23.12.2015 Views

هو؟

Who-Is-Jesus-Final

Who-Is-Jesus-Final

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

مَن <strong>هو؟</strong><br />

يسوع المسيح<br />

غريغ غيلبرت<br />

تقديم تريب لي


‏‘‘سَ‏ أل يسوعُ‏ تالميذه:‏ ‏»مَن تقولون إنِّ‏ أنا؟«‏ وهذا سؤالٌ‏ علينا جميعًا أن نجيبَ‏<br />

عنه.‏ لِذا يبحثُ‏ غريغ غيلربت Gilbert) (Greg صفحات الكتاب املقدَّس بطريقةٍ‏<br />

مقروءةٍ‏ وموجزةٍ‏ ومدهشة ليُخرِج حقيقة ما قاله السيِّد املسيح عن نفسِ‏ ه.‏ إنَّ‏ هذا<br />

الكتاب رضوريٌّ‏ للمؤمن باملسيح والباحث عن الحقّ‏ ’’.<br />

جيم دايل Daly) (Jim<br />

رئيس هيئة ‏‘‘الرتكيز عىل العائلة’’‏ Family) (Focus on the<br />

‏‘‘إنَّ‏ أمثنَ‏ ما لدى غريغ هو قُدرته عىل تبسيط األمور العميقة.‏ فكام يساعدنا كتابُه<br />

‏»ما هي بشارة اإلنجيل؟«‏ Gospel?) (What is the عىل متييز البشارة الحقيقيَّة عن<br />

الزائفة،‏ يُساعدنا كتابُه هذا عىل متييز السيِّد املسيح مثلام قدَّم نفسَ‏ ه مقارنةً‏ مبا<br />

ابتدَعْناه عنه’’.‏<br />

جاي.‏ دي.‏ غريَر Greear) .J) .D<br />

راعي كنيسة القمَّة Church( )The Summit يف دورهام،‏ كارولينا الشامليَّة<br />

ومؤلِّف كتاب ‏‘‘يسوع متواصل...‏ ملاذا كَوْن الروح فيك أفضل من يسوع إىل جانبك؟’’‏<br />

(Jesus, Continued... Why the Spirit Inside You Is Better than Jesus Beside You?).<br />

‏‘‘ليس هناك سؤالٌ‏ يف الكون أهمُّ‏ من:‏ ‏»مَن هو يسوع املسيح؟«‏ لذا يُفرِغ غريغ<br />

غيلربت،‏ ذو العقل الالمع والقلب الرعويِّ‏ ، ما تحويه إجابة هذا السؤال خطوةً‏<br />

تِلوَ‏ األُخرى،‏ وذلك بفطنةٍ‏ ويُرس.‏ فسواء كنت مُشكِّكًا تبحث يف هذه األمور للمرَّةِ‏<br />

األوىل،‏ أم مؤمنًا منذ مدَّةٍ‏ طويلة،‏ سيقودك هذا الكتاب إىل حيثُ‏ نحتاجُ‏ جميعًا ألن<br />

نذهب-‏ إىل مجد الله يف وجه يسوع املسيح’’.‏<br />

رَسِ‏ ل دي.‏ مور Moore) (Russell .D<br />

رئيس هيئة الحرِّيَّة األخالقيَّة والدينيَّة Commission( )The Ethics & Religious Liberty<br />

ومؤلِّف كتاب ‏‘‘مجرَّب ومختبَ‏ ’’ Tried) (Tempted and


‏‘‘من الواضح أنَّه كتابٌ‏ مسيحيّ‏ ، لكنَّه يتَّسمُ‏ باالحرتام والخُلُق يف محاجَجَته<br />

للمُشكِّكني،‏ ويساعد عىل التفكري مليًّا يف يسوع املسيح.‏ حيث يسلِّطُ‏ غريغ الضَّ‏ وء<br />

من جديدٍ‏ عىل مشاهدَ‏ مألوفةٍ،‏ وهكذا فإنَّه يربط الحقائقَ‏ مبعانيها.‏ إنَّه كتابٌ‏<br />

بارعٌ،‏ لكنَّه أيضً‏ ا بسيطٌ‏ ومآلنٌ‏ بالالهوت الكتايبِّ‏ الجميل.‏ إنَّه دعوةٌ‏ لك،‏ أيُّها القارئ،‏<br />

لتتعرَّفَ‏ إىل يسوع املسيح’’.‏<br />

مارك دَفر Dever) (Mark<br />

راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( ،)Capitol Hill Baptist واشنطن دي.‏ يس<br />

ورئيس منظَّمة ‏‘‘العالمات التسع’’‏ (9Marks)<br />

‏‘‘يعملُ‏ هذا الكتاب عىل أمرَين يف الوقت نفْسه:‏ يضعُ‏ يسوع املسيح مبوثوقيَّة ضمن<br />

سياق الزمان الذي جاء فيه،‏ ويبنيِّ‏ ملاذا ال ميكن عقالنيًّا تركُه هناك.‏ هذا الكتاب هو<br />

ملن مل يفكِّر يف يسوع املسيح،‏ كام أنَّه ملن يظنُّون أنَّهم يعرفونه أكرث مامَّ‏ ينبغي’’.‏<br />

تيمويث جورج George( )Timothy<br />

العميد املؤسِّ‏ س لكليَّة بيسون للدراسات الالهوتيَّة School( )Beeson Divinity<br />

ورئيس التحرير ‏‘‘للتفسري املُصلح للكتاب املقدَّس’’‏<br />

(Reformation Commentary on Scripture).<br />

‏‘‘إنَّ‏ أهمَّ‏ سؤالَني يحتاج املرء إىل اإلجابة عنهام يف ما يختصُّ‏ بيسوع املسيح هام:‏ مَن<br />

هو يسوع املسيح بالتَّحديد؟ وما أنسبُ‏ موقف يل تجاهَه؟ لذا يخاطب غيلربت هذين<br />

السؤالني بفاعليَّة يف هذا الكتاب املهمِّ.‏ فمن اللحظة التي سأل فيها يسوع تالميذه<br />

حينام كان يف قيرصيَّة فيلبُّس عن اآلراء التي تحيط بهُويَّته،‏ مل يعُدْ‏ هناك سؤالٌ‏ آخر<br />

ترتتَّب عىل إجابته عواقب أبديَّة مثل هذا السؤال.‏ إنَّ‏ هذا كتابٌ‏ حادُّ‏ املالحظة مكتوبٌ‏<br />

بلَمسة روح الله الذي يكشف الستار عن يسوع،‏ الذي هو املسيح’’.‏<br />

بايج باترسون Patterson( )Paige<br />

رئيس كلِّيَّة ساوثويسرتن املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة<br />

(Southwestern Baptist Theological Seminary).


‏‘‘سيكون لهذا الكتاب القصري دورٌ‏ عظيمٌ‏ لتَعريف الناس-‏ ومن ضِ‏ منِهم الرياضيِّني الذين<br />

أُدرِّبهم-‏ إىل أروع شخصٍ‏ عىل مرِّ‏ العصور’’.‏<br />

رون براون Brown) (Ron<br />

مدرِّبٌ‏ فريق كورن هسكرز يف جامعة نرباسكا<br />

(University of Nebraska Cornhuskers)<br />

‏‘‘إنِّ‏ أبحثُ‏ باستمرارٍ‏ عن كتابٍ‏ قصريٍ‏ وجَيلٍّ‏ عن حياة يسوع املسيح ميكِنُني إعطاؤه<br />

ملن يريد حقًّا معرفة مَن يكون يسوع املسيح،‏ وما فعله.‏ واآلن وجدتُ‏ ضالَّتي يف<br />

هذا الكتاب.‏ إنَّ‏ غريغ غيلربت مُحقٌّ‏ يف قوله:‏ ‏»ليست قصَّ‏ ةُ‏ يسوع قصَّ‏ ةَ‏ رجلٍ‏ صالح؛<br />

بل هي قصَّ‏ ة املطالَبة بالعرش«.‏ ضع يف الحسبان األدلَّة املطروحة يف هذا العمل،‏<br />

وراقب إىل أين تقودُك’’.‏<br />

دانيال إل.‏ أكني Akin) (Daniel .L<br />

رئيس كلِّيَّة ساوث إيسرتن املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة<br />

(Southeastern Baptist Theological Seminary)


مَن هو<br />

يسوع المسيح؟<br />

غريغ غيلبرت


Who Is Jesus?<br />

Copyright © 2015 by Gregory D. Gilbert<br />

Published by Crossway<br />

1300 Crescent Street<br />

Wheaton, Illinois 60187<br />

All rights reserved. No part of this publication may be reproduced, stored<br />

in a retrieval system, or transmitted in any form by any means, electronic,<br />

mechanical, photocopy, recording, or otherwise, without the prior permission of<br />

the publisher, except as provided for by USA copyright law.<br />

Cover design: Matthew Wahl<br />

First printing 2015<br />

Printed in the United States of America<br />

Scripture quotations are from the ESV ® Bible (The Holy Bible, English Standard<br />

Version ® ), copyright © 2001 by Crossway, a publishing ministry of Good News<br />

Publishers. 2011 Text Edition. Used by permission. All rights reserved.<br />

All emphases in Scripture quotations have been added by the author.<br />

Trade paperback ISBN: 978-1-4335-4350-0<br />

ePub ISBN: 978-1-4335-4353-1<br />

PDF ISBN: 978-1-4335-4351-7<br />

Mobipocket ISBN: 978-1-4335-4352-4<br />

Library of Congress Cataloging-in-Publication Data<br />

Gilbert, Greg, 1977–<br />

Who is Jesus? / Greg Gilbert.<br />

pages cm. — (9Marks books)<br />

Includes bibliographical references.<br />

ISBN 978-1-4335-4350-0 (tp)<br />

1. Jesus Christ—Person and offices. I. Title.<br />

BT203.G55 2015<br />

232—dc23 2014016639<br />

Crossway is a publishing ministry of Good News Publishers.<br />

LB 25 24 23 22 21 20 19 18 17 16 15<br />

15 14 13 12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1<br />

كل االقتباسات من الكتاب املقدس مأخوذة من الرتجمة العربية املبسَّ‏ طة،‏ إال إذا ذُكر غري ذلك.‏


