لآلكِل منها. فأخَذَتْ من مثَ رِها، وأكَلَتْ .<br />
ثمَّ أعطَتْ لِزَوْجها الذي كانَ مَعَها، فَأكَلَ هو أيضً ا’’. 11<br />
كانت النتيجة مأساويَّة، وبدا األمر للوهلة األوىل انتصارًا ساحقًا<br />
للشَّ يطان. إذ مل يقترصَ ِ األمرُ فقط عىل إقناعه للبرش محبويب الربِّ بعصيان<br />
إلههم بأن وَعَدهم مبا ابتغاه هو من البداية، ‘‘أن يصري مثل العيلّ’’، بل أنجز<br />
أيضً ا ما أراده منذ بداية األمر: أن يدمِّر هيكليَّة السلطة يف الخليقة كلِّها.<br />
إليك الكيفيَّة: هل سبق وتساءلت عن سبب تجرِبة إبليس لحوَّاء<br />
بَدَل آدم؟ فمع أنَّ آدمَ هو مَن له السُّ لطة؛ ومع أنَّ الكتاب املقدَّس يُلقي<br />
باللَّوم عىل عاتق آدم ملا حدث، فإنَّ الشيطان جاء لحوَّاء. ملاذا؟ مل يكن<br />
هذا ألنَّ الشيطان ظنَّ حوَّاء هدفًا أسهل. كالَّ ! بل ألنَّ مُرادَه كان إهانةَ<br />
الله وإسقاط سلطانه بأكرث طريقةٍ مُقنعةٍ ومؤثِّرةٍ أمكنَه املُيضُّ فيها. لذا<br />
أرادَ أن يتمرَّد ليس فقط آدم عىل الله، بل حوَّاء أيضً ا بتحريضها إيَّاه عىل<br />
ذلك. ولكنَّ هناك املزيد: هل سبق أن تساءلت عن السبب الذي دفع<br />
الشيطان للقُدوم إليهم عىل هيئة حيَّة؟ ملَ ملْ يأتِهم عىل هيئةِ إنسانٍ آخر،<br />
أو حيوانٍ عدا عن الحيَّة، مثل زرافةٍ أو سنجاب؟ السبب ذاته: أراد إبليس<br />
إسقاط سُ لطة الله نهائيًّا وإىل التامم؛ فأىت عىل هيئة أحد الحيوانات التي<br />
كان آلدم وحوَّاء معًا السُّ لطة عليها، ومن بني جميع هذه الحيوانات الحيَّة<br />
)11 تكوين .6-1 :3<br />
82
انتصار آدم األخير<br />
والتي هي أدناها )بصورةٍ رمزيَّة(. أترى؟ سقطت هيكليَّة السلطة كأحجار<br />
الدومينو- أدىن الحيوانات أغوى املرأة، والتي بِدَورِها حرَّضت الرجُل،<br />
والذي بدَورِه أعلنَ الحربَ ضدَّ الله.<br />
كان الدمارُ شبهَ نهايئّ. فشل آدم يف مهمَّته فشالً ذريعًا؛ فبدل إصدار<br />
الحُكم من موضع شجرة معرفة الخري والرشِّ عىل الشيطان الحيَّة لرشه،<br />
شاركَ إبليسَ مترُّده عىل الله. وبدل أن يحميَ الجنَّة ويطرَحَ الحيَّة خارجها،<br />
سلَّمها إىل الشيطان. وبدلَ اإلميان بكالم الله والترصُّف بحسبها، شكَّ يف الله<br />
ووضع ثقته يف الشيطان. وبدلَ الخضوع لله وتنفيذ دور املمثِّل الرشعيِّ عن<br />
الله، قرَّر أنَّه يُريد التاجَ األعىل لنفسه. وكام فعل الشيطان من قبله، قرَّر<br />
آدم أنَّه يُريد أن يصري ‘‘مثل العيلّ’’.<br />
كابوس العالم<br />
كانت نتيجة خطيَّة آدم كارثيَّة؛ إذ صارَ العامل بعدَها متمرِّدًا عىل الخالق؛<br />
لذا قىض الربُّ بالعدل ولعن الرجُلَ وامرأته، كام لعنَ من أغواهام. وهكذا<br />
مل تعُدِ الحياةُ لدى الرجُل واملرأة جنَّةً، بل صارتْ شقاءً وإجهادًا وأملًا.<br />
صارت الوالدة مؤملةً والعملُ مُرهِقًا واألرضُ شحيحةَ الثمر واملنتَجات.<br />
واألسوأُ من هذا، انقطعَتِ العالقةُ التي متتَّع بها آدم وحوَّاء مع الله؛ إذ<br />
طُرِدوا من الجنَّةِ نهائيًّا وأُغلِق سبيل العودة مبالكٍ حارسٍ ذي سيفٍ ناريّ .<br />
كان هذا االنفصالُ الروحيُّ إىل جانب املوت الجسديِّ هام جَوهَر وعد<br />
الله باملوت مقابل العِصيان؛ فاإلنسان قبل أن ميوت جسديًّا يف الوقت<br />
املعنيَّ يعان جرَّاء هذا االنفصال الروحيِّ عن الله، ربِّ الحياة، ويبدأ<br />
باملوت بالتَّدريج تحت ثِقلِ عصيانه.<br />
83
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
84<br />
تجدُرُ اإلشارةُ إىل أنَّ خطيَّة آدم وحوَّاء أثَّرتْ ليس فقط فيهام، بل<br />
أيضً ا يف نَسلهام. ومن ثَمَّ تُخربنا األصحاحات الالحقة من الكتاب املقدَّس<br />
بشأن تفيشِّ اإلثم بني البرش جيالً بعد جيل. فنجِدُ أنَّ قايني ابنَ آدمَ وحوَّاءَ<br />
قتلَ أخاه بسبب التعجرُف والحَسَ د، ومن هناك بدأت الخطيَّة بالتشبُّث<br />
أكرث فأكرث يف قلوب الناس. ومع أنَّ نسل قايني أحرزَ تقدُّمًا ثقافيًّا ببناء<br />
مدينةٍ متطوِّرةٍ تِقنيًّا وفنيًّا، فإنَّ رسَ ْدَ الكتاب املقدَّس لألحداث يُخربنا بشأن<br />
تَقَيسِّ الناس باإلثم، ومتسُّ كهم بالطُّغيان والفجور والتمرُّد عىل الله، حتَّى<br />
إنَّ واحدًا من بني قايني تباهى بقَتْله رجالً ملجرَّد أنَّ الرجلَ جرحه، وتوعَّد<br />
متفاخرًا أنَّه سينتقم لنفسه سبعًا وسبعني مرَّةً ملن يحاول إيذاءه. وهكذا<br />
جعلَ اإلثمُ من العامل كابوسً ا ال مفرَّ منه. 12<br />
وكانت يف الوقت نفسه عاقبة املوت التي جعلها الله عىل آدم وحوَّاء<br />
بعَودة جسدَيهام إىل الرتاب تصيب البرشيَّة جمعاء وليس هُام فقط. نجدُ<br />
أصحاحًا كامالً يف سفر تكوين يحوي سُ اللةَ نسب آدم، وعددَ السنوات<br />
التي عاشها كلٌّ من أوالده. وما يُثري الدهشة إىل جانب عدد السنوات<br />
التي عاشوها هو نهاية كلِّ تقريرٍ عن كلٍّ منهم؛ إذ ينتهي سجلُّ كلٍّ<br />
منهم، واحدًا تلو اآلخر، بالعبارة ‘‘وبعد ذلك مات’’. عاش آدم 930 سنةً،<br />
وبعد ذلك مات. وعاش شيث 912 سنةً، وبعد ذلك مات. وأنوش...مات.<br />
وقينان...مات. ومهلَلْئيل ويارِد ومتوشالَح...جميعهم ماتوا، متامًا كام قال<br />
الربُّ ، وساد املوت جميعَ الناس. 13<br />
أترى جدِّيَّة األمر؟ مل يكُنِ ارتكاب آدم لإلثم فرديًّا، ومل يعانِ وحدَه<br />
)12 تكوين .24-17 :4<br />
)13 تكوين .5
انتصار آدم األخير<br />
من عاقبة اإلثم، بل حينام أخطأ كان ميُ ثِّل جميعَ مَن سيأيت بعدَه. لذا<br />
قال بولس يف العهد الجديد من الكتاب املقدَّس: ‘‘لقدْ جاءَتِ الدَّينونةُ<br />
عىل جَميعِ النَّاس مبِ َعصِ يَةٍ واحِ دة’’، وأيضً ا: ‘‘صارَ الكَثريونَ خُطاةً مبِ عصِ يَةِ<br />
إنسانٍ واحِ د’’. 14 مثَّلَ آدم جميعَنا، وترصَّ فَ عن جميعِنا، ومترَّد عن جميعِنا.<br />
غالبًا ما ال يحسبُ الناسُ هذا األمرَ متَّسامً بالعدل، ويقولون: ‘‘أفضِّ ل<br />
أن أُمثِّل نفيس بنفيس، وال ميُ ثِّلني آخر’’. غري أنَّ من املالحظ أنَّ هذا<br />
املوقف مل يكُن لدى أيٍّ من بني آدم. وقد يعود ذلك إىل كَونهم يدركون<br />
أنَّه وإنْ جعلهُم الله ميثِّلون أنفسهم، فهُم لن يقوموا مبا هو أفضل مامَّ<br />
فعله آدم. وقد يعود ذلك أيضً ا إىل إدراكهم أنَّ رجاءهم هو بإرسال الله<br />
شخصً ا آخرَ- مُمثِّالً آخرَ أو آدمَ آخر إن صحَّ التعبري- ليمثِّلهم ويُنقذهم<br />
يف هذه املرَّة. فإنْ كان آدم قد مثَّل الناسَ أجمعني بالخُضوع للشَّ يطان<br />
والتمرُّد عىل الله، فام يحتاجون إليه اآلن هو مَن ميُ ثِّلهم يف الخضوع لله<br />
وهزمية الشيطان.<br />
كلُّ هذا يصُ بُّ هنا<br />
ويتَّضحُ أنَّ هذا ما وعد الله بأن يفعلَه.<br />
فقد وعد الله مبارشةً ويف أعقاب خطيَّة آدمَ وحوَّاءَ بإنقاذ البرشيَّة<br />
من الهالك بإرسال ممثِّلٍ آخر أو آدمَ آخرَ ليُمثِّلها ويفوزَ بالخالص للنَّاس<br />
أجمعني. كانت لحظةً مُدهشةً حينام قطع الله هذا الوعد؛ إذ إنَّه قطعَه<br />
يف أحلَكِ اللَّحظات، لحظة أصدر الحُكم عىل الحيَّة التي كانت قد أغوتْ<br />
آدم وحوَّاء ليُخطِ ئا. إليك ما يُخربنا سفر التكوين بشأن ما قالَه الله:<br />
85<br />
)14 رومية .19-18 :5
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
‘‘ألنَّكِ فَعَلْتِ ذلك،<br />
تَكوننيَ مَلعونَةً أكرثَ َ من كلِّ البَهائِمِ<br />
ومن كلِّ الحَيواناتِ الربِّيَّة.<br />
وكلَّ أيَّامِ حَياتِكِ ،<br />
سَ تَزحَفنيَ عىل بَطنِك،<br />
وستَتَعَفَّرينَ بِالرتُّ اب.<br />
وَسَ أجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَني املرأة،<br />
وبَنيَ نَسلِكِ وَنَسلِها.<br />
سَ يَسحَقُ نَسلُها رَأْسَ كِ ،<br />
وَأنتِ سَ تَلْدَغنيَ عَقِبَه’’. 15<br />
هل الحظت الوعد يف نهاية الكالم؟ سريُ سِ ل الله يف أحد األيَّام رجُالً<br />
يسحق رأسَ الحيَّة سحقًا. وبعباراتٍ أُخرى، سيقوم هذا الرجُل مبا كان<br />
ينبغي آلدم فعله، بوَصفه ممثِّل البرشيَّة، لهذا سيُنقذها من الدَّمار الذي<br />
جلَبَتْه الخطيَّة عليهم وعىل العامل كلِّه.<br />
ومن تلك اللحظة فصاعدًا أصبح الوعد مبُمثِّلٍ آخر– بآدم آخر– رجاء<br />
البرشيَّة األعظم. وتطلَّعت األجيال املُتعاقبة نحو اليوم الذي سيُحقِّق الله<br />
فيه وعده، كام تساءَلوا من حنيٍ إىل آخر إذا ما كان هذا أو ذاك هو<br />
الفادي املوعود. فمثالً تساءل المَك أبو نوحٍ عند والدة ابنه قائالً : ‘‘لَيتَ<br />
ابْنِي هَذا يُرِيحُنا مِنْ كُلِّ عَمَلِنا وَمِنْ كُلِّ تَعَبٍ أيضً ا بِسَ بَبِ اللَّعنةِ التي<br />
)15 تكوين .15-14 :3<br />
86
وَضَ عَها الله عََى األرْضِ ’’. 16 لكنَّ هذا مل يحدُث. ورغم أنَّ نوحًا مثَّل الجنس<br />
البرشيَّ كام فعل آدم، فإنَّه أثبتَ فَورًا بعد خروجه من الفُلك بأنَّه خاطئٌ<br />
أيضً ا. فقد فشِ ل هذا اآلدم املُعيب اآلخَر متامًا كآدم األوَّل، وبانَ أنَّ الفادي<br />
العظيم مل يأتِ بعد.<br />
وضع الناس عىل مرِّ األزمنة املتعاقبة- وال سيَّام يف تاريخ إرسائيل-<br />
رجاءهم بتتميم وعد الله عىل ممثِّلٍ تلو اآلخر. فقد ارتجى كلُّ جيلٍ من<br />
أيَّام موىس ويشوع وداوُد وسُ لَيامن والقضاة وامللوك أن يكون هؤالء هم<br />
الشخص املرجوّ. غري أنَّ آمالهم ذهبت أدراج الريح.<br />
حتَّى جاء يسوعُ، آدمُ األخري الذي سيُمثِّل البرشيَّة، ويقوم مبا فشل<br />
آدم األوَّل يف فعله. وهذا هو السبب وراء أهمِّيَّة مواجهة املسيح للشيطان<br />
يف الربِّيَّة، إذ كان يسوع ليس فقط امللك الداوديَّ - بطل إرسائيل- بل بطل<br />
البرشيَّة كلِّها أيضً ا. البطل الذي سينترص حيث هُزِمَ آدم؛ األب األوَّل للبرشيَّة.<br />
هل تَذكُر التجارب الثالث التي جُرِّب فيها يسوع املسيح يف الربِّيَّة؟<br />
أجل، كانت هذه التجارب أشهر ثالثة إخفاقاتٍ إلرسائيل، غري أنَّها كانت<br />
كذلك يف صُ لب تجرِبة الشيطان آلدم وحوَّاء يف جنَّة عدن. الحظ صداها يف<br />
تجربته للمسيح:<br />
حوِّل الحجارة إىل خُبزٍ، يا يسوع؛ فأنت جائعٌ. لَبِّ رغباتك<br />
الذاتيَّة اآلن!<br />
انظر إىل هذه الثمرة، يا آدم؛ إنَّها حسنةُ املنظر. خُذها<br />
اآلن!<br />
87<br />
)16 تكوين .29 :5<br />
انتصار آدم األخير
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
هل يفي الله مبواعيده، يا يسوع؟ أنا أقول إنَّه ال يفعل.<br />
ملاذا ال تَجعله يُثبت ذلك؟<br />
أحقًّا قال الله ستموتان، يا آدم؟ أنا أقول إنَّكُام لن متوتا.<br />