إهداء<br />

إىل جاسنت وجاك وجوليت.‏


المحتويات<br />

11<br />

تقديم بقلم تريب يل 15<br />

ماذا تظنُّ‏ ؟ 23<br />

شخصٌ‏ استثنايئٌّ‏ وأكرث 35<br />

ملكُ‏ إرسائيلَ‏ وملكُ‏ امللوك 49<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏ 63<br />

واحدٌ‏ منَّا 73<br />

انتصارُ‏ آدمَ‏ األخري 91<br />

حمل الله والذبيحة من أجل اإلنسان 111<br />

الربُّ‏ املُقام والحاكم 127<br />

الخامتة:‏ مَن تقول إنَّه <strong>هو؟</strong> 129<br />

عن السلسلة


تقديم بقلم تريب لي<br />

هل سبَقَ‏ أن اختلطَ‏ عليك األمرُ‏ وظننتَ‏ أنَّ‏ أحَدَهم شخصً‏ ا آخرَ‏ تعرفُه؟<br />

أَذكر مرَّةً‏ كنتُ‏ فيها يف حفلٍ‏ مع صديقي أيَّام املدرسة الثانويَّة.‏ كنَّا قد<br />

وصلنا للتوِّ‏ حينام رأينا صديقتنا نيكول (Nicole) واقفةً‏ يف زاوية الغرفة<br />

متُ‏ يض وقتًا طيِّبًا.‏ وحيثُ‏ إنَّنا كنَّا قد أمضَ‏ ينا وقتًا مع نيكول وصديقتها<br />

الحُبىل يف اليوم السابق للحفل،‏ قرَّرنا الذهاب إليهام وإلقاء التحيَّة.‏<br />

وهكذا،‏ ألقى صديقي التحيَّة عىل نيكول،‏ ومن ثمَّ‏ أشار إىل بطن صديقتها<br />

بتبسُّ‏ مٍ‏ وسأل بلطفٍ‏ : ‏‘‘كيف حال الطفل؟’’.‏ كانت املشكلة الوحيدة يف<br />

ذلك أنَّ‏ تلك كانت صديقةً‏ أُخرى لنيكول،‏ ومل تكن حُبىل.‏ كم كنتُ‏ شاكرًا<br />

أنِّ‏ مل أكُنِ‏ البادئَ‏ يف الحديث!‏<br />

قد يكون األمر مُحرجًا وظريفًا حينام يختلطُ‏ عليك األمر بشأن هُوِيَّة<br />

أحَدِ‏ هم.‏ لكنَّك تعرِّض نفسك للظهور بصورةٍ‏ غبيَّة وإمكانيَّة إهانة اآلخر،‏<br />

لذا من األفضل لك التحقُّق قبل أن تبدأ الحديث.‏<br />

يدورُ‏ الكتاب الذي بني يديك حول متييز هُوِيَّة شخصٍ‏ آخر،‏ لكنَّ‏<br />

املخاطر هنا أكرب بكثري؛ فحينام نكون يف صَ‏ دَدِ‏ الكالم عن يسوع املسيح،‏<br />

فنحن نضع أنفسنا يف خانةٍ‏ أُخرى تختلف عن متييز صديقٍ‏ أو رفيقٍ‏ قديم.‏<br />

والحال هنا ليست مجرَّد إحراج حينام نيسء الظنَّ‏ بهويَّة يسوع املسيح،‏<br />

بل األمرُ‏ كاريثٌّ‏ أيضً‏ ا.‏<br />

11


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

لذا يرينا غريغ غيلربت منذ البداية أنَّ‏ عنوان الكتاب ‏‘‘مَن هو يسوع<br />

املسيح؟’’‏ هو أهمُّ‏ األسئلة التي ميكنُنا طرحُها.‏ قد يبدو هذا سخيفًا للباحثني<br />

عن الحقِّ‏ واملتشكِّكني،‏ وقد يكونُ‏ كذلك لبعض املؤمنني باملسيح.‏ لكنَّك إنْ‏<br />

تابعْتَ‏ القراءة ستجد ما يجعلُ‏ السؤالَ‏ جوهريًّا.‏ أجل،‏ لن نُصادفَ‏ املسيح<br />

رئيس السالم يف الشارع أو يف حفلٍ‏ ما؛ فاألمر ال يتعلَّق برَبْطِ‏ اسمٍ‏ بوَجْهٍ،‏<br />

لكنَّه يتعلَّق بالتجاوب معه باإلكرام والثقة التي يستحقُّها.‏<br />

مثالً‏ يكتب غريغ:‏ ‏‘‘يف اللحظة التي تبدأ فيها إدراك أنَّ‏ يسوع املسيح<br />

هو بالحقيقة الله؛ وأنَّه عىل صلةٍ‏ فريدةٍ‏ واستثنائيَّة بالله اآلب،‏ ستُدرك<br />

أيضً‏ ا أنَّك إنْ‏ أردتَ‏ معرفةَ‏ اإلله الذي خلقَك،‏ فأنت تحتاجُ‏ ألنْ‏ تعرفَ‏<br />

يسوع املسيح.‏ ليس هناك طريقٌ‏ آخر بتاتًا’’.‏<br />

إن كان يسوع مجرَّد رجلٍ‏ آخر،‏ لن تُحدِ‏ ث معرفته أيَّ‏ فرقٍ‏ يف حياتك.‏<br />

لكنْ‏ إنْ‏ كان ابن الله واملخلِّص الوحيد للعامل،‏ فستُحدِ‏ ثُ‏ معرفته كلَّ‏<br />

الفرق متامًا.‏<br />

غالبًا ما نخلط الظنَّ‏ بني يسوع املسيح ورجلٍ‏ عاديٍّ‏ آخر،‏ أو معلِّمٍ‏<br />

صالحٍ‏ آخر،‏ أو مجرَّد نبيٍّ‏ آخر.‏ لكن ليس أيٌّ‏ من هذا األوصاف كافيًا.‏ لذا<br />

يساعدنا غريغ يف هذا الكتاب،‏ عىل التفكري جيِّدًا يف مَن يكون يسوع<br />

املسيح حقيقةً.‏<br />

أحببتُ‏ هذا الكتاب ألنَّه ممتعٌ،‏ وقد أمضيتُ‏ وقتًا طيِّبًا يف قراءته.‏ إنَّه<br />

كتابٌ‏ بسيطٌ‏ كفايةً‏ ليقرأه أيٌّ‏ كان،‏ كام أنَّه كتابٌ‏ يعالج أسئلةً‏ واقعيَّة.‏<br />

وأحببت هذا الكتاب أيضً‏ ا ألنَّه حافلٌ‏ بنصوص الكتاب املقدَّس.‏ ما ال<br />

يحاول كريغ فعله هو استحضار أساليبَ‏ جديدة للنَّظر إىل يسوع املسيح،‏<br />

12


تقديم بقلم تريب لي<br />

فاهتاممه الوحيد هو يف الحقيقة التاريخيَّة الفعليَّة.‏ مَن يسوع املسيح<br />

هذا؟ وملاذا يهمُّنا؟ وبدل أن يركِّزَ‏ كريغ عىل مؤرِّخني مل يروا املسيح قَطّ‏ ،<br />

فهو يركِّز عىل شهادة مَن قابَلوا املسيح من شهودِ‏ عِيانٍ‏ مَوثوقني،‏ وينصبُّ‏<br />

اهتاممُه عىل كلمة الله،‏ لذا فهذا الكتابُ‏ جديرٌ‏ بالقُبول،‏ وميكنُ‏ القول إنَّ‏<br />

له قدرةً‏ عىل تغيري الحياة.‏<br />

أدىل يسوع بترصيحات مفصليَّة عن نفسه،‏ وهو أكرث شخصيَّة دارَتْ‏<br />

حولها األحاديث عىل مدى التاريخ.‏ فام الذي ادَّعى أنَّه <strong>هو؟</strong> وهل هو<br />

كذلك فعالً‏ ؟ ال ميكنني التفكري يف كتابٍ‏ أفضل من هذا لإلجابة عن تلك<br />

التساؤالت.‏ أظنُّ‏ أنَّكم ستَتباركون به مثلام تباركتُ‏ أنا.‏<br />

تريب يل Lee( )Trip<br />

مغنِّي راب،‏ وراعي كنيسة،‏ ومؤلِّف كتاب ‏‘‘قُم:‏ انهض واحْيَ‏ يف مجد الله العظيم’’‏<br />

.)Rise: Get Up and Live in God’s Great Glory(<br />

13


الفصل 1<br />

ماذا تظنُّ‏ ؟<br />

مَن هو يسوع املسيح بحسب ظنِّك؟<br />

قد ال تكون فكَّرتَ‏ مليًّا يف السؤال،‏ وميكن تفهُّمُ‏ هذا بطريقةٍ‏ ما.‏ فمن<br />

الواضح أنَّنا نتكلَّمُ‏ عن رجلٍ‏ وُلد يف القرن األوَّل لعائلة نجَّارٍ‏ يهوديٍّ‏ غري<br />

معروف.‏ كام أنَّ‏ يسوع مل يشغَلْ‏ أيَّ‏ منصبٍ‏ سيايسٍّ‏ ، ومل يحكُم أمَّةً،‏ ومل<br />