لنُجرِّبِ الله ونرَ.<br />
اركع واعبُدن، يا يسوع، وسأُعطيك جميع ماملك األرض.<br />
أطعني، يا آدم. اعبُدن وسأجعلُك مثل العيلِّ.<br />
مل تكُن معركة يسوع ضدَّ الشيطان يف ذلك الوقت شخصيَّةً. ومع<br />
أنَّه خاض التجربة بأن يُشابه شعبه مبا خاضوه، فإنَّه قامَ بأكرث مامَّ فعله<br />
الشعب: مُقاومة التجربة حتَّى نهاية قوَّتها، فأنهكها وغَلَبها. ويف خِ ضمِّ<br />
معركة يسوع املسيح يف مواجهة عدوِّهم الفان، كان يقوم مبَّا كان عليهم<br />
فعله من البداية: الخضوع لله وإطاعته وإجالله نيابةً عنهم، كونه ملكهم<br />
وممثِّلهم وبطلهم.<br />
غري أنَّها مل تكُنِ النهاية؛ فمع أنَّ إبليس غُلب، فقد كانت اللعنة ‘‘موتًا<br />
متوت’’ ما زالت كالسيف املصلَت عىل أعناق البرش. ومع أنَّ امللك يسوع<br />
غلب إبليس بتحمُّل تجاربه حتَّى النهاية والعيش حياة بأكملها من الربِ ِّ أمام<br />
الله، فإنَّ العدل كان ال يزال يرصُخُ بأنَّ خطايا الشعب ال ميُ كن تجاهُلها بكلِّ<br />
بساطة. فالناسُ مترَّدوا عىل الخالق، كلٌّ منهم، والعدل يتطلَّبُ تنفيذ ما رصَّح<br />
الله به كعقابٍ لإلثم إىل التامم: املوت واالنفصال عن الله والسخط اإللهيّ .<br />
فام نقص عن ذلك كان سُ يعرِّض صفات الله إىل املُساءلة.<br />
الحظ أنَّ انتصار امللك يسوع عىل عدوِّ شعبه اللَّدود مل يكن كافيًا<br />
88
انتصار آدم األخير<br />
لتخليصِ هم من آثامِهِم. ففي نهاية املطاف، كان كلُّ ما فعله الشيطان هو<br />
إغواءهم ليُخطئوا. هم الذين اختاروا التمرُّد عىل الله مبا فعلوه. ويعني<br />
هذا أنَّ عاقبة املوت ما زالت مُستَحَقَّة وقامئة. ويف سبيل تخليص الشعب،<br />
كان عىل يسوع أن يُبطل اللعنة، وكان عليه أن ميتصَّ عقاب املوت وسخط<br />
الله املوجَّه ضدَّ الخطاة إىل نفسه بدالً منهم. وأن يقف كمُمثِّلهم، ليس<br />
فقط يف الحياة، بل أيضً ا يف املوت.<br />
كلُّ هذا يصُ بُّ هنا: إذا ما كان للشعب أن يعيش، ال بدَّ لبطلهم أن ميوت.<br />
89
الفصل 7<br />
حمل اهلل والذبيحة<br />
من أجل اإلنسان<br />
كان يوحنَّا املعمدان يَعلَمُ السببَ الذي أىت املسيح ألجله، وعَلِمَ ما ينبغي<br />
للمسيح القيام به يف لخالصِ شعبه. لذا أشارَ يوحنَّا إىل يسوع بينام رآهُ<br />
مُقبالً إىل نهر األردن ليعتمدَ، ورفعَ صوتَه وقال شيئًا أثارَ حامسَ الجمع،<br />
وأربكه يف الوقت ذاته: ‘‘هذا هو حملُ الله الَّذي يُزيلُ خَطيَّةَ العالَم!’’. 1<br />
كانت فكرةُ حملٍ يُقدَّم إىل الله ذبيحةً للتَّكفري عن الخطايا مألوفةً جدًّا<br />
لدى اليهود. لكنْ ملاذا استخدمَ يوحنَّا هذا الوصفَ يف اإلشارة إىل شخص؟<br />
ال بدَّ أنَّ كالمَه بعثَ فيهم الشُّ ؤم؛ فالجميع يعلَمون ما هو مصري الحمل<br />
املُقدَّم إىل الله ذبيحةً للتَّكفري عن الخطايا.<br />
كان عُنق الحمل يُحَزُّ وينزف حتَّى املوت.<br />
ال بدَّ أن يموتَ أحَدٌ ما<br />
غالبًا ما يُقال إنَّ نظام الذبائح اليهوديَّ يعود يف جذوره إىل هروب الشعب<br />
من العبوديَّة يف مرص، إالَّ أنَّ أعمقَ جذوره تعودُ فعليًّا إىل ما قبل ذلك-<br />
91<br />
)1 يوحنَّا .29 :1
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
92<br />
إىل جنَّة عدن، وال سيَّام ذلك الوقت الذي توعَّد فيه الله مبُعاقَبة آدم<br />
وحوَّاء باملوت نتيجة مترُّدهم عليه. إذا ما أردْتَ فهم القصد من الذبائح<br />
اليهوديَّة- وفوق ذلك القصد مامَّ فعله يسوع املسيح- ال بدَّ أن تعرفَ أنَّ<br />
الحُكم باملوت الذي نطقَ به الربُّ عليهم مل يكُن عشوائيًّا. مبعنى أنَّه مل<br />
يكن مُمكنًا مثالً أن يُعاقبَهم بأن يجعلَهم ضفادعَ إذا ما أكلوا من الشجرة،<br />
أو شيئًا آخر عدا ما قالَه الله بالتَّحديد.<br />
فالحُكم باملوت الذي أصدره الله كان مناسبًا متامًا وصحيحًا، وكام قال<br />
بولس الحقًا يف العهد الجديد: ‘‘ألنَّ األجرَ الذي يُدفَعُ مُقابلَ الخَطيَّةِ هو<br />
املوتُ ’’. 2 ليس من الصعب معرفة السبب. يجب أن نُالحظ بدايةَ األمر أنَّ<br />
الخطيَّة التي ارتكبَها آدم وحوَّاء مل تكُن مجرَّد خرقٍ لقانونٍ غري مُهمٍّ سَ نَّه<br />
الله، بل اختاروا حينها كام سبق أن أوضَ حْنا محاوَلةَ التخلُّص من سُ لطة<br />
الله عليهم. ويف جوهر ذلك أعلَنوا استقاللَهم عن الله. واملشكلة هنا هي<br />
أنَّ اإلله الذي أعلَنوا استقاللهم عنه هو نفسه مَن رزقَهم الحياة حينام<br />
نفخَ فيهم نسمة الحياة، وأبقاهم عىل قيد الحياة من حينها. لذا حينام<br />
انقطعَتْ عالقتهم به وانفصَ لوا عنه مُبتَعِدين، انقطعت أيضً ا صِ لَتهم<br />
باملصدر الواحد والوحيد للحياة.<br />
ليس ذلك فحسب، بل كان أيضً ا مُناسبًا متامًا وصحيحًا أن يسخط الله<br />
عىل املتمرِّدين. يُخربنا الكتاب املُقدَّس بشأن الصِّ فات الكاملة لصالح الله<br />
وبره وعدله. وعند وضْ عِ هذا يف الحسبان، ال ينبغي أن نُدهَشَ من رده<br />
الذي يكره الخطيَّة، والتي يف جوهرها تُعدُّ قبولَ الرشِّ ورفضَ كلِّ ما هو<br />
صالحٌ وبارٌّ وعادل. دون شكّ ، ليس سخطُ الله وغضبه مثل غضبنا نحنُ ؛ فهو<br />
)2 رومية .23 :6
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
ليس مندفِعًا وخارجًا عن السيطرة مثل غضبنا، بل بالعكس متامًا، فهو تصدٍّ<br />
مُحكَمٌ ومُوجَّه نحو الخطيَّة والتزامُ تدمريها. لذا قال الله آلدم وامرأته إنَّهام<br />
سيموتان إذا ما أخطأا، ومن ثَمَّ يحيا كلُّ إنسانٍ اآلن تحت عقاب املوت؛<br />
فخطايانا ومُقايَضتُنا لصالح الله مُقابل الرشِّ األنانِّ جعلتنا مستحقِّني لغضب<br />
الله وسخطه، كام جعلَتْنا ننفصل عن مصدر الحياة.<br />
هذا هو أصلُ نظام الذبائح الخاصِّ ببني إرسائيل. كان الله يعلِّمُ<br />
شعبَه أنَّ الخطيَّة بطبيعتها تتطلَّب املوتَ وتستحقُّه جزاءً لها. غري أنَّ<br />
الربَّ كان يريدُ أنَّ يعلِّم شعبَه مبدأً آخر أيضً ا بواسطة الذبائح- مبدأً<br />
سيُعطيهم بصيصَ رجاءٍ يف وسطٍ بدا يائسً ا متامًا: ليس عىل الخاطئ نفسِ ه<br />
دفْعَ غرامةِ املوت!<br />
دون شكّ ، يجب أن يدفعَها أحدٌ ما؛ فعاقبة الخطيَّة ما زالت<br />
املوت، غري أنَّ رحمةَ الله ومحبَّته جعلت من املمكن أن يُطبَّق حُكم<br />
املوت عىل بديلٍ ميثِّل الخاطئَ الذي يستحقُّ املجازاة. وإنْ فكَّرتَ يف<br />
األمر مليًّا، سرتى توافُقَ هذا بصورةٍ عجيبةٍ مع عدالة الله ورحمته.<br />
وهكذا تأخذُ العدالة مجراها بأن يُدفَع أجرُ الخطيَّة، لكنَّ الخاطئ<br />
نفسه ال ميوت بالضَّ ورة.<br />
لرمبَّ ا يكون عيد العبور )أو عيد الفصح اليهوديّ ) أوضَ حَ مثلٍ عىل هذا<br />
املبدأ، وهو عيدٌ أُقيم لالحتفال بتَخليص الله شعبَه من العبوديَّة يف مرص.<br />
يصوِّر احتفال الفصح تلك الليلة التي نفَّذ الله فيها حُكامً قاسيًا باملوت<br />
عىل شعب مِرص؛ إذ حذَّرَ الله فِرْعَون مِرارًا وتَكرارًا يف غضون األسابيع<br />
السابقة لتلك الليلة بأنَّ رفضَ ه إطالقَ بني إرسائيل سيجلبُ املوتَ عليه<br />
93
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
94<br />
وعىل شعبه مِرص. كان هذا بسلسلةٍ من تسعِ رضباتٍ مُختلفةٍ أصابَتِ<br />
الشعب، وأظهَرَ فيها الله بوضوح قوَّته وسيادتَه عىل مِرص. كانت هذه<br />
الضبات مواجَهةً بني الله وآلهة مِرص، أسفرَتْ عنِ انكسارهم وقَطْع الشكِّ<br />
باليقني أنَّ الله هو وحدَه اإللهُ الحقيقيُّ .<br />
وصلت الضباتُ إىل أوجِ حِ دَّتها بالضبة العارشة. إليك كيف وصف<br />
الله ملوىس ما كان مُزمعًا أن يصنعَ بشعبِ مِرص:<br />
‘‘وقالَ الله ملوىس: سآيت بضَ بةٍ واحدةٍ أُخرى عىل فِرْعَونَ<br />
وعَىل مِرصَ. وبعدَ ذلك سيُطلقُكم من هنا. وحنيَ يُطلقُكم،<br />
فإنَّه سَ يَطردُكم طَردًا...وقالَ موىس: هَذا هو ما يَقولُه الله:<br />
قُرْبَ مُنتَصَ ف اللَّيل، سأخرُجُ إىل وَسَ ط مِرصَ، فيَموتُ<br />
كلُّ بكرٍ يف أرض مِرصَ، ابتداءً بِابْن فِرْعَونَ الجالس عىل<br />
عَرشه، حتَّى بكر الجارية الجالسة خَلفَ حَجَر الرَّحَى،<br />
وكلِّ بكرٍ من الحَيوانات. سيكونُ هناكَ نُواحٌ عَظيمٌ يف<br />
كلِّ أرض مرصَ لَم يَأتِ مثلُه من قَبلُ ، ولَن يأيتَ. أمَّا وسَ طَ<br />
بَني إرسائيلَ ، فَلَن يَكونَ هناك وال حتَّى كَلبٌ ليَنبَحَ وسطَ<br />
النَّاس أو الحَيوانات، ليَعرفُوا أنَّ الله ميُ يِّزُ بنيَ املرصيِّنيَ<br />
واإلرسائيليِّني’’. 3<br />
كانت هذه دينونةً ساحقةً سيُنزلها الله بهم، غري أنَّ وعدًا بتجنُّب<br />
شعبه منها إذا ما أطاعوه وتتبَّعوا إرشاداته.<br />
وما أمر الله به شعبَه كان أيضً ا يبعثُ عىل الرهبة؛ فقد أمرَهم يف<br />
)3 خروج .7-4 ،1 :11
الليلة التي كان مُزمعًا أن يضبَ فيها كلَّ بكرٍ باملوت بأن يُحضِ كلُّ<br />
بيتٍ حمالً صحيحًا ليس فيه عيبٌ أو شائبة لذبحه عند العشيَّة. وتىل<br />
ذلك إقامة العائالت عشاءً من الحيوان املذبوح. وأهمُّ من ذلك، أمرَهم<br />
الله بأخذ يشءٍ من دم الحمل املذبوح ووضعه عىل قامئتَي باب البيت<br />
وعتَبَته العُليا. كان هذا أساسَ العملِ كلِّه؛ فالله بنيَّ لهم أنَّه حينام يعرب يف<br />
أرض مِرص لقَتْل كلِّ بكرٍ فيها ‘‘سيعربُ ُ’’ عن البيوت التي يرى عىل أبوابها<br />
الدَّماء، ولن يضبه. وهكذا إنْ فعلوا هذا وذبحوا الحمل واختبأوا وراءَ<br />
دمه، سيُنقَذون. 4<br />
توقَّفِ اآلن وفكِّرْ للحظات وجيزة يف اليهود وكيف انبهَروا بسَ امعهم<br />
أنَّ الله كان سيجتاز بيوتَهم وقراهُم أيضً ا! مل يكن األمرُ كذلك خالل<br />
الضبات التسع السابقة. ففيها أصابت الضفادع والبَعوض والذُّباب<br />
والجراد والربَ َد والظلمة والدم يف النهر والدمامل كلَّ أرضَ مِرص ما عدا<br />
املناطق التي سكنَها اليهود. وكان الله حتَّى هذه اللحظة يحرصُ عىل<br />
الفصل بينهم وبني املرصيِّني بوُضوح، وما كان عليهم سوى مشاهدةٍ ما<br />
يحدُث. أمَّا يف تلك اللحظة فقد أخربهم الله بأنَّه ينوي االجتيازَ وسط<br />
بيوتهم بضَ بةِ املوت، وأنَّهم سيموتون كاملرصيِّني متامًا إنْ مل يُصدِّقوا<br />
الله ويطيعوه.<br />
كانت ليلةً مُرعبةً حينام اجتاز الله وسط مدن أرض مِرص وقَتَل األبكار<br />
واحدًا تلو اآلخر عقابًا عىل خطايا الشعب. ال بدَّ أنَّ األرضَ امتألَت بصَ يحاتِ<br />
املرصيِّني الذين مات أوالدهم األبكار تلك الليلة. ونتساءل ما إذا صاحبَتْ<br />
رصخاتِ املرصيِّني رصخاتُ النَّدم واألىس من بني إرسائيل أيضً ا، من الذين<br />
95<br />
)4 خروج .13-1 :12<br />
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
مل يؤمنوا بالله وازدَروا بكالمه. ال يُطلِعُنا الكتاب املقدَّس عىل ذلك.<br />
هل الحظت ما كان الله يعلِّمه لشعبه يومها؟ فمن جهةٍ كان هذا<br />
تذكريًا صادمًا بذنبهم هُم أيضً ا. فبعد كلِّ املُجريات العجيبة التي حدثت<br />
أمامهم، أرادَ الله تذكريَهم بأنَّهم ليسوا أقلَّ استحقاقًا من املرصيِّني لعقاب<br />
املوت؛ فهُم أيضً ا مُذنِبون باإلثم.<br />
لكن من جهةٍ أُخرى، كان هناك درسٌ آخر أيضً ا. فقد انطبعت يف<br />
عقولهم وقلوبهم إثرَ هذا أهمِّيَّةُ الذبيحة البديلة ومعناها. مل يكُن ذبحُ<br />
الحمل عمالً نظيفًا، بل هو عملٌ دمويّ . كان األب يجثو عىل رُكبتَيه<br />
ويتناول سكِّينًا ويحزُّ عنقَ الحيوان، فتسيل الدماء عىل األرض حتَّى يلفظَ<br />
الحيوان أنفاسَ ه األخرية وميوت. وبينام كان هذا يحدث، كانت أعنيُ أفراد<br />
العائلة تنتقل ال محالة من الحيوان املُحتَضَ إىل ولدٍ صغري عاملني أنَّ هذا<br />
الحمل مات لئالَّ ميوتَ الفتى يشوع. كان الحمل ميوت بدلَ يشوع. كان<br />
الله يعلِّم شعبَه بطريقةٍ جادَّةٍ دمويَّة بأنَّه لن- بل ال ميكنُ له أن- ميَ ْسح<br />
خطاياهم ببساطة. كان ال بدَّ من سَ فْك الدِّماء باملُقابل. وال بدَّ من مَوتِ<br />
أحَدِ هم، ألنَّ هذا هو العقابُ الذي تتطلَّبه الخطيَّة.<br />
ومن ثَمَّ بعدَما رشَّ األبُ عتبةَ الباب بالدَّم، وحمل الفتى يشوعَ بني<br />
ذراعَيه وأغلقَ الباب من خلفه، كانت العائلةُ كلُّها تتعلَّمُ درسَ ذنبها<br />
واستحقاقها للموت. ما كان الله ليعفي عنهم بسبب براءتهم الذاتيَّة<br />
وكأنَّهم بشكلٍ أو بآخَر أقلُّ استحقاقًا للموت من املرصيِّني. كالَّ ! كان<br />
سيعربُ ُ عنهُم ألنَّ آخرَ ماتَ بدالً منهم. ورَيثَام عربَ الله عنهُم حامالً سَ يفَ<br />
العِقاب يف يده، كانت ثِقتُهم يف دمِ الحمل.<br />
96
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
لن يكونَ هذه المرَّة حيوانٌ<br />
رشَّ ع الله بعد ذلك نظامًا مُتكامالً من الذبائح الحيوانيَّة لتعليم شعبه أنَّ<br />
خطاياهم الرشِّيرة بطبيعتها ميُ كن وضعها عىل بديلٍ ليدفعَ مثنها. لكنَّه رشعَ<br />
أيضً ا بتعليمهم بأنْ ليسَ تِ الحيواناتُ فقط مَن تحمل عقابَ خطاياهُم.<br />
أحد أبرز األمثلة عىل هذا ميكن إغفاله بسهولة، لكَونه غري ملحوظ،<br />
غري أنَّه أحد أهمِّ األفكار وأعمقها يف العهد القديم. فبعد أن خرج<br />
الشعب من أرض مرص، أمضوا زمنًا طويالً يف التنقُّل يف الربِّيَّة )وصدِّق أو<br />
ال تُصدِّق( وهم يتذمَّرون بأنَّ الله مل يكن يُعطيهم طعامًا وماءً كافِيَني أو<br />
حتَّى جيِّدًا بصورةٍ كافية. ورُغمَ أنَّ الله وفَّر لهم ذلك مِرارًا وتَكرارًا، فإنَّهم<br />
ظلُّوا يتذمَّرون ويتأفَّفون. ويف األصحاح السابع عرش من سفر الخروج،<br />
يقصُّ علينا الكتاب املقدَّس حادثةً قد تبدو للوهلة األوىل مثل غَريها من<br />
املرَّات التي وفَّر فيها الله املاء بعد أن تذمَّر اليهود عليه. لكنَّ الحادثةَ<br />
كانت أهمَّ من ذلك بكثريٍ؛ إذ إنَّ الله كان عىل وشك أن يُعلِّم شعبَه درسً ا<br />
مُذهالً وغري متوقَّع.<br />
كان الشعب قد أىت يف ذلك اليوم إىل موضعٍ اسمهُ رفيديم، وتذمَّروا<br />
عىل الله كام هي الحالُ من قبل، مُدَّعني أنَّه جاء بهم إىل الربِّيَّة ليقتُلَهم<br />
عَطَشً ا. غري أنَّ تذمُّر الشعبِ وَصَ لَ إىل مرحلةٍ جديدة هنا يف رفيديم. إذ<br />
يُخربنا الكتاب املقدَّس بوُضوحٍ أنَّ الشعبَ أرادوا مُحاكمةَ الله! أجل! كان<br />
موىس عىل وشك التعرُّضِ للرَّجْم، لكنَّه املُتحدِّثُ الرسميُّ عن الله. مل تكن<br />
مشكلةُ الشعب الحقيقيَّة مع موىس، بل مع الله. فهو مَن جاء بِهم إىل<br />
الربِّيَّة ليَموتوا كام ادَّعوا، وها هُم اآلن يتَّهمونه بالقتل!<br />
97
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
يصفُ لنا الكتاب املقدَّس إرشاداتِ الله ملوىس يف صورةِ اتِّهاماتهم<br />
ضدَّه. فيأمُر موىس بأن يَجمع الشعبَ ليَقِفوا أمامه وأمام جميع شيوخ<br />
الشعب. كان القصد من جَمْع الشيوخ هو أنَّهم قُضاةُ األُمَّةِ الذين يحكمون<br />
يف القضايا التي تُطرَح أمامهم، متامًا كهذه. ثمَّ أمرَ الله موىس بإحضار<br />
عصاه. والقصدُ من ذلك مُهمٌّ أيضً ا؛ ألنَّ عصا موىس ليست كأيِّ عصً ا.<br />
فهذه العصا التي رضب بها موىس نهر النيل وحوَّل مياهَه دمًا، ورضب بها<br />
أيضً ا الرَّمل وحوَّله بَعوضً ا، والعصا التي رفعها عىل البحر األحمر ليجعلَه<br />
ينهال عىل مركبات املرصيِّني الحربيَّة. وبعباراتٍ أُخرى، كانت العصا التي<br />
استخدمها موىس إلنزال القِصاص.<br />
قطع املشهدُ الشكَّ باليقني. اجتمعَ الشعب وجاء الشيوخُ وأُحضَت<br />
عصا القضاء. وكأنَّ الله كان يقولُ لشعبه املتمرِّد املتذمِّر: ‘‘أتُريدون<br />
مُحاكمة؟ حسنًا، إليكم مبحاكمة’’. كان أحدٌ ما عىل وشك التعرُّض للحُكم،<br />
وكان القضاءُ عىل وشك أن يُنزَل.<br />
لكنْ عىل مَن؟ ليس عىل الله، بل عىل اليهود بسبب مترُّدهم<br />
وتذمُّرهم وعدم أمانتهم بعد أن كان الله أمينًا معهم مرَّة تلو مرَّة. كانت<br />
عصا القَضاء عىل وشك أن تضبَهم.<br />
لكنَّ تحوُّالً مُدهشً ا يف مجرى األحداث يُغفله كثريٌ من املسيحيِّني<br />
القُدامى جرى بعد ذلك. انظر إىل ما يُخربنا به الكتاب املقدَّس:<br />
‘‘فرصَ خَ موىس إىل الله وقالَ : »ماذا أفعَلُ بهذا الشَّ عب؟<br />
إنَّهُم يَكادونَ يَرجُمونَني«. وقالَ الله ملوىس: »مُرَّ من أمام<br />
الشَّ عب، وخُذْ معكَ بعضَ شُ يوخ إرسائيلَ . وخُذْ بيَدكَ<br />
98
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
عَصاكَ التي رضَ َبتَ بها نهرَ النِّيل، واذهَبْ . سأقفُ أمامَكَ<br />
هناكَ عىل صَ خرة حوريب. فحنيَ تَضبُ الصَّ خرةَ، سيَخرُجُ<br />
منها ماءٌ ليَرشَبَ الشَّ عب«. ففعَلَ موىس ذلكَ أمامَ شُ يوخ<br />
إرسائيل’’. 5<br />
هل الحظت ما قيل يف منتصف النصِّ السابق؟ هل الحظت مَن<br />
رضبَتْ عصا القَضاء؟ رضبت الصخرةُ، أجل. لكن مَن الذي كان يقفُ عىل<br />
الصَّ خرة؟ الله مَن وقف عليها، إذ قال:‘‘سَ أقفُ أمامَكَ هناكَ عىل صَ خرة<br />
حوريب. فحني تَضبُ الصَّ خرةَ...’’. وبكلامتٍ أخرى، كأنَّ الله يقول: ‘‘بدلَ<br />
أن تضبَ شعبي بعصا القضاء الذين استحقُّوا ذلك بسبب تذمُّرهم وعدم<br />
أمانتهم، ارضبني أنا!’’. وهذا ما فعله موىس، وما النتيجة؟ تدفَّقتِ الحياة<br />
بأن خرج ماءٌ من الصخرة!<br />
كان مبدأ التعويض أو البدليَّة يُرفعُ إىل مستوًى جديدٍ متامًا. وهذه<br />
املرَّة ليس البديلُ حيوانًا، بل الله نفسُ ه هو مَنِ اتَّخذ الحُكمَ عىل نفسه<br />
واللعنة التي كان ينبغي أن تنزلَ بشعبه! ونتيجةَ هذا كانت لهم الحياة<br />
بدلَ املوت.<br />
الملك العظيم والعبد المتألِّم<br />
استمرَّ الله عىل مدى قرون بتعليم شعبه مبدأ البدليَّة أكرث فأكرث حتَّى<br />
جاء النبيُّ إشعياء ووصل النقاط بعضها ببعضٍ أكرثَ من غريه يف العهد<br />
القديم. سبقَ ونظرنا إىل نبوَّة إشَ عياء بامللك اإلله الذي سيملُك عىل األرض<br />
99<br />
)5 خروج .6-4 :17
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
بعدلٍ وبرٍّ كاملَني، ويُخلِّص شعبَه من أعدائهم. 6 كان هذا مجيدًا بحدِّ<br />
ذاته. غري أنَّ النبيَّ أنبأ أيضً ا أنَّ هذا امللك اإلله- املدعوَّ ‘‘الله القدير’’-<br />
سيلعبُ أيضً ا دَورَ العبد املتألِّم الذي سيحمل خطايا شعبه ويقبَل عقابَ<br />
املوت الذي استَحقُّوه.<br />
إليك وصفَ إشعياء ملا سيفعله هذا اإلله امللكُ والعبد املتألِّم:<br />
‘‘لكنَّهُ رفعَ اعتَالالتنا،<br />
وحملَ أمراضَ نا.<br />
ونحنُ ظَنَنَّا أنَّ الله يَضبُه ويُذلُّه.<br />
لكنَّه جُرحَ بسببِ مَعاصينا،<br />
وسُ حقَ بسَ بَب آثامنا.<br />
وَقعَت عليه عُقوبتُنا فنَعُمنا بالسَّ الم.<br />
وشفينا بسبب جُروحه.<br />
كلُّنا ضَ لَلنا كالغَنَم،<br />
وكلُّ واحدٍ ذَهَبَ يف طَريقه.<br />
لكنَّ الله وضعَ عليه عقابَ آثامنا جميعًا...<br />
سريَ ى مثَ َرَ مُعاناته<br />
وسريُ ضيه أن يعرفَ ذلك.<br />
ألنَّ عَبدي البارَّ سيُربِّرُ كثريين،<br />
وسيحملُ ذُنوبَهم’’. 7<br />
)6 إشعياء .7-6 :9<br />
)7 إشعياء ،6-4 :53 .11<br />
100
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
أفهمتَ ما يقولُه إشَ عياء هنا؟ يقول إنَّ هذا امللك العظيم سيؤسِّ س<br />
مملكةَ برٍّ مثايلّ، وسيكونُ أيضً ا العبد املتألِّم الذي سيأخذُ قِصاص املوت<br />
عىل عاتقه وبدلَ شعبه. سيحمل اللعنة التي وقفت ضدَّهم، ليؤهِّلَهم<br />
ليَحيَوا معه إىل األبد يف اململكة التي سيُؤسِّ سها.<br />
كان يعلمُ السببَ الذي أتى ألجله<br />
تبادَرَ كلُّ هذا إىل ذهن يوحنَّا املعمدان حينام صاح يف ذلك اليوم قائالً :<br />
‘‘هذا هو حمَلُ الله الذي يزيلُ خطيَّةَ العالَم’’. 8 كان عىل درايةٍ أنَّ املسيح<br />
هو الذبيحةُ الكاملة، وأنَّه سيُقدِّمُ نفسَ ه للموت بدلَ شعبه. إنَّه العبد<br />
املُتألِّم الذي أُخرب به قبل زمنٍ طويل، والذي سيُسحَق من أجل آثام شعبه.<br />
وهذا ما عنيناه حينام قُلنا إنَّ يسوع مل يعتمِدْ بسبب حاجَتِه إىل<br />
التَّوبة من خطاياه الشخصيَّة، بل ليتمثَّل ويوحِّدَ نفسه مع الخُطاة الذين<br />
أىت ليُخلِّصهم بوصفه ابنَ الله، والبديلَ وامللكَ والبطلَ وعبد الربِّ املتألِّم.<br />
هذه هي الناحية األخرية مامَّ عناه الصوت السامويُّ الذي قال: ‘‘أنتَ هو<br />
ابني املحبوب. أنا راضٍ عنكَ كلَّ الرِّضا’’. 9 يرتدَّد عىل مسامعنا يف عبارة<br />
‘‘أنا راضٍ عنكَ كلَّ الرِّضا’’ صدى كلامت سفر إشعياء التي قالها الربُّ عن<br />
العبد املتألِّم.<br />
أرجو أن ميُ كِّنك هذا من رؤية مدى استثنائيَّة ما حصل عىل جانب<br />
النهر يف ذلك اليوم. كان يسوعُ يف املعموديَّة حينام كان الصوتُ السامويُّ<br />
يسلِّمُه هذه األدوار- أو املناصب- التي أرادها له الله من البداية. وميكن<br />
101<br />
)8 يوحنَّا .29 :1<br />
)9 متَّى .17 :3
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
القول أيضً ا إنَّ هذا الصوتَ السامويَّ كان إعالنَ الله عن تتويج ثاليثٍّ<br />
ليسوع: تاجُ السامء كَونه ابن الله، وتاجُ الحُكم كونه امللك املنتظر، وتاجُ<br />