يَقُد جيشً‏ ا،‏ ومل يقابل حتَّى أيًّا من األباطرة الرومان.‏ إنَّ‏ ا كان هذا الرجل<br />

ببساطةٍ‏ يعلِّم الناس األمور األخالقيَّة والروحيَّة لثالث سنني ونصف،‏ وكان<br />

يقرأ النصوصَ‏ اليهوديَّة املقدَّسة ويفرسِّ‏ ها للشعب.‏ وإنْ‏ أردْنا تصديقَ‏ ما<br />

سجَّله شهودُ‏ العِيان عن حياته،‏ قام يسوع املسيح،‏ فضالً‏ عن ذلك،‏ ببعض<br />

األعامل االستثنائيَّة.‏ نَجِدُ‏ أيضً‏ ا أنَّ‏ يسوع سار ضدَّ‏ تيَّار السلطات التي<br />

كانت يف زمانه،‏ وبعد مدَّةٍ‏ ليست بطويلة من بدء خدمته العلنيَّة،‏ آل به<br />

املطاف إىل اإلعدام عىل صليبٍ‏ تحت إمرة أحد الحُكَّام اإلقليميِّني التابعني<br />

لروما،‏ الذي كان إداريًّا مستبدًّا يحتلُّ‏ موقعًا يف اإلدارة الوُسطى التابعة<br />

ملن لهم السلطة الحقيقيَّة.‏<br />

وعالوةً‏ عىل هذا،‏ جرت هذه األحداث قبل نحو ألفَي سنة.‏ فلامذا إذًا<br />

ال نزال نتكلَّم عنه؟ وملاذا يبدو يسوع املسيح رجالً‏ ال مفرَّ‏ منه؟<br />

15


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

امنحْ‏ يسوع فرصة<br />

مهام كان رأيك الشخيصُّ‏ باملسيح،‏ فيمكننا غالبًا االتِّفاق عىل أنَّه شخصيَّةٌ‏<br />

بارزةٌ‏ يف تاريخ العامل.‏ لذا يُشبِّه أحد املؤرِّخني املرموقني تأثريَ‏ املسيح<br />

بالقَول:‏ ‏‘‘إنْ‏ أمكنَ‏ سحبُ‏ كلِّ‏ قطعةٍ‏ معدِ‏ نيَّة من التاريخ تحمل ولو أثرًا<br />

لهذا التأثري باستخدام يشءٍ‏ يشبه مغناطيسً‏ ا خارقًا،‏ فكم سيتبقَّى لدينا؟’’.‏ 1<br />

هذا سؤالٌ‏ جيِّد،‏ وقد تكون اإلجابة:‏ ‏‘‘ليس الكثري!’’.‏<br />

لكنْ‏ ألنَّ‏ يسوعَ‏ حقيقةٌ‏ ال مفرَّ‏ منها ليس فقط من الناحية التاريخيَّة،‏<br />

بل أيضً‏ ا من جهة العصور الحديثة.‏ فكِّر مليًّا يف هذا:‏ رمبَّ‏ ا شخصٌ‏ أو<br />

بضعةُ‏ أشخاصٍ‏ من معارفك هم مؤمنون باملسيح،‏ ورمبَّ‏ ا يرتادون الكنيسة<br />

بانتظامٍ‏ ويُرنِّ‏ ون ترانيم عن املسيح،‏ أو حتَّى يرفعون إليه الرتانيم مبارشةً.‏<br />

وإنِ‏ استدرجتَهم بالكالم،‏ قد يقولون إنَّ‏ لهم عالقةً‏ بشخصه،‏ وإنَّ‏ حياتهم<br />

تتمحور حوله بطريقةٍ‏ أو بأُخرى.‏ وليس هذا فقط،‏ بل قد تجدُ‏ عددًا من<br />

الكنائس من جميع األشكال يف أرجاء مدينتك.‏ قد يكون بعض هذه املبان<br />

مزدهرًا مبجتمعٍ‏ من املؤمنني باملسيح أيَّام األحد،‏ وقد يكون بعضها اآلخر<br />

مل يعد يُعدُّ‏ كنيسةً‏ بتاتًا.‏ واملغزى من ذلك هو أنَّك أينام نظرتَ‏ باهتامم،‏<br />

ستجد ما يُذكِّرك بهذا الرجل بالتَّحديد،‏ الذي عاش قبل 2000 سنة.‏ ويُلحُّ‏<br />

هذا علينا بالسؤال:‏ مَن هو هذا؟<br />

ليس ذلك سؤاالً‏ سهلَ‏ اإلجابة؛ ألنَّنا مل نتمكَّن جميعنا غالبًا من اإلجامع<br />

عىل الهوِيَّة الفعليَّة للمسيح.‏ وصحيحٌ‏ أنَّ‏ قلَّةً‏ قليلةً‏ ما زالت تُشكِّك يف<br />

وجوده،‏ فالحقائق األساسيَّة حول حياته-‏ أين ومتى عاش،‏ وكيف مات-‏<br />

1) Jaroslav Pelikan, Jesus through the Centuries: His Place in the History of Culture (Yale<br />

University Press, 1999), 1.<br />

16


ماذا تظنُّ‏ ؟<br />

هي جميعها مُتَّفق عليها إىل حدٍّ‏ بعيد.‏ لكن ال يزال هناك اختالفٌ‏ رصيحٌ‏ ،<br />

حتَّى وسط مَن يدَّعون أنَّهم مسيحيُّون،‏ حول أهمِّيَّة حياته وموته.‏ فهل<br />

كان نبيًّا؟ أم مُعلِّامً‏ ؟ أم شيئًا آخرَ‏ متامًا؟ هل كان ابنَ‏ الله،‏ أم مجرَّد رجلٍ‏<br />

ذي موهبةٍ‏ فذَّة؟ واألهمُّ‏ من ذلك،‏ مَن ظنَّ‏ هو نفسَ‏ ه؟ هل كان موته عىل<br />

أيدي الرومان جزءًا من الخُطَّة منذ بدايتها،‏ أم أنَّه وقعَ‏ يف املكان والزمان<br />

غري املناسبَني؟ ويأيت بعد ذلك السؤال األهمُّ:‏ هل ظلَّ‏ يسوع ميِّتًا بعد<br />

إعدامه صلبًا،‏ حالُه حالُ‏ جميع أمواتنا،‏ أم...مل يبقَ‏ يف القرب؟<br />

رغم االختالف مبجمله،‏ فإنَّ‏ الجميع يتَّفقون عىل أمرٍ‏ واحد:‏ كان<br />

يسوع شخصً‏ ا استثنائيًّا قال وفعل أمورًا غري مألوفة لدى الناس العاديِّني.‏<br />

وفضالً‏ عن ذلك،‏ مل تكن أقوال يسوع مجرَّد حِ‏ كَمٍ‏ المعةٍ‏ وأخالقٍ‏ حميدة؛<br />

كام مل تكنْ‏ مجرَّدَ‏ نصائحَ‏ تساعد عىل العَيشِ‏ بصورةٍ‏ أفضل يف العامل،‏ بل<br />

قال أمورًا مثل:‏ ‏‘‘أنا واآلبُ‏ ‏]عنى بذلك الله[‏ واحدٌ’’،‏ وقال أيضً‏ ا،‏ ‏‘‘مَن رآن<br />

فَقدْ‏ رأى اآلبَ‏ ’’، وقال جملةً‏ رمبَّ‏ ا تكون األكرث إدهاشً‏ ا:‏ ‏‘‘ال أحَدَ‏ يأيت إىل<br />

اآلب إالَّ‏ يب’’.‏ 2<br />

هل ترى ما أعنيه؟ ال يقول أشخاصٌ‏ اعتياديُّون أقواالً‏ كهذه!‏ أنا والله<br />

واحد؟ ال يأيت أحدٌ‏ إىل الله إالَّ‏ يب؟ ليست هذه تعاليمَ‏ أخالقيَّة تحتاج ألن<br />

تُقرِّر ما إذا كنتَ‏ ستتبنَّاها يف حياتك أم ال،‏ إذ إنَّها ترصيحات املسيح<br />

وأقواله عامَّ‏ يرى أنَّه الحقّ‏ .<br />

دون شكّ‏ ، قد ترفض ما يقولُه متامًا.‏ لكنْ‏ فكِّر يف هذا:‏ أال ترى أنَّ‏<br />

من الحكمة أالَّ‏ تترسَّ‏ ع يف قرارك؟ وأليس من املعقول أن تتعرَّف قليالً‏ إىل<br />

17<br />

)2 يوحنَّا ‎30‎؛ :10 .6 :14


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

هذا الرجُل قبل أن ترميَ‏ بعيدًا ما قاله عنك؟ وما دمتَ‏ قد تناوَلْتَ‏ هذا<br />

الكتاب وبدأت تقرأه،‏ فألتجارسَ‏ ْ وأطلبْ‏ منك ما ييل:‏ امنحْ‏ يسوع فرصة؛<br />

ألنَّك قد تُدرك،‏ بينام تتعلَّم املزيد عنه،‏ أنَّ‏ هناك بضعةَ‏ أسبابٍ‏ جيِّدة<br />

لتصديق ما قاله يسوع عن نفسه،‏ وعن الله،‏ وعنك أيضً‏ ا.‏<br />

إلى أين تذهب لتَعرفَ‏ عن المسيح؟<br />

18<br />

كيف لك إذًا أن تَعرف رجالً‏ عاش قبل ألفي سنةٍ‏ مضت؟ حتَّى وإنْ‏ بدأتَ‏<br />

من نقطة اإلميان بقيامته من املوت وصعوده إىل السامء،‏ فلن يتسنَّى لك<br />

طَرْقُ‏ بابِ‏ السامء والجلوس معه للتحدُّث وتناوُل القهوة.‏ إىل أين تذهب<br />

لتعرفَ‏ عن يسوع؟ تشري الكثري من الوثائق التاريخيَّة إىل وجود يسوع<br />

وحياته وموته وحتَّى قيامته،‏ وقد تتمكَّن من معرفة بعض األمور عنه<br />

هناك.‏ لكنَّ‏ لغالبيَّة هذه الوثائق مشكلتني عىل األقلّ‏ . فمثالً‏ ، كُتبَت أكرثها<br />