الشوك كونه العبد املتألِّم الذي سيخلِّص شعبَه باملوت عنهُم.<br />
ومع هذا مل يكن أيٌّ مامَّ سبق وذكرناه مُفاجئًا للمَسيح؛ إذ كان<br />
يعلم مُسبَّقًا القصدَ من مجيئه، وما كان ينبغي فعله يف سبيل خالص<br />
شعبه من عاقبة خطاياهُم، وأنَّه ينبغي أن يحملَ غضبَ الله مكاننا.<br />
هذا ما عناه حينام قال إنَّه جاء ‘‘ليُقَدِّمَ حَياتَه فديَة لتَحرير كَثريين’’ ، 10<br />
وما عناه حينام ناولَ تالميذه الكأسَ من نِتاج الكرمة يف العشاء األخري<br />
قبل صَ لبه وقال لهم: ‘‘ارشَبوا من هَذه كلُّكُم. ألنَّ هذا هو دمي، دَمُ<br />
العَهد الذي يُسفَكُ من أجل كثريين، ملَغفرة خَطاياهم’’. 11 كانت تلك<br />
كلامتٍ مجازيَّةً تُشريُ إىل واقعٍ حقيقيٍّ واضح وُضوحَ الشمس. كان<br />
يسوع عىل وشك املوت. وبعد أن التقطَ ابنُ الله األزيلُّ وامللكُ املنتظر<br />
عدَّة الحرب وانترص يف معركة شعبه الخارسة مع تجارب الشيطان، كان<br />
يف تلك اللحظة مستعدًّا لدَفْع مثن خطاياهم. كان العبدُ املتألِّم عىل<br />
وشك أن يحملَ آثامَ شعبه، وميوت عنهُم ليجعلَهم أبرارًا أمام الله.<br />
ليس ثمَّ ة سبيلٌ آخر<br />
تناوَلَ يسوع العشاء يف الليلة السابقة ملوته يف جلسةٍ أوضحَ فيها جليًّا ما<br />
عناه من كلِّ ما سبق. كانت تلك الليلة وقتَ احتفال اليهود بعيد العبور<br />
)أو عيد الفصح اليهوديّ (، حيث يتناوَلون فيها وجبةً من الطعام بعضهم<br />
)10 متَّى .28 :20<br />
)11 متَّى .28-27 :26<br />
102
مع بعض يستذكرون فيها إنقاذَ الله لهم بقُدرةٍ عظيمةٍ من العبوديَّة يف<br />
مرص. وهذا الخالص العظيم هو ما احتفل به يسوع املسيح مع تالميذه<br />
يف تلك الليلة. غري أنَّ أمرًا ما كان يجول يف خاطر يسوع؛ فإذ شاركَ هذه<br />
الوجبة معهم كان جليًّا بأنَّ ما عىل وشك الحدوث هو خالصٌ أعظم-<br />
خالصٌ سيُنقذ شعبَ الله ليس فقط من عبوديَّةٍ برشيَّة، بل عبوديَّتهم<br />
للخطيَّة واملوت واالنفصال عن الله. ما كان عىل وشك الحدوث هو فعلُ<br />
محبَّةٍ أعظمُ من الخروج من مرص. وإليك ما قالَه املسيح يف العشاء األخري:<br />
‘‘وبينَام كانوا يَأكُلونَ ، أخَذَ خُبزًا وبارَكَ الله، وقسَّ مَه<br />
وأعطَى التَّالميذَ وقالَ : »خُذُوا كُلوا، فهَذا هو جَسَ دي«.<br />
ثمَّ أخَذَ كأسَ نَبيذٍ ، وشكرَ، وأعطاها لهم وقالَ : »ارشَبوا<br />
من هَذه كلُّكُم. ألنَّ هَذا هو دَمي، دمُ العَهد الذي يُسفَكُ<br />
من أجل كثريينَ ، ملغفرةِ خَطاياهم«’’. 12<br />
آلَتْ محبَّةُ يسوع لتالميذه إىل هذا: سفكِ دمه طَوعًا من أجل<br />
خالصهم. وسيكونُ مَوتُه سببَ حُرِّيَّتهم، وغُفران خطاياهم جرَّاء<br />
تقاعصهم ومترُّدهم عىل الله.<br />
ما سنَستعرضُ ه اآلن من الكتاب املقدَّس هو أحد املشاهد األكرث هَيبةً<br />
وإجالالً ؛ ألنَّه حميمٌ وأليمٌ جدًّا. أخذَ يسوعُ تالميذَه بعد العشاء إىل بُستانٍ<br />
يُدعى جَثسَ يامن، وذهب ليصيلِّ َ هناك عاملًا ما كان بانتظاره. كانت الصالة<br />
التي رفعَها يسوعُ هناك يف البُستان صالةَ أملٍ وحُزن، غري أنَّها أطلَعَتْنا<br />
مجدَّدًا عىل محبَّة املسيح التي دفعَتْه ليَحتملَ آالمَ الصليب: ‘‘وسجدَ<br />
103<br />
)12 متَّى .28-26 :26<br />
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
وَوَجهُه إىل األرض وبدأ يُصيلِّ : »يا أيب، إنْ كانَ مُمكنًا، فَلتَتَجاوَزن هذه<br />
الكَأسُ . لَكن لَيسَ كام أريدُ أنا، بل كام تُريد«’’. 13<br />
كان ميُ كنُ أن تتجاوَزَ الكأس- كأس غضب الله التي كان يسوع عىل<br />
وشك أن يرشبَها- عن يسوع. كان ميكنُ له أن يرفضَ ها وال يرشبَها، وذلك<br />
بأن يرتكنا، نحن الخطاةَ، نقع تحت العقاب املوت والغضب اإللهيِّ إىل األبد.<br />
وحينام أرادَ أحَدٌ من تالميذه الدِّفاع عنه وإبعاد الذين جاءوا ليصلبوه،<br />
وبَّخه يسوع وقال إنَّه ليس مُحتاجًا إىل مَن يدافع عنه، إذ ميكنُه أن يطلبَ<br />
اثنتَي عرشةَ فرقة14ً من املالئكة. اثنا عرش ألفًا من املالئكة الحارضة يف أيَّة<br />
لحظةٍ للوقوف يف وجه الجنود، وإحضار يسوع إىل السامء يف غضون همسةٍ<br />
من شفتَيه. وهناك سيَحظى باملجد وتسبيح ألوفٍ وربوات من املالئكة التي<br />
ستُكرِّمه إىل األبد ألنَّه ابن الله كاملُ العدل والربّ.<br />
غري أنَّه مل يُنادهم، بل تركهم واقفني عىل عتبة السامء حائرين مامَّ<br />
يحدث؛ ألنَّ يسوع واآلب السامويَّ عزما عىل إنقاذ شعبه اآلثم. ويف سبيل<br />
تحقيق ذلك كان ال بدَّ أن يرشبَ يسوعُ كأس غضب الله. أمَّا يسوع فكان<br />
يف البستان وكأنَّه يسأل قائالً : ‘‘هل مثَّة سبيل آخر إلنقاذهم، يا أيب؟ هل<br />
ميكن إنقاذ هؤالء دون أن أقايسَ عقابَ املوت واالنفصال عنك؟’’. والردُّ<br />
كان صمتًا يرصخ: ‘‘ال! ليس مثَّة سبيل آخر’’.<br />
ملاذا؟ ألنَّه ال ميكن أن يكنسَ الله الخطيئة ويخفيها تحت البساط. ال<br />
ميكن أن يتجاهلَها أو يتظاهَرَ بأنَّها مل تحدُثْ قَطّ ، أو يغفرَها ببساطة ودون<br />
حساب. ففوق كلِّ يشءٍ، وكام يطلعنا ناظمُ املزمور: ‘‘العَدلُ واإلنصافُ<br />
)13 متَّى .39 :26<br />
14( كانت تتألَّف فرقة الجيش آنذاك من ألفِ جُنديّ )املرتجم(.<br />
104
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
يَسندان عَرشَ ه’’. 15 لذا اختار يسوع طَوعًا أن يرشب كأس غضب الله، ألنَّه<br />
أحبَّنا وأراد أن ينقذنا. أجل! وألنَّه أيضً ا أحبَّ الله اآلب ومل يُرد أن يتالىش<br />
مجده يف األثناء. وهكذا سنخلُص نحن وسيتمجَّدُ الله.<br />
رشيطةَ أن ميوتَ امللك يسوع.<br />
بينما تعلَّق هناك ليموت<br />
سيبقى حُكم الصلب الذي مارسه الرومان أكرث طرق اإلعدام بشاعةً وإذالالً<br />
شهدَها العامل يومًا. كان فظيعًا حتَّى إنَّ أفرادَ الطبقة الربجوازيَّة واملتحضِّ ة<br />
يف املجتمعات الرومانيَّة واليونانيَّة مل يتجرَّأوا عىل لفظ كلمة ‘‘الصليب’’ يف<br />
املجالس املحرتمة. كانت هذه كلمةً بغيضةً تُشري إىل أحقر أساليب املوت<br />
وأبغضها.<br />
مل يكن الصَّ لبُ يف العامل الرومانِّ حَدَثًا رسِّيًّا، بل كان علنيًّا مبارشًا<br />
بصورةٍ مُؤملة. والقصد منه هو إخضاع الجموع للسُّ لطات بالتَّخويف.<br />
فقد حرصَ الرومان عىل نصب الصُّ لبان التي تحملُ أجسادَ املحتَضَ ين<br />
الشاحبة واملشوَّهة- أو حتَّى أجساد املوىت العَفِنة- بانتظامٍ عىل جوانب<br />
الطرق املؤديَّة إىل املُدن. بل حدَّدوا أوقاتًا مُعيَّنة للصَّ لب تتوافق مع<br />
األعياد الدينيَّة واملدنيَّة ليشهدَ أكرب عددٍ من الناس الرُّعبَ الحاصل. كان<br />
الصلب عقابًا منترشًا يف أرجاء اإلمرباطوريَّة بأكملها، ويستهدفُ آالفًا من<br />
القتلة واللصوص والخَوَنة، وال سيَّام العبيد، ليصلبهم بقسوةٍ عىل مرأًى<br />
من الجميع. كان رُعب الصلب ال مفرَّ منه يف الحياة اليوميَّة تحت السلطة<br />
الرومانيَّة التي قَصَ دت ذلك متامًا.<br />
105<br />
)15 مزمور .2 :97 ،14 :89
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
ورُغمَ أعداد عمليَّات الصلب وتكرارها، فاألمرُ املفاجئ هو نُدرة<br />
السجالَّ ت التي توثقِّها. والسبب مرَّةً أُخرى هو نُفور الجميع من التحدُّث<br />
بشأنها. وملَ ال؟ فالصليب كان فرصةً للمُعذِّبني أَباحَتها الحكومة الرومانيَّة<br />
بل شجَّعتها أيضً ا، ليامرسوا فيها أرشسَ وأقىس رضباتٍ يف مُخيَّلتهم، مامَّ<br />
يبنيِّ ُ ملا كانت أغلبُ السجالَّ ت التي تتحدَّث بذلك قصرية، والكتَّاب عادةً<br />
ما ينوِّهون إىل سوء ما حصل بدل أن يُعطوا أيَّ تفصيلٍ عنه. وكأنَّهم<br />
يقولون: ‘‘أنت ال تُريد أن تَعلم’’.<br />
جسدٌ ممزَّقٌ عىل خشبة، ومسامريُ حديديَّة اخرتقَتْ ما بني العظام<br />
واألعصاب التالفة، ومفاصلُ مخلوعة إثر ثقل الجسد شبه امليت، وذلٌّ عىل<br />
مرأًى من العائلة واألصدقاء والعامل أجمَع. هذا هو املوت عىل الصليب. أو<br />
ما دعاه الرومان ‘‘بالعمود الشائن’’ و‘‘الخشبة القاحلة’’ وبلغتهم ‘‘ماكسيام<br />
ماال كروكس’’ crux) .(maxima mala ويلفظُه الرومان باشمئزازٍ قائلني:<br />
‘‘ستاوروس’’ .(stauros) ليس من العجب أنَّ أحدًا مل يرغب يف التحدُّث<br />
بشأنه، واآلباء واألمَّهات غطُّوا أعنيُ أطفالهم عن مشاهدته. كان الستاوروس<br />
مثريًا لالشمئزاز، وكذلك الذي مات عليه كان مُجرمًا كريهًا ال فائدة منه سوى<br />
التعلُّق هناك، ليكونَ تحذيرًا باليًا وعَفِنًا لكلِّ مَن يسريُ عىل خُطاه.<br />
هكذا مات يسوع.<br />
غري أنَّ صَ لبَه كان مُختلفًا عامَّ سبق وشاهدَتْه أعنيُ الناس. كان مشهدُ<br />
الصلب هذا ينبئُ بأنَّ الرجُل املعلَّق عىل هذا الصليب كان استثنائيًّا. أمرٌ<br />
غري اعتياديٍّ كان يحصل يف تلك األثناء.<br />
يف بادئ األمر، كانت ترصُّفات يسوع وأقواله بينام كان عىل الصليب<br />
106
غري مسبوقة. فقد كان أغلب املُجرمني الذين يصلبهم الرومان ميُ ضون<br />
ساعاتهم األخرية يرجون الرحمة أو يشتمون الجنود واملتفرِّجني من<br />
حولهم أو يئنُّون متألِّمني، وهذا عىل خالف يسوع. فبينامَّ كان يسوع<br />
عىل الصليب، احتمل استهزاءَ قادة اليهود به، وتهكُّم الرجال الذين صُ لبوا<br />
إىل جانبه، ونظرات الجنود الرومان الباردة واملجرَّدة. بل أبدى فوق هذا<br />
املحبَّة للَّذين صَ لَبوه. وحينام عَلم أحدُ الرجال املصلوبني إىل جانبه مَن<br />
يكون وآمن به، قال له يسوع: ‘‘أقولُ الحقَّ لَكَ ، اليَومَ ستَكونُ مَعي يف<br />
الفِرْدَوس’’. 16 وبينام اقرتع الجنود أسفل الصليب عىل لباسه، رفعَ عَينَيه<br />
إىل السامء وصىلَّ : ‘‘يا أيب، سامحهُم ألنَّهُم ال يَدرُونَ ما يَفعَلونَ’’. 17 إنَّ هذا<br />
أمرٌ مثريٌ للدَّهشة! فبينام كان يسوع مصلوبًا مل تبطُل محبَّته وال اهتاممه<br />
بخالصِ مَن حوله وإعطائهم رجاء.<br />
كام احتمل يسوع السخرية التي مل تتوقَّف، والتي بدأها الرومان<br />
بعدما جلدوه؛ إذ ألبسوه رداءً أرجوانيًّا، ووضعوا يف يده عصً ا لتبدو<br />
كصَ ولجان، وصنعوا تاجًا من الشوك وغرزوه يف رأسه. ثمَّ انحنوا له وهم<br />
يضحَكون قائلني: ‘‘يعيشُ مَلكُ اليَهود!’’. كان القصد من إهانة يسوع<br />
هو إهانةَ الشعب اليهوديِّ كلِّه معه، ومع هذا أطلق الشعبُ اليهوديُّ<br />
صَ يحاتِ االستهزاء نحو السيِّد املسيح متامًا كالجنود الرومان بينام تعلَّق<br />
هو عىل الصليب. وقال أحدهم: ‘‘إنْ كُنتَ ابنَ الله، فَخلِّص نَفسَ كَ ،<br />
وانزل عن الصَّ ليب!’’. وصاح آخر قائالً : ‘‘خلَّصَ غَريه، لكنَّه ال يَستطيعُ<br />
أن يُخلِّصَ نَفسَ ه!’’.<br />
107<br />
)16 لوقا .43 :23<br />
)17 لوقا .34 :23<br />
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
وإذِ انهالَتْ الصَّ يحات عىل يسوعَ، مل يَقُل كلمةً يف املُقابل، عاملًا أنَّ بعضً ا<br />
مامَّ قالوه مُستهزئني كانَتْ فيه أوصافٌ صحيحةٌ مل يقصِ دوها. لكنَّه احتمل. 18<br />
ثمَّ خيَّمت الظلمة عىل املكان. إذ يُخربنا كُتَّابُ األناجيل بأنَّ ظلمةً<br />
حالكةً لفَّتْ أورشليم من الساعة السادسة حتَّى التاسعة، أي ما بني<br />
الظَّهرية والساعة الثالثة بعد الظُّهر بالتَّوقيت الحايلّ. كثريًا ما حاول<br />
املفرسِّ ون جاهِدين تفسريَ تلك الظاهرة: لرمبَّ ا كان كسوفًا، أو عاصفة<br />
رمليَّة، أو نشاطًا بُركانيًّا. غري أنَّ املتفرِّجني أدركوا فورًا أنَّه عملٌ من الله.<br />
فيقول لوقا ببساطة: ‘‘فلَم تُرسلِ الشَّ مسُ ضَ وءَها طَوالَ ذَلكَ الوَقت’’. 19<br />
ويف الحقيقة، كانت الظلمةُ التي لفَّت املنطقة إشارةً أكيدة إىل ما<br />
كان يحدُث عىل الصليب بينام لفظَ يسوع أنفاسَ ه األخرية. إذ يصوِّرُ<br />
الكتاب املقدَّس الظلمةَ مرَّة تلو املرَّة إشارةً إىل دينونة الله. كأنَّها ظُلمة<br />
املوت والقرب. وهناك عىل الجُلجُثة حلَّتْ ظُلمةُ الدينونة عىل العبد املتألِّم<br />
يسوعَ ابنِ الله.<br />
وملَّا ارتفعت الظُّلمة، يُخربنا البشري متَّى بأنَّ يسوع رصخ عاليًا:<br />
‘‘إييل، إييل، لَام شَ بَقتَني؟’’، وهي لغةٌ أراميَّة تعني: ‘‘إلَهي، إلَهي، ملاذا<br />
تَرَكتَني؟’’. 20 كان هذا اقتباسً ا من املزمور ، 22 الذي هو أُنشودةٌ تألَّم فيها<br />
امللك داوُد مجازيًّا بدلَ اليهود. فام الذي قصده يسوع بذلك؟ قصدَ أن<br />
يبنيِّ َ أنَّه كان يف وسط ظلمة العقاب تلك ميُ ثِّلُ شعبَه بأخذه القِصاص الذي<br />
استحقُّوه- قصاصَ الرتك من الله واالنفصال والتخيلِّ والنَّبذ. ما حدث<br />
)18 متَّى .42 ،40 ،29 :27<br />
)19 لوقا .45 :23<br />
)20 متَّى .46 :27<br />
108
حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />
هناك عىل الصليب كان أن وُضِ عَتْ كلُّ خطايا شعب الله عىل يسوع<br />
وموته إثرَ ذلك. بدالً منهُم، فكان بطلهم، وممثِّلهم وملكهُم.<br />
وهكذا طُبِّق الحكمُ املقيض قدميًا جدًّا يف جنَّة عدن. كُرست اللعنة.<br />
نُبذ يسوع ابن الله من اآلب السامويِّ من أجل خطايا شعبه، وبعد أن<br />
رصخَ قائالً : ‘‘قد تمَّ’’، أسلمَ الروحَ ومات.<br />
وما حصل بعد ذلك يُثري العجب. يقول لنا متَّى إنَّ ستارةَ الهيكل-<br />
وهي ستارةٌ يبلغُ ارتفاعُها نحو مثانية عرش مرتًا، فَصلَت الناس عن قُدس<br />
أقداس الهيكل حيث كان الله حارضًا- متزَّقت من املنتصف من أعىل إىل<br />
أسفل. 21 وبهذا بنيَّ الله للبرشيَّة بأنَّ مَنْفاهُم الطويلَ عن محضه وصل<br />
إىل نهايته. بعد آالف السنني من اليوم الذي نظر آدم وحوَّاء إىل الوراء<br />
نادِمَني يبكيان عىل طردهام من جنَّة عدن، عاد البرش مُرحَّبًا بهم مرَّةً<br />
أُخرى للدُّخول يف قُدس األقداس، إىل محض الله.<br />
أتمَّ العبد املتألِّم وملك املُلوك وبطل البرشيَّة عمله. فبحياته أنجزَ كلَّ<br />
عملٍ بارٍّ مطلوب، وبدمه دفع العقاب الذي استحقَّه الشعب لخطاياهُم.<br />
قلبَ انتصارَ الشيطان، وظفرَ بالخالص إىل األبد!<br />
لكنَّه كان راقدًا يف قرب حتَّى تلك اللحظة.<br />
109<br />
)21 متَّى .51 :27
الفصل 8<br />
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
كان املُجرمان املصلوبان إىل جانبَي يسوع ال يزاالن حيَّني، والوقت كان<br />
يلوح نحو مساء يوم الجمعة. ولو أنَّهُام كانا يف مدينةٍ أُخرى لرُمبَّ ا<br />
تركَهُام الرومان مُعلَّقَني عىل الصليب طَوال الليل، أو ناوَلوهام فُتاتًا<br />
من الطعام ورشفة ماءٍ ليَبقَيا أحياءً ويتألَّام بضعة أيَّام أُخرى. غري<br />
أنَّ الرومان قرَّروا هذه املرَّة عدم القيام بذلك يف أورشليم. ورُغمَ أنَّ<br />
الرومان كانوا يُطبِقون عىل أعناق الشعوب التي احتلُّوها، فإنَّهُم كانوا<br />
يُبدون شيئًا من االحرتام للشعائر الدينيَّة لهذه الشعوب. وكانت هذه<br />
هي حالهم مع اليهود؛ فغروب الشمس يومها كان يعني بداية سبتِ<br />
العيد، وهو يومُ عبادةٍ وراحة لليهود ينتهي وقت غروب شمس اليوم<br />
التايل، وحينام التمس قادة اليهود الحاكِم ليترصَّفَ حِ يال األجساد<br />
املعلَّقة عىل الصُّ لبان لئالَّ تبقى كذلك يف السبت، وافقَ عىل طلبهم.<br />
لكنَّ هذا عنى أنَّه ينبغي أن ميوتَ الرجال الثالثة املعلَّقون حاالً ؛<br />
لذا أُعطي الجنودُ األمرَ بتنفيذ ما سُ مِّي بالكروريفراغيوم .(Crurifragium)<br />
يعني هذا أنَّ أحدَ الجنود جاءَ بعصا رُمحِ ه ورضبَ ساقَيْ أحد اللِّصني<br />
وهشَّ مَهُام. حتامً رصخ الرجلُ بأملٍ شديد، إالَّ أنَّ فِعلَ الرحمة القاسية<br />
111
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
هذا، بحسب ما اعتقده الرومان، كان يعني نهاية املعاناة برسعةٍ أكرب؛<br />
فالرجُل ال يقدر اآلن أن يرفع نفسه ليلتقطَ أنفاسَ ه، وسيَموتُ يف غضون<br />
بضع دقائق. وهذا ما حصل مع الرجُل اآلخر. أمَّا يسوع فحينام جاءوه<br />
بالرُّمح أدركوا أنَّه مات. أدهشَ هم هذا؛ ألنَّ املصلوبني ال ميوتون غالبًا بهذه<br />
الرسُّ عة. وللتحقُّق، رفعَ أحد الجنود رمحه وغرزَه عميقًا يف جنبِ يسوع.<br />
وملَّا سحبَ الرُّمح سالَ من الجُرحِ دمٌ وماءٌ منفصلَني؛ وكان هذا عالمةً<br />
حتميَّةً عىل موته.<br />
كان بعضُ تالميذ يسوع مع مريم أمِّه حارضين يف الجُلجُثة هناك<br />
يشاهدون ما حدث. شاهَدوا الجنودَ يدقُّون املسامري يف مِعصمَي يسوع<br />
عىل الصليب، وقضيبًا حديديًّا آخرَ يف قدمَيه. ثمَّ شاهدوا الصليب يُرفَعُ<br />
عاليًا يف مكانه، والظلمةُ تحجُبُ الشمسَ عند الظَّهرية. وسمعوا يسوع<br />
أيضً ا يرصُخُ متألِّامً بينام اختربَ رفْضَ اآلب له، وما قاله مُعلِنًا نهاية العَمَل.<br />
ورأوه أخريًا يُرخي جسده إىل األمام وميوت. فأدركوا حينها أنَّه ينبغي أن<br />
يُنزلوا جسده؛ فالرُّومان لن يفعَلوا هذا لهم.<br />
وكان هناك رجُلٌ ثريٌّ اسمُهُ يوسف الراميّ ، أحدُ أتباعِ املسيح، قد<br />
أبقى إميانَه باملسيح مخفيًّا حتَّى باح به يف تلك اللحظة لسببٍ ما. فذهبَ<br />
إىل الحاكِم بيالطُس واستأذنه أن يترصَّفَ بجسد يسوع؛ فقد كان يوسف<br />
ميلُكُ قربًا قُطِ عَ يف الصَّ خرِ حديثًا يف بستانٍ مُجاور، أراد أن يضعَ يسوعَ<br />
فيه. وبعد أن أُذِنَ لهم بذلك، رشعَ يوسُ فُ وبعضٌ من تالميذ يسوع<br />
بعملٍ غريَ سارّ: تجهيز الجسد للدَّفن. أُنزِل الصليبُ ، وانتُزعت املسامري<br />
الحديديَّة من يَدَيْ يسوع وقدمَيه، وأُزيلَ تاجُ الشَّ وك املوضوع عىل رأسه.<br />
ثمَّ لُفَّ جسدُه باألكفان ووُضع بينها خليطٌ من األطياب والزيوت يَزِنُ<br />
112
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
نحو خمسةٍ وثالثني كِيلوغرامًا، بحسب ما يُخربنا به أحد الكُتَّاب. 1<br />
غري أنَّهُم مل يستطيعوا إنهاءَ العمل يف الوقت املناسب؛ ألنَّ الشمسَ<br />
كانت تغرُب. فاضطُرُّوا ألن يَدَعوا إكامل عادات الدفن إىل صباح يوم<br />
األحد بعد انتهاء السبت. وحتَّى ذلك الحني لفُّوا جسد يسوع باألكفان<br />
وحملوه إىل القرب ووضعوه فيه. بعدها، دَحرَجوا حجرًا كبريًا ليُغلِقوا<br />
املدخلَ وذَهَبوا إىل منازلهم.<br />
لطاملا تساءَلتُ عامَّ شَ عَرَ به هؤالء الذين كرَّسوا السنوات الثالث<br />
السابقة من حياتهم التِّباع يسوع يف يوم السبتِ ذاك. ال بدَّ أنَّ<br />
أحداث األيَّام القليلة املاضية جالَتْ يف أذهانهم مُتسائلني عن الوعود<br />
واملعجزات والنبوَّات والترصيحات التي وصلَتِ اآلن إىل نهايتها. حتامً<br />
كانت لديهم أسئلةٌ كثرية. لكن مهام كانت تلك األسئلة، فالجيلُّ يف األمر<br />
هو أنَّ يسوع ميِّتٌ ، متامًا كأيِّ شخصٍ آخر. كان الرومان قد جعلوا منه<br />
أيضً ا عربةً ملن يعتَربِ ، وتخلَّصَ القادةُ اليهود من مشكلةٍ أُخرى. أمَّا رجاءُ<br />
هؤالء الذي ألقوه بالتَّامم عىل يسوع آمِلني أنَّه املسيحُ املنتظَر ابن الله<br />
الحيِّ ، فقد مات معه هناك عىل الصليب.<br />
لذا أتساءل عامَّ كانت عليه حالُ ذلك السبت. يُخربنا اإلنجيل بأنَّ<br />
التالميذ تشتَّتوا بعد أن أُلقي القبضُ عىل يسوع، ويبدو أنَّهم كانوا<br />
مُختَبِئني. ال نعلمُ سِ وى أنَّ عددًا قليالً منهم كان حارضِ ًا لحظة الصَّ لب.<br />
وبالفعل كان يحقُّ لهم أن يقلقوا من مُطاردة السُّ لطات لهم؛ ألنَّهم أتباعُ<br />
ذلك ‘‘املسيح الكاذب’’ ليقتلوهم مِثلَه. لذا دفعهُم الجنبُ لالختباء يف<br />
113<br />
)1 يوحنَّا .42-38 :19
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
منازلهم، أو حتَّى منازل أصدقائهم، فرارًا من سخط الرومان. ورمبَّ ا راحوا<br />
ينوحون أيضً ا. فام الذي يسعُك فعله سوى هذا بعد أن صارَ كلُّ ما رجوتَه<br />
وهامً ، أو أمنيةً اضمحلَّتْ وتالشَ ت؟<br />
أمَّا يسوع ‘‘ابن الله’’ و‘‘املسيح’’ و‘‘ملك إرسائيل’’ و‘‘وارِثُ داوُد’’<br />
و‘‘آدم األخري’’ و‘‘العبدُ املتألِّم’’ ...<br />
كانَ وَهامً .<br />
والحقيقة املرَّة هي أنَّ :<br />
يسوع كانَ مُجرَّد نجارٍ.<br />
من مدينة النارصة.<br />
كان صاحبَهُم.<br />
لكنَّهُ اآلن ميت.<br />
وال بدَّ أنَّ هذا ما شعرتْ به أيضً ا مريمُ والنساء األُخريات يومَ األحد<br />
بينام كنَّ ذاهباتٍ إىل قرب يسوع. مل يذهنبْ َ لينظُرنَ إذا ما حَفِظَ يسوع<br />
وعدَه الجسور بالقيامة من املوت. فحتَّى تلك اللحظة، مل يتذكَّرنَ حتَّى<br />
أنَّه قطع وعدًا كهذا، بل ذهنبْ َ الستِكامل عاداتِ التَّكفني التي مل يتسنَّ<br />
إمتامها ملَّا غابَتِ الشمسُ يوم الجُمعة. وملَّا أتَتِ الفُرصة، أرسَعْنَ إىل قرب<br />
جسدِ ذلك الذي صُ لب قبلَ يومَني.<br />
ورغم أنَّهنَّ توقَّعْنَ صباحًا حزينًا ومغمومًا، فإنَّ شيئًا من ذلك مل<br />
يتحقَّق؛ فام رأَينَه لحظة وصولِهِنَّ إىل القرب صعقهُنَّ بالدَّهشة، بل غريَّ َ<br />
تاريخَ العامل كُلِّه. وإليك ما قاله البشري مَرقُس عن ذلك:<br />
114
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
‘‘ولَامَّ مرَّ السَّ بتُ ، اشرتَ َت مَريَمُ املجدليَّةُ ومَريَمُ أمُّ يَعقوبَ<br />