يف وقت مُتأخِّرٍ‏ نوعًا ما،‏ يصل أحيانًا إىل مئات السنني بعد زمن يسوع،‏<br />

حتَّى إنَّها حقًّا ال تُعينُنا كثريًا لنعرفَ‏ مَن يكون يسوع املسيح فعالً‏ . وليس<br />

ذلك فقط،‏ بل إنَّ‏ أفضل هذه الوثائق ال تُطلعنا غالبًا عىل الكثري عن<br />

املسيح؛ فهي تُعنى بأُمورٍ‏ أخرى،‏ مامَّ‏ يجعلها تذكُرُ‏ املسيحَ‏ أو تُشريُ‏ إليه<br />

فقط،‏ بدل أن تخربنا بشأنه وتُعطينا أيَّة تفاصيل.‏<br />

إالَّ‏ أنَّ‏ هناك كنزًا دفينًا واحدًا ميتلئ باملعلومات عن يسوع املسيح.‏<br />

وهو مصدرٌ‏ مُفصَّ‏ ل وشخيصٌّ‏ يحكيه شهودُ‏ عِيانٍ‏ خطوةً‏ بخطوةٍ‏ حول ما<br />

قاله يسوع وما فعله وما كانه...‏ إنَّه اإلنجيل املقدَّس.‏<br />

لكنِ‏ انتظر لحظة قبل أن تُغلق هذا الكتاب!‏ أعلمُ‏ أنَّ‏ بعض الناس<br />

ينفرون حينام يُذكر ‏‘‘اإلنجيل’’‏ أمامهم؛ ألنَّهم يرون أنَّه‘‘كتابٌ‏ يخصُّ‏


ماذا تظنُّ‏ ؟<br />

املسيحيِّني’’،‏ لذا يظنُّون أنَّه مُنحازٌ‏ وعديم الجدوى للحصول عىل معلوماتٍ‏<br />

دقيقة.‏ إنْ‏ كان هذا رأيك،‏ فأقول لك إنَّك مُحقٌّ‏ إىل حدٍّ‏ بعيد يف ما تظنُّه؛<br />

فالكتاب املقدَّس هو حقًّا كتابُ‏ املسيحيِّني،‏ ودون أدىن شكٍّ‏ ، كان كُتَّاب<br />

وثائق العهد الجديد-‏ وهو الجزء الثان يف الكتاب املقدَّس-‏ أُناسً‏ ا آمنوا بكالم<br />

يسوع،‏ وبأنَّ‏ ما سجَّله العهد القديم كان يتطلَّع إىل مجيء يسوع.‏ لكنَّ‏ هذا<br />

ال يعني أنَّه كانت لديهم أجندةٌ‏ خبيثة.‏ فكِّر يف األمر:‏ ماذا كانت أجندتُهم؟<br />

أن يَنالوا الشهرة؟ أن يجنوا املال؟ أن يصريوا زُعامءَ‏ جبابرةً‏ لكنائس ثريَّة؟<br />

ميكنك أن تُخمِّن ذلك،‏ لكن إنْ‏ كان ذلك هو مُرادَهم،‏ فقد آلت خُطَّتهم إىل<br />

فشلٍ‏ ذريع.‏ فقد عَلِم معظم كُتَّاب وثائق العهد الجديد أنَّهم قد يُقَتلون من<br />

أجل ما قالوه عن يسوع.‏ ورغم ذلك،‏ استمرُّوا بإعالنه جهارًا.‏<br />

هل فهمتَ‏ القصدَ‏ من هذا كلِّه؟ ما أعنيه أنَّه إنْ‏ كانت غايةُ‏ أحَدٍ‏ ما<br />

من كتابة روايةٍ‏ عن أمرٍ‏ ما هو مجرَّد نَيلِ‏ االنتباه أو السُّ‏ لطة أو الرثوة،‏ فال<br />

بدَّ‏ له أن يرتاجعَ‏ عن القصَّ‏ ة عندما تتصاعدُ‏ وتريةُ‏ األحداث وتصلُ‏ إىل حدِّ‏<br />

قطع الرأس.‏ الحالة الوحيدة التي تجعل املرء يلتزم تُجاهَ‏ قصَّ‏ ةٍ‏ كهذه يف<br />

مثل تلك األوضاع هي أنَّ‏ غايةَ‏ املكتوب هي إيصال ما حدث فعالً‏ . وهذا<br />

ما يتوافَر لدينا يف الكتاب املقدَّس:‏ مجموعة من روايات شهودِ‏ عيانٍ‏ آمنوا<br />

مبا قاله املسيح يسوع وكتبوا أسفارَهم بهدفِ‏ إعطاء وصفٍ‏ دقيقٍ‏ عنه<br />

وعامَّ‏ قاله وفعله.‏ كيف إذًا تتعرَّف إىل املسيح؟ أفضل وسيلة هي بقراءة<br />

هذه الوثائق،‏ أي بقراءة الكتاب املقدَّس.‏<br />

يؤمن املسيحيُّون مع هذا،‏ بأنَّ‏ الكتاب املقدَّس هو أكرث من مجرَّدِ‏<br />

مجموعةٍ‏ من أفضل املعلومات املتاحة عن املسيح؛ إذ يؤمنون بأنَّه كلمة<br />

الله،‏ أي أنَّ‏ الله نفسَ‏ ه هو مَن قاد الرجال الذين كتبوه ليكتَبوا ما أرادَ‏ هو<br />

19


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

20<br />

نفسُ‏ ه أن يقولَه،‏ حتَّى يكونَ‏ كلُّ‏ ما كتبوه صحيحًا جملةً‏ وتفصيالً‏ . ورمبَّ‏ ا<br />

أدركتَ‏ مُسبَّقًا أنِّ‏ مسيحيٌّ‏ ، وأُومن مبا قلتُه آنفًا عن الكتاب املقدَّس.‏<br />

قد يكون ذلك بعيدَ‏ املنال لك لتقتنعَ‏ به،‏ وال بأس بذلك.‏ فحتَّى لو مل<br />

تؤمنْ‏ بأنَّ‏ الكتاب املقدَّس هو كلمة الله،‏ تبقى الوثائق التي يحويها تاريخيَّة<br />

بطبيعتها،‏ كتبها ناسٌ‏ أرادوا إيصال تقريرٍ‏ دقيقٍ‏ عن املسيح.‏ فتعامَلْ‏ معها<br />

اآلن عىل األقلِّ‏ عىل هذا األساس،‏ واطرحْ‏ أسئلةً‏ وابحث عن إجاباتٍ‏ عنها،‏<br />

واقرأها بأسلوبٍ‏ نقديٍّ‏ كام كنتَ‏ لتفعلَ‏ مع أيَّة وثائقَ‏ تاريخيَّة أُخرى.‏<br />

واسأل نفسك:‏ ‏‘‘هل أجِدُ‏ هذا حقًّا أم ال؟’’.‏ فكلُّ‏ ما أطلبه منك هو أن<br />

تتعاملَ‏ مع هذه الوثائق بعدلٍ،‏ قبل أن ترميَها يف صندوقٍ‏ جعلتَه لألمور<br />

‏‘‘الدينيَّة غري النافعة’’،‏ حاسبًا إيَّاها من البداية سخيفةً‏ ورجعيَّةً‏ وباطلةً.‏<br />

الحظْ‏ أنَّ‏ الذين كتبوا وثائقَ‏ العهد الجديد أشخاصٌ‏ أذكياء.‏ فقد كانوا<br />

من سكَّان أعظم إمرباطوريَّة عىل وجه سطح األرض آنذاك،‏ بل كان بعضٌ‏<br />

منهم من مواطني تلك اإلمرباطوريَّة،‏ وقد قرأوا الفلسفة واألدب مامَّ‏ ال<br />

نزال نقرأه حتَّى اليوم يف مدارسنا.‏ ‏)يف الواقع،‏ إن كُنتَ‏ مثيل،‏ فأقولُ‏ إنَّهم<br />

قرأوها بعنايةٍ‏ وإمعانٍ‏ أكرثَ‏ مامَّ‏ فعلنا نحن(.‏ فضالً‏ عن ذلك،‏ فقد عرفَ‏<br />

أولئك الفرقَ‏ ما بني الحقيقة والخيال،‏ وعرفوا الخِ‏ داع والضَّ‏ الل،‏ وكيف أنَّها<br />

تختلف عن التاريخ والحقّ‏ . بل حافظ كُتَّاب العهد الجديد عىل التفريق<br />

ما بني هذه األمور برصامةٍ‏ وحذرٍ‏ أكرثَ‏ مامَّ‏ نقومُ‏ به نحن عادةً.‏ وستُدرك<br />

بينام تَقرأُ‏ كتاباتهم إميانَهم مبا يقولونه يسوع،‏ وأنَّهم،‏ رغم دهشتهم منه،‏<br />

صدَّقوه وأرادوا أن يؤمنَ‏ به اآلخرون أيضً‏ ا.‏ فقد كتبوا إذًا راجني أن يقرأ<br />

الناس ما قالوه،‏ ليعرفوا مَن هو يسوع املسيح كام عرَفوه هم،‏ ورمبَّ‏ ا يُدرك<br />