وسالومَةُ طُيوبًا ليَذهَنبَ ويَدهَنَّ جَسَ دَ يَسوعَ. وباكرًا جدًّا<br />
يف أوَّل األُسبوع، ذَهَنبَ إىل القَرب مع رشُ وق الشَّ مس. وكنَّ<br />
يَتَساءَلنَ : »مَن سَ يحَرِّكُ لَنا الحَجَرَ عن مَدخَل القَرب؟«.<br />
وذَلكَ ألنَّ الحَجَرَ كانَ كَبريًا جدًّا. ثمَّ نَظَرنَ ، وإذا بالحَجَر<br />
قد دُحرجَ عَن مَدخَل القَرب. فَدَخَلنَ القَربَ، فَرَأينَ شابًّا<br />
يَجلسُ عىل الجانب األميَن، البسً ا ثَوبًا أبيَضَ ، فَفَزعنَ . فَقالَ<br />
لهنَّ : »ال تَفزَعنَ ، أننتُ َّ تَبحَنثَ عن يَسوعَ النارصيَّ الذي كانَ<br />
مَصلوبًا. لقد قامَ من املَوت! هو ليسَ هنا. انظُرنَ املكانَ<br />
الذي كانَ مَوضوعًا فيه. ولكن اذهَنبَ وأخربنَ تالميذَه<br />
وبطرسَ أنَّه سَ يَسبقُهُم إىل الجَليل، وسريَ َونَه هناك، كام<br />
أخربَ َهُم من قَبل«’’. 2<br />
تطلَّب ما وَقَعَ عىل مسامِعِهِنَّ وقتًا ليستَوعبْنَه. فهُنَّ أصالً مل يرَينَ<br />
يسوعَ نفسه؛ بل أخربهُنَّ هذا ‘‘الشابُّ ’’ ذو اللِّباس األبيض- وهو املالك-<br />
بأنَّ يسوع حَيّ . أرسعَتِ النساءُ ليُخربِ ن التالميذ، الذين بدَورهِم أتوا إىل<br />
القرب ونظروا وإذ باألكفان التي لفَّت يسوع قد طُويَتْ بعِنايةٍ ووُضعَتْ<br />
جانبًا. فعادوا إىل منازلهِم مدهوشني وحائرين ومملوئني بالرَّجاء.<br />
كان أوَّلَ مَن رأى يسوعَ املُقام من املوت هي امرأةٌ تلميذةٌ منذ<br />
زمنٍ اسمُها مريم املجدليَّة. فبعدما غادر سائر التالميذ القرب، ظلَّتْ مريمُ<br />
لتَنوح. وملَّا انحنت مجدَّدًا لتنظُر إىل داخل القرب الفارغ رأتْ مالكَني<br />
115<br />
)2 مرقس .7-1 :16
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
جالسَ ني حيث كان جسدُ يسوع موضوعًا، فسأالها: »ملاذا تَبكنيَ يا<br />
امرأة؟«. فأجابت مريم: »لقد أخذوا سيِّدي، وال أدرِي أينَ وَضَ عوه!«’’. 3<br />
لنتوقَّف اآلن قليالً لنستوعبَ األمر: بعد كلِّ ما حصل- الحجر املدحرَج،<br />
والقرب الفارغ، واملالئكة املبرشِّ ة بقيامة املسيح من املوت- ال يزال أقربُ<br />
تالميذ يسوع ال يُصدِّقون أنَّه عادَ إىل الحياة. فهُم مل يعودوا بعدُ ساذجني<br />
كام كانوا يف كثري من األحيان قَبالً . ويا للعجب! حتَّى إنَّ مريم املجدليَّة<br />
نظرَتْ يف عينَي مالكٍ وقالت له إنَّها تعتقدُ أنَّ أحدًا ما أخذَ جسد املسيح!<br />
ويخربنا البشري يوحنَّا أنَّ يسوع يف تلك اللحظة متامًا ظهرَ من ورائها.<br />
لكنْ مل يَخطر عىل بالِها أنَّه هو، وظنَّت أنَّه البُستانُّ. فسألها يسوع: ‘‘لِامذا<br />
تَبكِنيَ يا امرأةُ؟ عَمَّن تَبحَثني؟’’. فقالت مريمُ: ‘‘يا سيِّدُ، إنْ كُنتَ أنتَ مَن<br />
أخَذَه، فَقُل يل أينَ وَضَ عتَه فَأذْهَبْ وآخُذه’’. 4 ظنَّت مريم أنَّ البُستانَّ أخذ<br />
الجسد لسببٍ ما. أمَّا يسوع، فلَم يُجب عن سؤالها.<br />
فالوقت حان ملريم أن تعرِف.<br />
‘‘فَقالَ لها يَسوعُ: »يا مَريَم!«’’. نطقَ باسمِها فقط، ومعه املحبَّة<br />
والحنان والقوَّة التي أبداها يسوع كثريًا ملن حوله. فعرفتهُ مريم.<br />
‘‘فَاستَدارَتْ وقالَت له باألراميَّة: »رابونِ !« أيْ »يا مُعَلِّمِي العَظيم!«’’. 5<br />
كان هو! يف نهاية األمر كان يسوع املصلوبُ حيًّا من جديد!<br />
وجاء يسوع إىل تالميذه مرَّة تلو املرَّة عىل مدى األربعني يومًا التالية،<br />
أحيانًا ملجموعاتٍ صغرية وأحيانًا ملجموعاتٍ كبرية جدًّا. كلَّمهم مُجتمعني،<br />
)3 يوحنَّا .13 :20<br />
)4 يوحنَّا .15 :20<br />
)5 يوحنَّا .16 :20<br />
116
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
وخاطبَ بعضً ا منهُم شخصيًّا وعىل انفرادٍ. علَّمهُم أهمِّيَّة ما حصل، وأعانَ<br />
إميانَهم بأنَّه قامَ من املوت فعالً ! فحينام ظنُّوه روحًا، أكلَ أمامهُم شيئًا<br />
من السمك. وحينام تغلغل الندمُ يف أعامق بطرس، سامَحَه. حتَّى إنَّ<br />
أحد التالميذ، واسمُهُ توما، قال برصيحِ العِبارة إنَّه لن يُصدِّق أنَّ يسوع<br />
قامَ من املوت إنْ مل يتمكَّن من وَضْ ع إصبَعِه يف ثُقبَي املسامري يف يدَي<br />
يسوع ويف جُرح الرُّمح يف جنبهِ. وبعد نحو أسبوع، كان الجميعُ مُجتمعني<br />
واألبواب مُغلَّقة، فوقف يسوع بينهُم. ال يُذكر أنَّه طرقَ الباب ودخل، بل<br />
قال الحارضون إنَّه...وقف بينهم...وكان هناك ببساطة! ويف الحال التفتَ<br />
إىل توما وتناوَلَ يده وقال: ‘‘تَعالَ وَضَ عْ إصبِعَكَ هنا وَانظُرْ إىل يَدَيَّ ، وَضَ عْ<br />
يَدَكَ يف جَنْبِي. كَفاكَ شَ كًّا وَآمِن’’. أمَّا توما فذُهِل. ويف طرفةِ عنيٍ عَلِمَ<br />
وقال للمسيح: ‘‘ريبِّ وإلَهي!’’. 6<br />
ال بدَّ أن تُدرِك أنَّ الرجل املاثِل أمامهُم مل يكُن شخصً ا انتعش من<br />
غَيبوبة، وكأنَّهُ مل يكُن حقًّا ميِّتًا عىل الصليب واستطاعَ بطريقةٍ ما استعادةَ<br />
وعيه. بل مل ميُت يسوع ويُنادى عليه من املوت كام حدث مع ابن األرملة أو<br />
لِعازر اللذين ماتا بعد سنواتٍ من ذلك. كالَّ ! فام حدث مع يسوع كأنَّه خاضَ<br />
املوت بأكمله وخرجَ من الجهة األُخرى. كانت الجراح ال تزال هناك. ورغمَ<br />
أنَّها ليست بحاجة إىل الشفاء أو العِالج، فقد كانت بُرهانًا مجيدًا عىل املوت<br />
الذي غُلب. كان هذا يعني تغيريًا جذريًّا للتالميذ. فاإلحباطُ آلَ إىل النُّرصة،<br />
واملوت إىل الحياة، والدينونة إىل الخالص، والهزميةُ إىل الفوز الساحق.<br />
فيسوع حيٌّ .<br />
117<br />
)6 يوحنَّا .28-27 :20
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
قيامةُ المسيح من بين األموات:<br />
األساس والمحور والسَّ ند<br />
دار جدلٌ واسع حول موضوعِ قيامة املسيح عىل مدى العصور، ليكونَ<br />
السؤالُ األبرز فيها: هل حدثت بالفعل؟ ميُ كن تفهُّم سبب وجود هذا<br />
الجدل، فالكثري سيَقفُ عىل املحكِّ . فكِّر مليًّا يف هذا: إنْ كان يسوع قد قامَ<br />
فِعالً من املوت بعد أن ماتَ عىل الصليب، فإنَّ أمرًا استثنائيًّا وعجيبًا حصل<br />
فعالً ، وال بدَّ لنا جميعًا أن نُصغيَ إليه ألنَّ هذا أيَّدَ جميعَ ما قالَه عن نفسه-<br />
بأنَّه هو ابن الله وملك امللوك وربُّ الحياة والعبدُ املتألِّم واألُقنوم الثان من<br />
الثالوث األقدَس. ومن الناحية األُخرى، إنْ مل يقُم يسوع من املوت، فانسَ<br />
األمر كلَّه. لقد انتهى كلُّ يشء. مل يكُنِ األمرُ مُستحقًّا من البداية أن يُعريَه<br />
تاريخُ البرشيَّة انتباهًا هائالً كالذي نراه، وميكنُنا جميعًا اآلن امليضَّ قُدُمًا يف<br />
حياتنا ألنَّ يسوع كان مجرَّد يهوديٍّ آخرَ من آالف اليهود يف القرن األوَّل من<br />
التاريخ الذين ادَّعوا ادِّعاءاتٍ جريئة ثمَّ ماتوا. انتهى األمر.<br />
هل ترى السبب الذي يدفَع املسيحيِّني لتَفخيم حَدَث قيامة املسيح؟<br />
إنَّها املحوَر الذي يَدورُ حولَه اإلميان املسيحيُّ كامالً ، واألساس الذي يُثبَّت<br />
عليه كلُّ يشءٍ آخر، والسَّ ند الذي يرتكز عليه كلُّ ما يف اإلميان املسيحيّ .<br />
ويعني هذا أنَّ ما يُعلنُه املسيحيُّون عن قيامة املسيح من املوت هو<br />
ترصيحٌ جوهريٌّ مُتعلِّق بالتاريخ، وليس بالدِّين. دون شكّ ، هناك نتائج<br />
‘‘دينيَّة’’ مرتتِّبة عىل هذا الترصيح إنْ أردتَ وصفَها بهذا، إالَّ أنَّ هذه<br />
النتائج باطلة إنْ مل يعُدْ يسوع إىل الحياة بالقيامة من املوت حقًّا وتاريخيًّا.<br />
حتَّى إنَّ املسيحيِّني األوائل فَهِموا هذا جيِّدًا، فهُم مل يكونوا مُهتمِّنيَ مبجرَّد<br />
نرشِ قصَّ ةٍ دينيَّةٍ تُشجِّع الناسَ ، وتساعدهُم عىل عَيشِ حياتهِم بصورةٍ<br />
118
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
أفضل، ورمبَّ ا تُعطيهِم عِربة تتَّسم بالرَّجاء يف وسط عواصف الحياة املخيِّبة<br />
لألمل. كالَّ ! فاملسيحيُّون األوائل أرادوا أن يعلمَ العامل بأرسه أنَّهُم آمنوا حقًّا<br />
بخروج يسوع من القرب، وكانوا أنفسهُم يعلَمون أنَّه إنْ مل يقُم يسوعُ حقًّا<br />
من املوت فكلُّ يشءٍ دافعوا عنه باطلٌ وليس سوى وَهْمٍ وبال معنًى. وكام<br />
قال بولس الرسول يف إحدى رسائله: ‘‘فإنْ لَم تَكُنْ هناكَ قيامةٌ لألموات،<br />
فَمعنى هذا أنَّ املسيحَ مل يُقَم منَ املوت. وإن كانَ هَذا صَ حيحًا فَإنَّ<br />
رسالَتَنا فارغةٌ، وإميانُكم فارغٌ... وإنْ مل يَكُن املسيح قد قام من املوت،<br />
يَكونُ إميانُكم باطالً ، وخَطاياكُم لَم تُغفَر بَعدُ...وإنْ كانَ رَجاؤنا يف املسيح<br />
مُرتَبطًا بهَذه الحَياة فَقَط، فَنَحنُ أكرثَ ُ النَّاس استحقاقًا للشَّ فَقة’’. 7<br />
وعباراتٍ أُخرى، إنْ مل يكُن املسيح قد قام من بني األموات،<br />
فاملسيحيِّون أُناسٌ مُثريون للشَّ فقة.<br />
وإليك الوجهَ اآلخرَ للعُملة: إنْ قام املسيحُ فِعالً من املوت، فيعني<br />
هذا أنَّ كلَّ إنسانٍ مُطالبٌ بتصديقِ ما قاله املسيح، واالعرتاف مبَلَكيَّته،<br />
والخضوع له بوصفه املخلِّصَ والسيِّد. وهذا بالتأكيد يشمَلُكَ أنت أيضً ا.<br />
لذا من املهمِّ لك- أجل، لك أنت، يا مَن تقرأ هذا الكتاب- أن تتَّخذَ<br />
قرارًا تُجاه قيامة املسيح. ليس كافيًا أن ال يكونَ لك رأيٌ معنيَّ تُجاهَ<br />
املسألة. إذ تحتاج ألن تفكِّر لبعض الوقت وتُقرَّ إمَّا: ‘‘أجل، أعتقد أنَّ<br />
هذا حدث فعالً . أظنُّ أنَّ يسوع قام من املوت فِعالً ، وهو مَن قال إنَّه<br />
هو’’، وإمَّا ‘‘ال، ال أعتقد أنَّ هذا حصل بالفعل. وأرفُض أيَّ ادِّعاءٍ نادى<br />
به’’. قد تسمَعُ بعضَ الناس يقولون إنَّه من الصحيح أالَّ يكونَ للمرءِ رأيٌ<br />
7( رسالة بولس األوىل إىل أهل كورنثوس 19-13. 15:<br />
119
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
جازمٌ بشأن قيامة املسيح ألنَّه ال يسعُنا الوُصول إىل حقيقة االدِّعاءات<br />
الدينيَّة بُطالنها. لكنْ كام ذكرنا سابِقًا: ليست قيامة املسيح ادِّعاءً دينيًّا<br />
يقومُ به املسيحيِّون، بل هي أمرٌ تاريخيّ . كأنَّهُم يقولون إنَّ هذا حدثٌ<br />
أكيدٌ وفِعيلٌّ كام أنَّ اعتالءَ يوليوس قيرص عرشَ اإلمرباطوريَّة هو حدثٌ<br />
أكيدٌ وفعيلٌّ. إنَّهُ إدِّعاءٌ قابلٌ للفَحص والتَّحقيق، أي ميُ كن الحُكم عليه<br />
والوُصول إىل نتيجة.<br />
هل تؤمن بأنَّها حدثت أم ال؟<br />
إليك قناعةَ املسيحيِّني الجوهريَّة: نحنُ نؤمن بقيامة املسيح من<br />
املوت.<br />
ال نعتقد أنَّ التالميذَ أُصيبوا بهَلوَسةٍ جامعيَّة؛ فهذا غري معقول إنْ<br />
وضعنا يف الحسبان عددَ املرَّات التي رأى أُناسٌ فيها املسيح حيًّا بعد مَوته<br />
ودفنه، ومدَّة ذلك، فضالً عن املجموعات املختلفة التي رأته.<br />
وال نعتقد أنَّ هذا كان خطأً فادِحًا. فآخرُ يشءٍ أراده قادة اليهود<br />
هو إشاعةٌ عن مسيَّا مُقامٍ من املوت تنترش يف األرجاء، لذا كانوا حتامً<br />
سيعرضون جسدَ املسيح أمام الناس ليَدحَضوا اإلشاعة. لكنَّهُم مل يتمكَّنوا<br />
من هذا. ومن جهةٍ أُخرى، إنْ نجا يسوع بطريقةٍ ما من املوت إثر<br />
الصلب، كيفَ يقدر رجُلٌ مُصاب ومجروح ومصلوب ومطعون إقناعَ<br />
أتباعه الشكَّاكني املتعنِّتني أنَّه ربُّ الحياة وغالب املوت؟ ليس احتاملٌ<br />
وارد برأيي.<br />
فضالً عن أنَّنا، نحن املسيحيِّني، ال نظنُّ أنَّ التالميذ كانوا يحبكون<br />
خدعة. فإنْ فعلوا، ما الذي توقَّعوا الحصول عليه منها؟ لِمَ مل يبوحوا<br />
120
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
باألمر ملَّا اتَّضح أنَّهم لن يحصلوا عىل ما أرادوه، ولو بقليلٍ قبلام قطع<br />
الرومان رؤوسهم وساقوا املسامري يف أيديهِم هُم أيضً ا؟<br />
كالَّ ! مل تكُن هلوَسةً أو خطأً أو خِ دعة، بل أمرٌ آخر- أمرٌ ما جعل من<br />
هؤالء الرجال الجُبناء الشكَّاكني شُ هداء ليسوع، وشهودَ عِيان خاطَروا بكلِّ<br />
يشءٍ من أجله تحمَّلوا الكثري- حتَّى القتل املعذِّب- ليقولوا للعامل: ‘‘لقد<br />
صُ لب يسوع، لكنَّه حيٌّ اآلن!’’.<br />
السُّ لطة للحُكم والحساب...واإلنقاذ<br />
بعد يوم األحد ذاك، أمىض يسوع أربعنيَ يومًا يف تعليم تالميذه وإرسالهم<br />
ليُنادوا مبُلكه اآليت عىل العامل عند رجوعه يف نهاية الزمان. ثمَّ صعد إىل<br />
السامء. قد يبدو لك هذا تعبريًا دينيًّا وخرافيًّا آخرَ بال معنى، إالَّ أنَّ كُتَّاب<br />
اإلنجيل مل يظنُّوه هكذا. بل وَصَ فوا صعودَ يسوع إىل السامء بكلامتٍ حرفيَّةٍ<br />
ومبارشة كام ييل:<br />
‘‘وبَعدَ أن أنهى قَولَه هَذا، رُفعَ إىل السَّ امء وَهُم يُراقبونَ .<br />
وأخفَته سَ حابَةٌ عن أنظارهم. وبَينَام كانوا يُحدِّقونَ فيه<br />
وهو يَصعَدُ، وَقَفَ فَجأةً إىل جانبهم رَجُالن يَرتَديان ثيابًا<br />
بَيضاءَ. فَقاال: »أيُّها الرِّجالُ الجليليُّونَ ، ملاذا تَقفونَ هكذا<br />
ناظرينَ إىل السَّ امء؟ إنَّ يَسوعَ هذا الذي رُفعَ عَنكُم إىل<br />
السَّ امء، سيأيت ثانيةً بالطَّريقَة نَفسها التي رَأيتُموه يَصعَدُ<br />
بها إىل السَّ امء«’’. 8<br />
121<br />
)8 أعامل .11-9 :1
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
كانت حادثةً مالَتْ برؤوس التالميذ إىل األعىل ناظرين إىل الغيوم<br />
ومُتساءلني عن مكانِ ذهاب يسوع. مل يكُن هذا صعودًا روحيًّا، بل كان<br />
جسديًّا.<br />
وتكمُن أهمِّيَّةُ صعود يسوع يف داللتها أكرث منها يف حقيقتها. فليس<br />
القصد من هذا خروج املسيح من املشهد بطريقةٍ دراميَّة، بل كان عمالً<br />
إلهيًّا يُقصَ د به تتويج يسوع وتسليمه سلطة الحُكم والحِ ساب، وأروعُها،<br />
سلطة اإلنقاذ! إنْ كُنتَ مُدركًا أنَّك خاطئٌ ومُستحقٌّ عقابَ غضبِ<br />
الله بسبب مترُّدك عليه، فحقيقة جلوس املسيح اآلن عىل عرش الكَونِ<br />
هي أخبارٌ سارَّة لك. ألنَّ هذا يعني أنَّ امللك األعظم الذي له الحقُّ يف<br />
مُحاسبَتِك والحُكم عليك، هو نفسه من يحبُّك ويدعوك لتحصُ لَ عىل<br />
الخالص والرحمة والنعمة من يده.<br />
هذا مع يعنيه الكتاب املقدَّس يف قوله: ‘‘كلُّ مَن يَتَّكِلُ عىل الربِّ<br />
سَ يَخلُص’’. 9 ويعني هذا أنَّ ليسوع، الربِّ املُقام والحاكم، الذي أعطاه<br />
الله كلَّ سُ لطانٍ يف السامء ويف األرض، الحقَّ والسلطان أن يخلِّص الناس<br />
من خطاياهم.<br />
ماذا ستفعل اآلن؟<br />
فألسألك: إنْ كان هذا كلُّه حقيقيًّا، ماذا ستفعل اآلن؟ إنْ قام يسوع من<br />
املوت حقًّا، وهو فعالً مَن قال عن نفسه إنَّه هو، ما الذي ستفعله اآلن؟<br />
فألُخربك مبا قاله يسوع عامَّ ينبغي أن تفعَل. ليسَ األمرُ مُبهَامً أو<br />
9( رسالة بولس إىل أهل رومية 13. 10:<br />
122
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
مُعقَّدًا؛ فيسوعَ أخربنا جليًّا. مِرارًا وتَكرارًا بينام كان يسوع يُعلِّم الجموع<br />
ويحبُّهم ويواجِهُهم بخطاياهُم، ويخربهم عن نفسه، أخربَهُم أن يُؤمنوا<br />
به- أي أن يَضَ عوا إميانَهم وثقتَهم فيه. إذ قال: ‘‘توبوا وآمِنوا بِهذِ ه<br />
البِشارة’’. ويُخربُنا أحد كتَّاب اإلنجيل: ‘‘فَقَد أحَبَّ الله العالَمَ كَثريًا، حتَّى<br />
إنَّه قَدَّمَ ابنَه الوَحيدَ، لِيكَ ْ ال يَهلِكَ كلُّ مَن يؤمِنُ بِه، بل تَكونُ له الحياةُ<br />
األبَديَّة’’. 10<br />
لكنْ لألسف، صارت كلمة ‘‘إميان’’ لكثري من الناس خاليةً من املعنى<br />
وعقيمة، كاإلميان بوجود فضائيِّني أو حوريَّات بحر. لكنْ كانت كلمة<br />
اإلميان منذ قرون قويَّةً وجدِّيَّة تُقال عن شِ دَّة من بَرهن نفسَ ه مُستحقًّا<br />
لها وعن مصداقيَّته وأمانته. وهذا ما عناه يسوع حينام قال للناس أن<br />
يُؤمنوا به. ومل يقصِ د مجرَّد استنتاج أنَّه كان موجودًا يف وقتٍ ما، بل أن<br />
تتَّكل عليه كلِّيًّا؛ أي ينبغي أن متُ عنَ يف النظر يف ما قاله وفعَلَه، وأن تُقرِّرَ<br />
إنْ كان يستحقُّ ثقتَك واملخاطَرة بحياتك من أجله.<br />
لكنْ ما معنى هذا؟ ملاذا نثق بيسوع؟ كام سبق ورأينا، تُعلِّمنا قصَّ ة<br />
الكتاب املقدَّس كلُّها أنَّنا جميعًا أعداءٌ لله متمرِّدون عليه. لقد أخطأنا<br />
تُجاهَه وانتَهَكْنا رشيعتَه وألقَينا بسُ لطته بعيدًا من حياتنا مباليني األساليب.<br />
وبسبب هذه الخطيَّة، نستحقُّ أن نُقايسِ َ العقابَ الذي تتطلَّبه الخطيَّة:<br />
املوت. نستحقُّ أن نوتَ جسديًّا وأن يسكُبَ الله غضبَه غري املحدود<br />
علينا. املوت هو األجر الذي جلبتْه علينا الخطيَّة.<br />
ما نحتاج إليه أكرث الكلِّ إذًا هو أن نكونَ أبرارًا أمامَ الله، ال مُذنِبني.<br />
123<br />
)10 مرقس 15؛ :1 يوحنَّا .16 :3
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
نحتاج ألن يُصدِ رَ حُكامً يكونُ ملصلحتنا، وال يكونُ ضدَّنا. وهنا يأيت دورُ<br />
اإلميان بيسوع. إليك بشارةَ اإلنجيل، الخرب السارُّ بيسوع املسيح: أنَّ الغاية<br />
من مجيء املسيح هي وُقوفُه يف مكان خطاة مثيل ومثلك، والقيام مبا<br />
كان ينبغي أن نفعله منذ البداية، واستنفاد لعنة املوت التي ضدَّنا. لذا<br />
فإنَّ اإلميان بيسوع هو عملٌ بالغُ األهمِّيَّة. يخربنا الكتاب املقدَّس بأنَّنا<br />
حينام نؤمنُ بيسوع املسيح ونثقُ به ونتَّكل عليه، نتَّحد فيه بوصفه مَلِكَنا<br />
ومُمثِّلنا وبَدِ يلَنا. ويف طرفة عَني، صار سجلُّ حياتِنا وما يحويه من إثمٍ<br />
وعِصيانٍ ومترُّدٍ ضدَّ الله منسوبًا إىل يسوع، فامتَ نتيجةَ هذا، بدالً عنَّا. ويف<br />
اللحظة نفسها، يُنسبُ إلينا سِ جلُّ حياة يسوع املثاليَّة من الطاعة واملسري<br />
مع الله، فيحتَسِ بُنا الله أبرارًا عىل أساس تلك الحياة الكاملة.<br />
أترى هذا؟ تحدُثُ مبادلةٌ عجيبةٌ حينام تتَّحد بيسوع باالتِّكال عليه:<br />
يسوع يحمِل خطيَّتك وميوت بسببها. وتأخذ أنت بِره، وتحيا ألجله!<br />
وهناك املزيد أيضً ا: يعني االتِّحاد بيسوع باإلميان أنَّ كلَّ ما هو من حقِّ<br />
يسوع بسبب طاعته الكاملة لآلب، يصريُ لك أيضً ا! إذ ليسَ تْ أيٌّ من<br />
بركات الطاعة من حقِّنا؛ فنحنُ ال نستحقُّها. إالَّ أنَّ جميعها من حقِّ<br />
يسوع، ونحنُ نستقبلها التِّحادنا به بتشبُّثٍ كبري وواثق. وإذ إنَّ يسوع<br />
حُسبَ بارًّا تُحسبُ أنت بارًّا بِهِ. يسوعُ متجَّد، إذًا أنت ستتمجَّد. قام<br />
يسوع من املوت، وكذلك أنت- ألنَّك اتَّحدْتَ به- ستقوم من األموات يف<br />
يوم عَودته إىل األرض يف نهاية الزمان. لذلك يَصِ ف الكتاب املقدَّس يسوع<br />
بأنَّه ‘‘أوَّلُ حَصادِ’’ مَن ماتوا وسيقومون من املوت إىل الحياة. 11 فإذ يحيا<br />
هو ألنَّ له الحقَّ يف ذلك، نحيا نحن أيضً ا باالتِّحاد به.<br />
11( رسالة بولس األوىل إىل أهل كورنثوس 20. 15:<br />
124
الربُّ المُ قام والحاكم<br />
ال يخصُّ هذا الكالم عن املسيح، بوصفه املمثِّل والبديل، جميعَ الناس<br />
يف العامل. ال بل إنَّ املسيح يقفُ بديالً عن أولئك الذين يعرتفون بأنَّه حقًّا<br />
مَن قال إنَّه هو، ويجدون أنَّه قادرٌ عىل فعل ما قال إنَّه قادرٌ عليه، ومَن<br />
يضعون إميانَهم وثقتهم واتِّكالهُم عليه نتيجةَ ذلك. الحظْ أنَّنا، نحن البرش،<br />
يف مترُّدٍ مكشوف عىل اإلله خالقنا. لذا ليس الله مُضطرًّا بتاتًا أن يُخلِّصنا.<br />
بل بالعكس، كان ميُ كنه إهالكنا وإرسالنا إىل نار جَهنَّم، وسيكون هناك<br />
تسبيح من املالئكة لله عىل عدله الخالِص. وكانوا سيقولون شيئًا كهذا:<br />
‘‘هذا مصريُ كلِّ مَن يتمرَّد عىل الله العيلِّ!’’. لكنَّ محبَّة الله الخالصة لنا<br />
جعلَتْه يُرسِ لُ ابنه الوحيد يسوع املسيح لريحمَنا نحنُ املتمرِّدين، إنْ جِئنا<br />
وسجدنا له واعرتفنا به وتشبَّثنا به بوصفه ملِكَنا الرشعيَّ . فإنْ فعَلْنا هذا،<br />
سيَمثُلُ هو بِدَوره بدافع محبَّته العجيبة ليكونَ البديل عنَّا، لينسِ بَ إلينا<br />
سجلَّ حياته البارَّة، ويحملَ عنَّا عِقاب املوت.<br />
ال يعني هذا أنَّ اإلميان بيسوع خالٍ من املتطلَّبات املرتتِّبة عليك. كالَّ !<br />
فحينام تؤمن بيسوع وتعرتف به بوصفه ممثِّلك والبديل عنك، وتعرتف<br />
بأنَّه املسيح امللك، فيعني هذا أنَّه سيُامرسُ سلطانَه عىل حياتك، بتنبيهك<br />
بضورة الرُّجوع عن خطاياك ومترُّدك عىل الله. وهذا ما يُسمِّيه الكتاب<br />
املقدَّس التَّوبة؛ وهي حربٌ تُعلنها عىل اإلثمِ يف حياتِك وتسعى إىل النموِّ<br />
يف الربِ ِّ لتُشابِهَ يسوعَ أكرثَ فأكرث. لكنَّك لن تقومَ بهذا وحدك؛ فالكتاب<br />
املقدَّس يُخربِ نا بأنَّنا حينام نتَّحِ د بيسوع باإلميان يأيت الروح القُدُس-<br />
األقنوم الثالث من الثالوث األقدس- ليسكُنَ فيك، وهو مَن يُعطيك القوَّة<br />
والرغبة لتُحاربَ الخطيَّة وتسعى إىل الربّ.<br />
فام يعنيه اإلميان بيسوع هو االتِّكالُ عليه ليُنقذكَ ؛ إذ ليس مثَّة<br />
125
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
سبيلٌ آخر لخالص نفسك، وإدراك أنَّه ليس لك رجاءٌ يف الوقوف أمام<br />
الله واحتامل عِقاب املوت الذي تستحقُّه، وليس لك رجاءٌ أن تَنالَ الحُكم<br />
بالرباءة حينام يَنظرُ إىل سجلِّ حياتك. ويف الوقت نفسه، أن تؤمنَ بأنَّ<br />