الناسُ‏ أنَّه جديرٌ‏ باإلميان والثقة.‏


ماذا تظنُّ‏ ؟<br />

وهذا متامًا ما أرجو أن يساعدكم هذا الكتاب عىل فعله:‏ أن تعرفوا<br />

يسوع بواسطة كتابات املسيحيِّني األوائل.‏ ومع أنَّنا لن نفحص أيًّا من كتابات<br />

العهد الجديد صفحةً‏ فصفحة،‏ فإنَّنا سنستخدم جميع هذه املصادر لنتعرَّف<br />

إىل يسوع بالطريقة نفسها التي اختربها أيٌّ‏ من أتباعه:‏ أوَّالً‏ ، بوصفه رجالً‏<br />

استثنائيًّا أجرى أعامالً‏ غري متوقَّعة،‏ لكنَّنا سندرك عىل نحو غامر أنَّ‏ كلمة<br />

‏‘‘استثنايئّ’’‏ ال توفيه حقَّه يف الوصف.‏ ها إنَّ‏ أمامنا رجالً‏ ادَّعى أنَّه نبيٌّ‏<br />

ومخلِّصٌ‏ وملكٌ‏ ، بل ادَّعى أيضً‏ ا أنَّه الله نفسه-‏ رجالً‏ كان سيتربَّر مستمعوه<br />

من ذنب إعالنه مخبوالً‏ أو محتاالً‏ ، لو أنَّه مل يستمرَّ‏ بأعاملٍ‏ تشهد ملا ادَّعاه!‏<br />

هذا إىل جانب الطريقة غري املتوقَّعة التي عامَل بها الناس،‏ فقد تعامَلَ‏<br />

بتعاطُفٍ‏ مع املنبوذين،‏ وبسخطٍ‏ مع ذوي السُّ‏ لطة،‏ ومبحبَّةٍ‏ مع املكروهني.‏<br />

ومع أنَّ‏ يسوع ادَّعى ما ادَّعاه،‏ مل ميارسْ‏ حقوقه بكَونه ملكًا وإلهًا،‏ فرفضَ‏ مثالً‏<br />

املُلكَ‏ الذي عُرض عليه،‏ وأَخربَ‏ تالميذه أالَّ‏ يخربوا أحدًا بحقيقته،‏ بل تحدَّث<br />

بأنَّ‏ السُّ‏ لطات ستصلبه حاسبةً‏ إيَّاه مجرمًا.‏ ورغم كلِّ‏ هذا،‏ فقد اتَّضحَ‏ من<br />

كالمه أنَّ‏ ذلك كلَّه كان يسري منذ البداية بحسب خُطَّته بطريقةٍ‏ ما.‏ لذا بينام<br />

شاهده أتباعُه وسمعوه،‏ بدأوا يُصدِّقون شيئًا فشيئًا أنَّه أكرث من مجرَّد رجلٍ‏<br />

استثنايئّ،‏ أو مجرَّد مُعلِّمٍ‏ ، أو نبيٍّ‏ ، أو حتَّى ثائر،‏ بل إنَّه أكرث من مجرَّد ملك.‏<br />

لقد قال له أحدُهم يف إحدى الليايل:‏ ‏‘‘أنت هو املسيح،‏ ابن الله الحيّ‏ ’’. 3<br />

أهمُّ‏ سؤالٍ‏ ستطرحه في حياتك<br />

مَن هو يسوع املسيح إذًا؟ كثريًا ما كان هذا هو السؤال األبرز.‏ فمن<br />

اللحظة التي ادَّعى فيها رعاةٌ‏ أنَّهم رأوا مالئكة أخربوهم مبيالده،‏ إىل<br />

21<br />

)3 مرقس .16 :16


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

اليوم الذي أَدهش فيه تالميذه بتهدئته البحر الهائج،‏ إىل اللحظة التي<br />

أظلمت فيها الشمس يوم موته،‏ كان الجميع يُرتَك بعدها مُتسائالً‏ : ‏‘‘من<br />

هو هذا؟’’.‏<br />

قد تكون لجأت إىل هذا الكتاب ولك معرفةٌ‏ قليلة عن يسوع،‏ وقد<br />

تعرفُ‏ عنه بعضَ‏ األمور.‏ لكنِّي أرجو يف كِلتا الحالتَني أن تتعرَّف إىل يسوع<br />

بطريقة أفضل بينام تقرأ عن حياته،‏ ونستكشفها معًا،‏ وأرجو أالَّ‏ يكون<br />

ذلك مثل معرفة موضوعٍ‏ أكادمييّ‏ ، أو شخصيَّة دينيَّة،‏ بل بوصفه معرفة<br />

رجلٍ‏ عَرفه املسيحيُّون األوائل بوصفه صديقًا.‏ كام أرجو أيضً‏ ا أن ترى ما<br />

أعجبَهم به،‏ وأن تُدركَ‏ بصورةٍ‏ أفضل السببَ‏ الذي يجعل املاليني يقولون:‏<br />

‏‘‘هذا مَن نأمتنه عىل أبديَّتنا’’.‏<br />

وفضالً‏ عن هذا كلِّه،‏ أرجو أن يتحدَّاك هذا الكتاب لتأخذَ‏ أقوال<br />

يسوع عىل محمَل الجِدّ.‏ فإنْ‏ كان املسيح قد قال إنَّه إلهٌ،‏ فليس أمام<br />

أيٍّ‏ منَّا سِ‏ وى خِ‏ يارَين فقط.‏ أليس كذلك؟ إمَّا أن نرفض هذا اإلدِّعاء وإمَّا<br />

أن نقبله.‏ ما ال ميكنك فعله،‏ عىل األقلِّ‏ ليس مدَّة طويلة،‏ هو أن تؤجِّل<br />

الحُكم وتراقب ما سيحصل يف النهاية.‏ رصَّح يسوع ببعض األمور العجيبة<br />

عن نفسه،‏ وعنك أيضً‏ ا.‏ ولذلك تأثري مفصيلٌّ‏ يف حياتك،‏ سواء أعجبك األمر<br />

أم مل يُعجبك.‏ لذا آمل أن يتحدَّاك هذا الكتاب لتُفكِّر مليًّا يف يسوع،‏ وأن<br />

يساعدك عىل إيضاح هذه الترصيحات والنتائج،‏ ويقودَك لتُقدِّمَ‏ جوابَك<br />

النهايئَّ‏ عن السؤال:‏ مَن هو يسوع املسيح؟<br />

فهذا بالفعل أهمُّ‏ سؤالٍ‏ ستطرحه يومًا.‏<br />

22


الفصل 2<br />

شخصٌ‏<br />

استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

كانت الساعة الثامنة صباحًا إالَّ‏ عرش دقائق من أحد أيَّام الجمعة،‏<br />

حينام صعد رجلٌ‏ عاديُّ‏ املنظر درجًا كهربائيًّا إلحدى محطَّات األنفاق يف<br />

العاصمة واشنطن دي.‏ يس،‏ واستند إىل أحد الجدران،‏ وفَتَح صندوق كامنٍ‏<br />

كان بحوزته،‏ ثمَّ‏ أخرجَ‏ آلتَه التي بدا أنَّها عتيقة،‏ حتَّى إنَّها كانت مهرتئةً‏<br />

من الوراء فظَهَرَ‏ الخشبُ‏ من بعض الحواف،‏ وأدار الصندوقَ‏ ليَقبَل أيَّ‏<br />

تربُّع قد يضعُه املارَّة،‏ وراح يعزف.‏<br />

أخذ الرجل يعزف مجموعةً‏ مختارة من املوسيقا الكالسيكيَّة مدَّة<br />

خمسٍ‏ وأربعني دقيقة جرى فيها مقابلَه أكرث من ألفِ‏ شخصٍ‏ مُرسعني.‏<br />

نظرَ‏ إليه شخصٌ‏ أو اثنان إعجابًا،‏ لكنْ‏ مل يحطْ‏ به أيُّ‏ حشد.‏ ثمَّ‏ أدرك رجلٌ‏<br />

أنَّ‏ أمامه ثالث دقائقَ‏ قبلَ‏ التوجُّه إىل عمله،‏ فاستند إىل أحد األعمدة<br />

وأصغى-‏ لثالث دقائق فقط.‏ لكنَّ‏ أغلب الناس انشغلوا بأمورهم ببساطة:‏<br />

يقرأون الصُّ‏ حُف،‏ أو يستمعون إىل اآليبود،‏ مرسعني إىل املوعد التايل الذي<br />

ذكَّرتهم به شاشات أجهزتهم اإللكرتونيَّة.‏<br />

وباملناسبة،‏ كانت املوسيقا جميلةً‏ وانسابَتْ‏ بإبداعٍ‏ رائع متناغمةً‏ بدقَّة<br />

متناهية يف أرجاء املمرّ،‏ وجاعلةً‏ أُناسً‏ ا يفكِّرون الحقًا أنَّهم انتبَهوا فعالً‏ - ولو<br />

23


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

24<br />

لِلُحَيظات-‏ ملا كان يُعزَف.‏ لقد كان ذلك حقًّا أمرٌ‏ مميَّز.‏ غري أنَّ‏ العازفَ‏<br />

مل يبدُ‏ مميَّزًا؛ إذ كان يرتدي قميصً‏ ا أسودَ‏ طويل األكامم،‏ وبنطاالً‏ أسودَ‏<br />

أيضً‏ ا،‏ وقبَّعةَ‏ فريق ‏‘‘واشنطن ناشونالز’’‏ Nationals) (Washington للبايسبول.‏<br />

لكنَّ‏ املقصودَ‏ هو أنَّك لو استوقفْتَ‏ نفسَ‏ ك لتستمعَ،‏ فستُالحِ‏ ظُ‏ أنَّه أكرث<br />

من مجرَّد عازفِ‏ كامنٍ‏ يعزفُ‏ من أجل بعضَ‏ الفكَّة يف جيوب املارَّة.‏ فهذا<br />