يسوع سبقَ وحملَ عقابَ املوت بدالً عن خُطاة مثيل ومثلك، وأنَّه سبق<br />
ونالَ حُكم الرباءة من أجلك، وأنَّ رجاءَك الوحيد هو باالتِّكال متامًا عىل<br />
وُقوفه يف مكانك بديالً عنك.<br />
هذا ما يدعو إليه يسوعُ امللك كلَّ إنسان. ويسوع هو املقام من<br />
املوت والحاكم من السامء. إنَّها دعوة مفتوحةٌ بال قيود وال مُؤهِّالت. لن<br />
تبقى يدُ يسوع امللك مفتوحة دامئًا، إالَّ أنَّها كذلك اآلن. والسؤال الوحيد<br />
هو ما إذا كُنت ستأخذ بيده وتنزل عىل رُكبتيك أمامه مُعرتفًا به وواثقًا<br />
بأنَّه أخذَ مكانَك تحت دينونة الله، أو ما إذا كُنت ستُقرِّر املثولَ تحت<br />
هذه الدينونة وحدَك.<br />
القرار يعود إليك. لكنْ ملدَّةٍ وجيزة.<br />
126
الخاتمة<br />
مَن تقول إنَّه <strong>هو؟</strong><br />
لكنْ ملدَّةٍ وجيزة.<br />
ليس هذا كالمًا بالغيًّا منمَّقًا. فالحقيقة هي أنَّ يدَ يسوع امللك لن<br />
تظلَّ ممتدَّة بالرحمة إىل األبد. ويف يومٍ ما، وقد يكونُ يومًا قريبًا، سينتهي<br />
زمنُ الرحمة ويأيت وقتُ الحساب. قطعَ يسوعُ وعدًا بينام كان يوم صلبه<br />
يلوحُ مُقرتبًا أنَّه سيعودُ يومًا ليَدينَ األحياء واألموات نهائيًّا. زمنُ الخالص<br />
والرحمة والنعمة مديدٌ كفاية، حتَّى ذلك اليوم الذي ال يعودُ فيه القرارُ<br />
لك، بل سيُتَّخذُ قرارٌ يف حقِّك. فلو مل يكُنْ قرارُك إىل حينه صحيحًا، سيُتَّخذُ<br />
يف حقِّك قرارُ االبتعاد عن الله، عن يسوع، إىل األبد.<br />
هذا ما يلحُّ عليك باإلجابة اآلن عن سؤال ‘‘مَن هو يسوع املسيح؟’’.<br />
كم أرجو أن تكونَ قراءة هذا الكتاب قد جعلَتْك تُدرك عىل األقلِّ عدم<br />
إمكانيَّة تجاهُل هذا السؤال ببساطة. فأينام انتهى بك املطاف باالعتقاد<br />
عن املسيح يسوع، تبقى الحقيقة راسخةً أنَّه زَعمَ بقوَّة وجسارة بأُمورٍ<br />
عنك وعن عالقتك بالله القدُّوس. دون شكّ ، ميُ كنك تجاهُل ما زعمَه، أو أيِّ<br />
يشءٍ آخر إنْ حاولت جاهدًا، إالَّ أنَّك حينام تسمعُ أحَدَهم يقولُ لك شيئًا<br />
من هذا القبيل: ‘‘لقد مترَّدت عىل خالقك، وعاقبةُ ذلك املوت. إالَّ أنِّ أتَيتُ<br />
127
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
آلخُذَ مكانَك، وآخذ العقابَ وأُخلِّصك’’، ال بدَّ أن تُعريَه بعضَ االهتامم.<br />
قد ال تكون مُستعدًّا لإلميان بيسوع املسيح فعالً . وإنْ كانت هذه<br />
حالُك، فلامذا أنتَ لستَ كذلك؟ هل هناك تساؤالتٌ أُخرى لديك؟ ما<br />
الذي مينعُك؟ وقتام تتَّضح لك املُعيقات، ال تتجاهلها، بل امتحنها وفصِّ لها<br />
وابحث عن إجاباتٍ صادقة لها. مسألة ‘‘مَن هو يسوع املسيح؟’’ مسألةٌ<br />
مفصليَّة؛ فال تتجاهلها أو تؤجِّلها. وإنِ استنتجْتَ قائالً : ‘‘كالَّ ! ال أُومن مبا<br />
قاله الكتاب املقدَّس عن املسيح يسوع، وال أُومن مبا قاله هو عن نفسه’’،<br />
فليكُن. عىل األقلِّ لديك يشءٌ من الجزم يف هذا.<br />
لكن، يا صديقي، فأللتمِسْ منك هذا: ال تدَعْ يومَ الحساب يُباغتك<br />
فتقول: ‘‘ليتَني فكَّرتُ يف األمرِ مليًّا! ولَيتَني سعيتُ إىل التعامل مع األمر!<br />
ليتني رصفتُ وقتًا كافيًا ألتجاوَب بحقّ !’’. مهام ندمتَ يف هذه الحياة، لن<br />
يكونَ ندمُك بشدَّةِ ذلك الذي يف اليوم األخري.<br />
غري أنَّك قد تكون مُستعدًّا اآلن لتقول: ‘‘أجل! أعلمُ يقينًا اآلن أنَّ يسوع<br />
هو امللك وابن الله والخادم املتألِّم. وأعلَمُ أنِّ خاطئٌ ومتمرِّدٌ عىل ريبِّ<br />
العظيم، وأعلم أنَّ أستحقُّ املوتَ لقاء هذا، وأعلمُ أنَّ يسوع وحده ميُ كنه<br />
إنقاذي’’. وإنْ كانت هذه حالُك، فينبغي أن تعلمَ أنَّ اتِّباعك للمسيح مُمكنٌ<br />
مبعونة الله القادر عىل كلِّ يشء. وليس من شكليَّاتٍ لتقومَ بها سوى أن<br />
ترتك خطاياك وتَثِقَ بيسوع املسيح، وتستندَ إليه، وتعتمد عليه حتَّى النهاية<br />
ليُخلِّصك يف ذلك اليوم، ثمَّ تشهدَ للعامل أجمع بأنَّ هذا هو يسوع املسيح<br />
فِعالً . هو مَن يُنقذ من اإلثم واملوتِ أُناسً ا مثيل متامًا.<br />
ومثلك أنت أيضً ا!<br />
128
عن السلسلة<br />
بُنيت سلسة الكُتب التي توفِّرها خدمة ‘‘العالمات التسع’’ (9Marks) عىل<br />
فكرتني أساسيَّتَني: أوَّالً ، أهمِّيَّة الكنيسة املحلِّيَّة للحياة املسيحيَّة، والتي<br />
قد تتخطَّى كثريًا إدراكَ الكثري من املسيحيِّني. فنحنُ نؤمن يف خدمة<br />
‘‘العالمات التسع’’ بأنَّ املؤمن املسيحيَّ السليم هو عضوٌ سليمٌ يف كنيسة.<br />
وثانيًا، نوُّ حياةِ الكنيسة املحلِّيَّة ونشاطها مبَحوَرَةِ حياتهم حول كلمة<br />
الله. فالله يتكلَّم. والكنيسة ينبغي أن تُصغي وتتبع. األمر بهذه البساطة.<br />
فحينام تُصغي الكنيسة وتتبع، تبدأ تتَّخذُ صورة ذاك الذي تتبعه. تبدأ<br />
يف عكس محبَّته وقداسته، وتكشف عن مجده. ستتشبَّه الكنيسة به<br />
بينام تُصغي إليه. وقد يُالحظ القارئ بعد االطِّالع عىل شارة الخدمة بأنَّ<br />
العالمات التسع املأخوذة من كِتاب ‘‘العالمات التسع للكنيسة السليمة’’<br />
Church) (Nine Marks of a Healthy للكاتِب مارك دَفر Dever) (Mark تستندُ<br />
حرصًا إىل الكتاب املقدَّس:<br />
•الوعظُ التفسرييُّ .<br />
•علمُ الالهوت الكتايبُّ.<br />
•فهمٌ كتايبٌّ لبشارة اإلنجيل.<br />
129
مَن هو يسوع المسيح؟<br />
•فهمٌ كتايبٌّ لالهتداء.<br />
•فهمٌ كتايبٌّ للكِرازة.<br />
•فهمٌ كتايبٌّ لعضويَّة الكنيسة.<br />
•فهمٌ كتايبٌّ للتَّأديب الكنيسِّ .<br />
•فهمٌ كتايبٌّ للتَّلمذة والنموِّ.<br />
•فهمٌ كتايبٌّ لقيادة الكنيسة.<br />
ميُ كن قول الكثري عامَّ يجب عىل الكنيسة فعله لتكونَ سليمة،<br />
كالصالة مثل. غري أنَّ املامرسات التسعة اآلنفة الذِّكر هي برأينا األكرثُ<br />
إغفاالً اليوم )عىل عكس الصالة(. لذا أساسُ رسالتنا للكنيسة هو أالَّ<br />
تنظرَ إىل املُامرسات الدعائيَّة أو إىل أحدَث الصَّ يحات، بل إىل الله. ابدأوا<br />
باإلصغاء إىل كلمة الله من جديد.<br />
ومن هذا املرشوع الشامل تأتيكم سلسلة الكُتب الخاصَّ ة بخدمة<br />
‘‘العالمات التسع’’ والتي تسعى إىل فحص العالمات التسع من كثبٍ ومن<br />
مُختلف الزوايا. وبعضُ ها يستهدف رُعاة الكنائس، وبعضُ ها اآلخر أعضاء<br />
الكنائس. ونأملُ أن تدمج جميعها فحصً ا كتابيًّا دقيقًا وبُعدًا الهوتيًّا<br />
واعتبارًا ثقافيًا وتطبيقًا جامعيًّا وحتَّى شيئًا من الجهد الشخيصِّ . فأفضل<br />
الكُتب املسيحيَّة هي التي تجمع ما بني عِلم الالهوت والتطبيق.<br />
نُصيلِّ أن يستخدم الله هذه الكتابات وغريها يف املساهمة يف إعداد<br />
كنيسته العروس باإلرشاقة والجامل إىل يوم مجيئه الثان.<br />
130
لبناء كنائس سليمة<br />
تسعى خدمة ‘‘العالمات التسع’’ إىل متكني قادة الكنيسة برؤية كتابيَّة ومصادر<br />
عمليَّة إلظهار مجد الله للشعوب بواسطة كنائس سليمة.<br />
ولتحقيق هذا نُريد أن نرى الكنائس تتَّسم بهذه العالمات التسع التي تدلُّ<br />
عىل سالمتها:<br />
الوعظُ التفسرييُّ .<br />
1. علمُ الالهوت الكتايبُّ.<br />
2. فهمٌ كتايبٌّ لبشارة اإلنجيل.<br />
3. فهمٌ كتايبٌّ لالهتداء.<br />
4. فهمٌ كتايبٌّ للكِرازة.<br />
5. فهمٌ كتايبٌّ لعضويَّة الكنيسة.<br />
6. فهمٌ كتايبٌّ للتَّأديب الكنيسِّ .<br />
7. فهمٌ كتايبٌّ للتَّلمذة والنموِّ.<br />
8. فهمٌ كتايبٌّ لقيادة الكنيسة.<br />
9. ميكنك زيارة موقعنا باللغة اإلنكليزيَّة www.9Marks.org لتجدَ جميعَ<br />
منشوراتنا بالتعاون مع النارش ،(Crossway) وغريها من املصادر األخرى.<br />
131
قريبًا باللغة العربيَّة من غريغ غيلبرت<br />
كتاب ‘‘ما هي بشارة اإلنجيل؟’’<br />
‘‘كتب غريغ غيلربت، ذو العقل الالمع والقلب الرعويِّ ، كتابًا سيساعد الباحثني عن الحقِّ<br />
واملسيحيِّني الجُدد وكلَّ مَن أراد فهم بشارة اإلنجيل بأكرث وضوح. لطاملا انتظرت كتابًا كهذا!’’<br />
كيفن دي يونغ DeYoung( )Kevin<br />
راعي كنيسة يُنيفريستي املُصلِحة Church( )University Reformed<br />
يف إيست النسينغ، ميشيغن<br />
‘‘أجِدُ هذا الكتيِّبَ عن بشارة اإلنجيل أكرث الكتبُ وأوضحها وأهمِّها بني الكُتُب التي قرأتُها<br />
يف السنوات األخرية’’.<br />
مارك دَفر Dever( )Mark<br />
راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( )Capitol Hill Baptist<br />
واشنطن دي. يس.<br />
للمزيد من املعلومات )باللغة اإلنكليزيَّة(،<br />
يُرجى زيارة موقع النارش www.crossway.org<br />
133
جِ دِ اإلجابة عن األسئلة األهمِّ على اإلطالق<br />
‘‘يبحثُ غريغ غيلربت Gilbert( )Greg صفحات الكتاب املقدَّس بطريقةٍ مقروءةٍ وموجزةٍ<br />
ومدهشة ليُخرِج حقيقة ما قاله السيِّد املسيح عن نفسِ ه. إنَّ هذا الكتاب رضوريٌّ للمؤمن<br />
باملسيح والباحث عن الحقّ ’’.<br />
جيم دايل Daly( )Jim<br />
رئيس هيئة ‘‘الرتكيز عىل العائلة’’ Family( )Focus on the<br />
‘‘سيكون لهذا الكتاب القصري دورٌ عظيمٌ لتَعريف الناس إىل أروع شخصٍ عىل مرِّ العصور’’.<br />
رون براون Brown( )Ron<br />
مدرِّبٌ فريق كورن هسكرز يف جامعة نرباسكا Cornhuskers( )University of Nebraska<br />
‘‘إنَّ أمثنَ ما لدى غريغ هو قُدرته عىل تبسيط األمور العميقة. يُساعدنا كتابُه هذا عىل<br />
متييز السيِّد املسيح مثلام قدَّم نفسَ ه مقارنةً مبا ابتدَعْناه عنه’’.<br />
جاي. دي. غريَر Greear( .J( .D<br />
راعي كنيسة القمَّة Church( )The Summit يف دورهام، كارولينا الشامليَّة<br />
‘‘يسلِّطُ غريغ الضَّ وء من جديدٍ عىل مشاهدَ مألوفةٍ، وهكذا فإنَّه يربط الحقائقَ مبعانيها.<br />
إنَّها دعوةٌ لك، أيُّها القارئ، لتتعرَّفَ إىل يسوع املسيح’’.<br />
مارك دَفر Dever( )Mark<br />
راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( ،)Capitol Hill Baptist واشنطن دي. يس<br />
ورئيس منظَّمة ‘‘العالمات التسع’’ )9Marks(<br />
غريغ غيلربت Gilbert( )Greg يحمل شهادة املاجستري يف اإللهيَّات )M.Div( من كلِّيَّة سَ ذرن<br />
بابتِست املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة Seminary( ،)Southern Baptist Theological وهو<br />
الراعي املسؤول يف كنيسة ثريد آفِنيو املعمدانيَّة Church( ،)Third Avenue Baptist يف<br />
لويسفيل، كنتايك. ألَّف عددًا من الكتب، وشارك كيفن دي يونغ DeYoung( )Kevin يف<br />
تأليف كتابٍ عن مهمَّة الكنيسة.