املوسيقيُّ‏ كان مُدهشً‏ ا.‏ حيث علَّق رجلٌ‏ الحقًا بالقَول إنَّ‏ : ‏‘‘أغلب العازفني<br />

يعزفون املوسيقا،‏ لكنَّهم ال يشعرون بها،‏ أمَّا هذا الرجل فقد كان يَشعُر<br />

بها.‏ كان الرجل يتحرَّك ويتحرَّك مع األلحان’’.‏ وأضافَ‏ قائالً‏ إنَّك لو استمعتَ‏<br />

قليالً‏ ‏‘‘ألمكنَك أن تُدرك يف غضونِ‏ ثانية أنَّ‏ الرجل كان مُبدعًا’’.‏ 1<br />

وبالفعل أمكنَك ذلك.‏ فهذا مل يكن مجرَّدَ‏ عازفِ‏ كامنٍ‏ كالعازفني<br />

اآلخرين يف محطَّة األنفاق صباح يوم الجمعة،‏ ومل يكن حتَّى مجرَّد عازفٍ‏<br />

استثنايئٍّ‏ آخر،‏ بل كان‘‘جوشوا بِل’’‏ Bill) Joshua‏)؛ عازف الكامن املشهور<br />

عامليًّا ذي التسعة والثالثني عامًا،‏ وهو عادةً‏ ما يعزفُ‏ يف أشهرِ‏ مسارح<br />

املوسيقا العامليَّة،‏ أمامَ‏ جامهريَ‏ تحرتمُه حتَّى إنَّهم ميسكون أنفسهم عن<br />

السُّ‏ عال إىل أن يتوقَّفَ‏ عن العزف.‏ وليس ذلك فحسب،‏ بل كان بِل حينها<br />

يعزفُ‏ بعض أفخر املوسيقا الباروكيَّة،‏ عىل كامنٍ‏ عتيقٍ‏ عُمره ثالث مئة سنة،‏<br />

ويُقدَّر مثنه بنحو ثالثة ماليني ونصف املليون دوالر!‏<br />

كان املشهَدُ‏ كلُّه جميالً‏ : بعض أجمل املوسيقا املؤلَّفة تُعزف عىل<br />

إحدى أكرث اآلالت إتقانًا من جهةِ‏ الصُّ‏ نع،‏ يعزفُها أحد أمهر املوسيقيِّني<br />

املوجودين عىل قَيد الحياة.‏ لكنْ‏ رغم هذا كلِّه،‏ كان ال بدَّ‏ أن تتوقَّف<br />

وتُلقيَ‏ انتباهَك ليك ترى الجامل الذي حواه املشهد.‏<br />

1) Gene Weingarten, “Pearls Before Breakfast,” The Washington Post, April 2007.


شخص استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

أكثر من استثنائيّ‏<br />

ينطبق ذلك عىل أمورٍ‏ كثريةٍ‏ يف حياتنا،‏ أليس كذلك؟ ففي دوَّامة العمل<br />

والعائلة واألصدقاء والفواتري واملتعة،‏ كثريًا ما ينتهي املطاف بأمورٍ‏ كالجامل<br />

والبهاء خارج أبواب عقولنا،‏ إذ ليس لدينا مُتَّسعٌ‏ من الوقت لتقديرها،‏<br />

والتوقُّف قليالً‏ إلعارتها بعضَ‏ االنتباه؛ فنحن مشغولون مبا هو طارئ.‏<br />

ينطبق هذا عىل ما يختصُّ‏ بيسوع املسيح؛ فأكرثَ‏ ‏ُنا-‏ وإنْ‏ كنَّا نعرفُه<br />

سابقًا-‏ نعرفه معرفةً‏ سطحيَّة.‏ وقد نعرفُ‏ بعضَ‏ القصص املشهورة عنه أو<br />

بعض املقوالت املعروفة املنسوبة إليه.‏ فدون أدىن شكٍّ‏ ، كان لدى يسوع<br />

املسيح يف أيَّامه ما أَرسَ‏ َ انتباهَ‏ الجُموع-‏ كان حقًّا رجالً‏ استثنائيًّا.‏ لكنْ‏<br />

إنْ‏ كنتَ‏ تريدُ‏ فعالً‏ أن تعرفَ‏ السيِّدَ‏ املسيح وتفهَمَه وتستَوعبَ‏ قيمتَه<br />

الحقيقيَّة،‏ فإنَّك تحتاج ألن تَنظُر بإمعانٍ‏ أعمَق.‏ عليك أن تتخطَّى املُناظَراتِ‏<br />

املعتادة والخُطَبَ‏ املتداولة والقصصَ‏ املتناقَلة عنه وتخدشَ‏ السطح لنتظرَ‏<br />

إىل ما تحته.‏ فاألمرُ‏ سيكون مأساويًّا-‏ كام حدث مع عازف الكامن يف<br />

محطَّة قطار األنفاق-‏ لو حسبتَ‏ يسوعَ‏ مجرَّد رجلٍ‏ استثنايئٍّ‏ آخر.‏<br />

لنكُنْ‏ رصيحني!‏ حتَّى لو مل تكن متديِّنًا أو مقتنعًا بفكرة أنَّ‏ املسيح<br />

هو ابن الله ومخلِّص العامل،‏ ال بدَّ‏ أن تعرتفَ‏ أنَّه شخصٌ‏ يلفتُ‏ االنتباه<br />

نوعًا ما.‏ فمرَّةً‏ بعد مرَّة،‏ أجرى يسوعُ‏ أعامالً‏ أَرسَ‏ ‏َتْ‏ أنظارَ‏ معارصيه،‏ وقال<br />

أقواالً‏ أدهشَ‏ تْهم بحِ‏ كْمتِه،‏ بل واجَهَهم بأساليبَ‏ تركَتْهم يتخبَّطون محاوِلني<br />

استيعابَ‏ ما حدث.‏<br />

قد يسهُلُ‏ من النظرة األوىل القَولُ‏ إنَّ‏ حالَ‏ يسوع املسيح حالُ‏ غريه من<br />

مئات املعلِّمني الدينيِّني الذين ظهروا برزوا ثمَّ‏ سقطوا وتواروا يف أورشليم<br />

25


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

‏)القُدس(‏ نحو القرن األوَّل امليالديّ‏ ؛ إذ إنَّ‏ صيتَ‏ التعليم الدينيِّ‏ آنذاك مل يكن<br />

كام هو عليه اليوم.‏ ومع أنَّ‏ الناس كانوا يستَمِعون إىل هذه التعاليم لحيازةِ‏<br />

بصريةٍ‏ تقودُهم إىل فهمٍ‏ أفضل للكتب املقدَّسة وتعلُّم كيفيَّة العيش بربٍّ‏ أكرث،‏<br />

فإنَّ‏ بعضهم كان يستَمِع ملجرَّد التمتُّع اللَّحظيّ‏ . فاألمرُ‏ يُشبِهُ‏ عدمَ‏ توافُر<br />

األفالم السينامئيَّة والتلفاز والهواتف الذكيَّة.‏ ماذا كنتَ‏ لتَفْعَل حينها من أجل<br />

التَّسلية؟ ال بدُّ‏ لك يف زمانهم من التحضري لنزهةٍ‏ تستمع فيها ألحد املعلِّمني!‏<br />

قد يبدو األمر غريبًا لنا للوهلة األوىل،‏ لكنَّه يساعدنا عىل فَهْم تفرُّد<br />

يسوع يف كونه معلِّامً‏ جيِّدًا؛ فقد استمعَ‏ يهودُ‏ القرن امليالديِّ‏ األوَّل للكثري<br />

من املعلِّمني،‏ وأبدوا فيهم آراءً‏ مُصاغةً‏ كام يصيغُ‏ الناسُ‏ آراءهم بنجوم<br />

السينام اليوم.‏ وبكلامت أُخرى،‏ ليس من السَّ‏ هل إثارة إعجاب الناس<br />

آنذاك.‏ مامَّ‏ يجعَلُ‏ األمرَ‏ يستحقُّ‏ اإلمعان يف ما كان يحدثُ‏ حني يَصِ‏ فُ‏<br />

الكتاب املقدَّس مرَّة تلو األُخرى الناس بأنَّهم ‏‘‘بُهتوا’’‏ بتعاليم املسيح.‏<br />

يَرِدُ‏ هذا الوصف يف الروايات األربع من الكتاب املقدَّس عن حياة<br />

يسوع املسيح،‏ أو ما يُعرف بالبشائر أو األناجيل ، 2 ما ال يقلُّ‏ عن عرش<br />

مرَّات.‏ 3 أقتبسُ‏ منها ما ورد عن متَّى،‏ حيث كان يسوع قد أنهى للتوِّ‏<br />

تعليمه من عىل سفح أحد الجبال:‏ ‏‘‘وَعِندَما أنهَى يَسُ‏ وعُ‏ حَدِ‏ يثَه هَذا،‏<br />

ذُهِلَ‏ النَّاسُ‏ مِنْ‏ تَعلِيمِهِ،‏ ألِ‏ نَّهُ‏ كانَ‏ يُعَلِّمُهم بِسُ‏ لطانٍ‏ وَلَيسَ‏ كَمُعلِّمي<br />

الرشَّ‏ يعة’’‏ . 4 ال تدَعْ‏ هذا يفوتك!‏ كانت وظيفةُ‏ مُعلِّمي الرشيعة التعليمَ‏<br />

26<br />

2( ‏‘‘اإلنجيل’’‏ كلمة يونانيَّة تعني ‏‘‘الخرب السارّ’’،‏ وميُ‏ كن أن تُطلق عىل كتاب العهد الجديد كامالً‏ ‏)اإلنجيل(،‏ أو<br />

عىل كتابات متَّى ومرقس ولوقا ويوحنَّا عن يسوع املسيح،‏ وهي مضمَّنةٌ‏ يف العهد الجديد ‏)املرتجم(.‏<br />

)3 متَّى ‎33‎؛ :22 ،25 :19 ،54 :13 ،28 :7 مرقس ‎18‎؛ :11 ،26 :10 ،37 :7 ،2 :6 ،22 :1 لوقا .32 :4<br />

)4 متَّى .29-28 :7


شخص استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

بسُ‏ لطان،‏ لكنَّ‏ الناسَ‏ رأوا أنَّهم مل يُجاروا يسوع ولو قليالً‏ بتعليمه.‏<br />

ويف أحيانٍ‏ أُخرى،‏ وُصفت املشاعر بعباراتٍ‏ مختلفة.‏ الحظ ردَّة الفعل<br />

التي نالها املسيح يف أوَّلِ‏ عِظَةٍ‏ ألقاها يف بلدته حيثُ‏ تَرعرَع:‏ ‏‘‘كانَ‏ الجَميعُ‏<br />

ميَ‏ دَحونَه،‏ مُندَهِشنيَ‏ من الكَلِامتِ‏ الجَميلَة التي تَخرُجُ‏ من فَمِه’’.‏ 5<br />

وكانت هذه الحالُ‏ أيضً‏ ا يف قرية صغرية تُشتَهرُ‏ بصَ‏ يد األسامك،‏ تُدعى<br />

كَفرناحوم:‏ ‏‘‘فَذُهِلوا من تَعلِيمِه،‏ ألِ‏ نَّهُ‏ عَلَّمَهُم كَمَنْ‏ لَه سُ‏ لْطانٌ’’.‏ 6<br />

ومُجدَّدًا يف بلدته:‏ ‏‘‘فَاندَهَشَ‏ كَثريونَ‏ عِندَما سَ‏ مِعوه،‏ وقالوا:‏ ‏»من<br />

أينَ‏ جاءَ‏ هَذا الرَّجُلُ‏ بِكلِّ‏ هَذا؟ وَما هَذِ‏ ه الحِ‏ كْمَةُ‏ املعطاةُ‏ له،‏ وما هَذه<br />

املُعجِزاتُ‏ الَّتي يَصنَعُها؟«’’.‏ 7<br />

بعد ذلك يف الحدث األكرب يف هيكل القُدس:‏ ‏‘‘وَسَ‏ مِعَ‏ كِبارُ‏ الكَهَنةِ‏<br />

وَمُعلِّمو الرشَّ‏ يعةِ‏ مبِ‏ ا حَدَثَ‏ ... لَكنَّهُم كانوا يَخافونَ‏ منه ألنَّ‏ تَعليمَه كانَ‏<br />

يُدهِشُ‏ الجَميعَ’’.‏ 8<br />

كانت ردود الفعل نحو يسوع املسيح مِرارًا وتَكرارًا تتَّسِ‏ م بيشء<br />

من الدهشة وعدم التصديق 9 ؛ ففي ثقافةٍ‏ كانت تنظر إىل التعليم<br />

بوصفه نوعًا من أساليب جَلْبِ‏ البَهجةِ‏ إىل عامَّة الشعب،‏ نالَ‏ يسوع<br />

تقييامتٍ‏ استثنائيَّة!‏<br />

27<br />

)5 لوقا .22 :4<br />

)6 مرقس .22 :1<br />

)7 مرقس .2 :6<br />

)8 مرقس .18 :11<br />

9( اقرأ أيضً‏ ا متَّى ‎54‎؛ 13: 33. 22، 22:


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

لماذا هذا الذُّهول؟<br />

لكنْ‏ ملاذا؟ ما الذي كان مُميَّزًا والفتًا جدًّا يف تعاليم املسيح؟ جزءٌ‏ من<br />

اإلجابة يكْمن يف تلك اللحظات التي كان الناس يتحدَّونه فيها ويطرحون<br />

عليه أسئلةً،‏ وكان يُربهن لهم مدى حكمته وبصريته.‏ إذ كان ببساطةٍ‏ ال<br />

يسمح لهم بإيقاعه يف فِخاخهم اللفظيَّة واملنطقيَّة،‏ بل كان حتَّى يقلبُ‏<br />

املوازين عىل الشخص الذي بدأ التحدِّي.‏ فكان ليس فقط يربحُ‏ الجَدَل،‏<br />

بل كان أيضً‏ ا يربَحُ‏ بطريقةٍ‏ تتحدَّى روحيًّا جميعَ‏ املستمعني.‏ فألستعرضْ‏<br />

وإيَّاكَ‏ إحدى هذه اللحظات.‏<br />

يَرِدُ‏ يف سفر متَّى موقفٌ‏ كان فيه يسوعُ‏ يُعلِّم يف الهيكل،‏ فاقرتبَتْ‏ إليه<br />

مجموعةٌ‏ من القادة اليهود ليتحدَّوه.‏ غري أنَّ‏ هذا اللقاءَ‏ مل يكُنْ‏ عَرضيًّا؛ إذ<br />

سبق أن خطَّطَ‏ هؤالء القادة كلَّ‏ مجرياته،‏ حتَّى إنَّ‏ الرواية تبدأ الحديث<br />

بأنَّ‏ الفَرِّيسيِّني ‏‘‘اجتَمَعوا لِيتَشاوَروا كيفَ‏ ميُ‏ كِنُهم أنْ‏ يَصْ‏ طادوا يَسوعَ‏ بِيشَ‏ ءٍ‏<br />

يَقوله’’.‏ أرادوا أيضً‏ ا أن يكونَ‏ ذلك علنًا؛ فساروا نحو املسيح بينام كان<br />

يُعلِّم يف الهيكل،‏ ورمبَّ‏ ا تدافعوا وسطَ‏ الحشود وقاطَعوه بينام يتكلَّم.‏<br />

استَهلُّوا حديثَهم بتملُّقٍ‏ : ‏‘‘يا مُعلِّم،‏ نَحنُ‏ نَعلَمُ‏ أنَّكَ‏ صادقٌ‏ وَتُعلِّمُ‏<br />

طَريقَ‏ الله بِكُلِّ‏ صِ‏ دق.‏ وأنَّكَ‏ ال تُجامِلُ‏ أحَدًا،‏ ألنَّكَ‏ ال تَنظُرُ‏ إىل مَقاماتِ‏<br />

النَّاس’’.‏ ميكنك أن ترى ما يحاول هؤالء فعله هنا:‏ يحاولون إجبارَ‏ يسوعَ‏<br />

عىل اإلجابة عن سؤالهم بالتَّلميح إىل أنَّه مخادعٌ‏ ومحتالٌ‏ إنْ‏ مل يفعل ذلك.‏<br />

وبعد أن هيَّأوا الجوَّ‏ سألوه:‏ ‏‘‘أخربِ‏ نا بِرأيكَ‏ ، أيَجوزُ‏ أنْ‏ تُدفَعَ‏ الضَّ‏ ائِبُ‏<br />

لِلقَيرصَ‏ ِ أمْ‏ ال؟’’.‏ 10<br />

)10 متَّى .17-15 :22<br />

28


شخص استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

ال بدَّ‏ أنَّ‏ السؤالَ‏ تطلَّب بعضَ‏ الوقت والتخطيط؛ فهو محبوكٌ‏ بدقَّة.‏<br />

والقصد منه هو مراوغة املسيح إلنهاء تأثريه يف الجموع بطريقةٍ‏ أو<br />

بأُخرى،‏ ولرمبَّ‏ ا حتَّى تعريضه لالعتقال.‏ والكيفيَّة كاآليت:‏ كان رأيُ‏ أغلبِ‏<br />

الفَرِّيسيِّني الذي علَّموه للشعب يف تلك األيَّام ينُصُّ‏ عىل أنَّ‏ إبداء الكرامة<br />

للحكومة األجنبيَّة،‏ مبا فيه دفع الضائب،‏ هو إثم.‏ كانوا يعتقدون أنَّ‏ ذلك<br />

يُهني الله كذلك.‏ فكِّرْ‏ يف األمر:‏ كيف أرادَ‏ الفَرِّيسيُّون ليسوعَ‏ أن يُجيبَ‏ عن<br />

السؤال؟ هل بتأييدهم عَلَنًا بأنَّ‏ دَفْعَ‏ الضائبِ‏ أمرٌ‏ مُحرَّمٌ‏ ومُهني لله أم ال؟<br />

الحقيقة هي أنَّهم مل يهتمُّوا بجوابه؛ إذْ‏ ظنَّوا أنَّهم أوقَعوا به يف كلتا<br />

الحالتَني.‏ فإذا أجاب املسيح قائالً‏ : ‏‘‘أجل،‏ يجوز دَفْعُ‏ الضَّ‏ ائب لقَيرص’’،‏ كان<br />

الجمعُ‏ سيغضبُ‏ ويفقدُ‏ املسيح تأثريه.‏ لكنْ‏ إذا أجاب بالقَول:‏ ‏‘‘ال،‏ ال تَدفعوا<br />

الضائب له’’،‏ فكان سيخاطرُ‏ بالتَّعرُّض لسَ‏ خَط الرومان جرَّاء التحريض عىل<br />

الفتنة عَلَنًا،‏ ورمبَّ‏ ا كان سيُعتقَل،‏ مامَّ‏ كان سيُنهي تأثريه أيضً‏ ا.‏ يف كلتا الحالتني،‏<br />

هذا ما أراده الفريسيُّون:‏ نهاية يسوع بوصفه قوَّةً‏ ثقافيَّة مؤثِّرة.‏ لكنَّ‏ ما<br />

حدث هو أنَّ‏ يسوع متلَّصَ‏ من الفخِّ‏ وقَلَبَ‏ السؤالَ‏ رأسً‏ ا عىل عَقِب وترك<br />

سائِليه يف حَريةٍ‏ واندهاش.‏<br />

ما حدث هو أنَّ‏ يسوع املسيح طلبَ‏ قائالً‏ : ‏‘‘أرُون العُملَةَ‏ التي<br />

تَستَخدِ‏ مونَها’’،‏ وبعدما أحضوا إليه دينارًا،‏ نظرَ‏ إليه يسوع ورفعَه عاليًا<br />

عىل مرأى من الجمع وطرحَ‏ عليهم سؤاالً‏ سهَّل اإلجابة:‏ ‏‘‘لِمَنْ‏ هذا الرَّسمُ‏<br />

وهذا االسمُ‏ املنقوشَ‏ ني عىل الدِّينار؟’’،‏ فقالوا:‏ ‏‘‘إنَّهُام لِلقَيرصَ‏ ’’. وقد كانوا<br />

مُحقِّني؛ إذ كان منقوشً‏ ا عىل تلك العُملة وجهُ‏ طيباريوس قيرص واسمُه،‏<br />

صاحب دار صكِّ‏ هذه النقود،‏ وهي تخصُّ‏ ه هو.‏ ومن الواضح أنَّ‏ الشعبَ‏<br />

اليهوديَّ‏ كان ال ميانع استخدامَ‏ هذه النقود ملنفعته الشخصيَّة.‏ إذًا،‏ ما املانع<br />

29


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

أالَّ‏ يُعيدوا إىل قَيرصَ‏ ما هو مُلكٌ‏ له؟ لذا قال لهم يسوع:‏ ‏‘‘إذًا أعطُوا القَيرصَ‏ َ<br />

ما يَخُصُّ‏ هُ،‏ وَأعطُوا اللهَ‏ ما يَخُصُّ‏ ه’’.‏ 11<br />

قد يبدو لنا الجواب مبارشًا وبسيطًا،‏ أليس كذلك؟ إنَّها نقود قيرص؛<br />

لذا ادفعوا الضائب.‏ لكنَّ‏ الكتاب املُقدَّس يقول إنَّ‏ الناس اندهشوا لدى<br />

سامعِهم اإلجابة.‏ ملاذا؟ كان ذلك أوَّالً‏ ألنَّ‏ املسيح كان للتوِّ‏ قد أعاد تعريفَ‏<br />

األسلوب الذي ينبغي فيه أن ينظرَ‏ اليهود إىل عالقتهم بالرُّومان،‏ كام أضعفَ‏<br />

يف الوقت ذاته تعاليم الفَرِّيسيِّني؛ فمهام كانت الزواية التي تنظر منها إىل<br />

املوضوع،‏ مل يكن أن تُعيدَ‏ إىل قيرص ما كان له أصالً‏ مُهينًا لله بأيَّة طريقة.‏<br />

لكنْ‏ كان هناك أيضً‏ ا بُعدٌ‏ آخر ملا قاله يسوع،‏ وهو ما أصابَ‏ الناسَ‏<br />

بالدَّهشة الحقيقيَّة.‏ أعِدِ‏ التَّفكريَ‏ يف السؤال الذي طرحَه املسيح عىل<br />

الجَمع حينام أراهم الدِّينار.‏ عندما قال يسوع:‏ ‏‘‘لِمَنْ‏ هذا الرَّسمُ...عىل<br />

الدِّينارِ؟’’،‏ وأجابوه أنَّه لقيرص،‏ كان ذلك الربهانَ‏ الذي اعتمده للمُلكيَّة.‏<br />

كانت صورةُ‏ قَيرص عىل العُملة،‏ لذا فهي مُلكه،‏ لذا عليهم أن يُعطوا<br />

لقيرص ما يخصُّ‏ قيرص،‏ لكن أيضً‏ ا-‏ وهنا نجد املِفتاح-‏ أن يُعطوا لله ما<br />

يخصُّ‏ الله.‏ أيْ‏ أنَّهم ينبغي أن يُعطوا لله ما يحمل صورتَه املوسومة عليه.‏<br />

وما املقصود بهذا؟<br />

كلُّ‏ الجمع عَلِموا ما ذاك فورًا.‏ كان املسيح يُشري إىل سفر التكوين<br />

27-26، 1: حينام أعلنَ‏ الله عن مشيئته يف خَلق البرشيَّة،‏ فقال:‏ ‏‘‘لِنَخلِقِ‏<br />

النَّاسَ‏ عىل صُ‏ ورَتنا وكَمِثالِنا...فخلَقَ‏ الله النَّاسَ‏ عىل صُ‏ ورَتِه.‏ عىل صورَتِه<br />

خَلَقَهُم ذَكَرًا وَأُنثى’’.‏ أترى املقصود؟ كان يسوع يخاطبُ‏ الناسَ‏ مبا هو<br />

)11 متَّى .21-19 :22<br />

30


شخص استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

أعمَقُ‏ من فلسفةٍ‏ سياسيَّة.‏ كان يقول إنَّه كام تحمل العملةُ‏ صورةَ‏ قيرص،‏<br />

كذلك يعكس جوهرُ‏ كيانِنا صِ‏ فات الله؛ لذا نحنُ‏ خاصَّ‏ ته ومُلكٌ‏ له!‏ أجل،‏<br />

يُعطى يشءٌ‏ من الكرامة لقيرص حينام يعرتفون بصورته عىل النَّقد ويُعيدون<br />

إليه ما يخصُّ‏ ه،‏ لكنَّ‏ كلَّ‏ الكرامة تُرفَع لله حينام نعرتف نحن بصفاته التي<br />

نحملُها ونعطيه ذواتنا،‏ حينام نعطيه قلوبَنا ونفوسَ‏ نا وفِكرَنا وقوَّتنا.‏<br />

أمتنَّى أن تُدرك ما كان يقولُه يسوع ملستمعيه.‏ فاألهمُّ‏ من أيِّ‏ جَدَلٍ‏<br />

فلسفيٍّ‏ وسيايسٍّ‏ أو عالقة األفراد ببلدٍ‏ آخر هو السؤال الذي يخاطِ‏ بُ‏<br />

عالقةَ‏ األفراد بالله.‏ كان املسيح يُعلِّم أنَّنا جميعًا خليقة الله،‏ وأنَّك أنت<br />

فعالً‏ خليقة الله.‏ خلقك الله عىل صورته ومثاله،‏ ولذا أنت مُلكه وميكنُه<br />

أن يطلبَ‏ منك تقديمَ‏ حِ‏ سابِك.‏ فكان ما قالَه يسوعُ‏ املسيح يحثُّك عىل أن<br />

تُعطيَ‏ لله ما يخصُّ‏ ه:‏ ليس أقلَّ‏ من حياتك كلِّها.‏<br />

لم يقُ‏ م أحدٌ‏ بأمرٍ‏ مماثل<br />

ال عجب إذًا أنَّ‏ الناس دُهِشوا من تعاليم املسيح.‏ ففي عباراتٍ‏ قليلة<br />

متكَّن من اإلطاحة مبَن تحدَّوه،‏ وأعادَ‏ تعريفَ‏ النظرة السائدةِ‏ إىل املعتقَدِ‏<br />

السيايسِّ‏ املعارص آنذاك.‏ ويف الوقت ذاته،‏ متكَّنَ‏ من الغَوصِ‏ يف عُمقِ‏ إحدى<br />

أكربِ‏ حقائق الوجود البرشيِّ‏ جوهريَّةً.‏ كانت لتَعليمٍ‏ كهذا القدرةُ‏ عىل<br />

اجتِذابِ‏ حُشودٍ‏ بأكمَلِها!‏<br />

من جهةٍ‏ أخرى،‏ كانَتِ‏ املعجزات حارضةً‏ أيضً‏ ا؛ إذ رأى آالفُ‏ الناس<br />

بأنفسهم املسيحَ‏ يُجري أعامالً‏ ال ميكن للبرش القيام بها:‏ شفى السُّ‏ قامء،‏<br />

وحوَّلَ‏ املاء إىل عصري عنبٍ‏ فاخر،‏ وأقامَ‏ العُرجَ‏ بكلمة،‏ وأعادَ‏ الرُّشدَ‏ إىل مَن<br />

حُسِ‏ بوا مجانني دون رجاء،‏ حتَّى إنَّه أقامَ‏ املوىت معيدًا إليهم الحياة.‏<br />

31


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

مل يكن الناس آنذاك سُ‏ ذَّجًا يف التعامُل مع هذه األمور.‏ أجل،‏ هم عاشوا<br />

قبل زمنٍ‏ بعيد،‏ لكنَّ‏ هذا ال يعني أنَّهم كانوا رَجعيِّني أو أغبياء.‏ مل يكن<br />

الناس يدَّعون حصولَ‏ املعجزات كلَّ‏ يومٍ‏ ، لذا نجدُ‏ الكتاب املقدَّس يخربنا<br />

نصًّ‏ ا تلوَ‏ اآلخر عن أُناسٍ‏ اعرتتهم الدَّهشة لدى وقوع هذه املعجزات.‏ كان<br />

الحشود مدهوشني لدى رؤية املسيح يقوم بهذه األمور!‏ وفضالً‏ عن هذا،‏<br />

كان يهود القرن األوَّل قد صاروا بارِعني يف متييز السَّ‏ حَرةِ‏ والدجَّالني؛ ألنَّ‏<br />

كثريين حاوَلوا إشهارَ‏ أنفسهم بوصفهم معلِّمني دينيِّني.‏ كان اليهود آنذاك<br />

قد متكَّنوا من فَضْ‏ ح خِ‏ داع السَّ‏ حرة مرارًا عدَّة،‏ والضَّ‏ حك هازئني بكلِّ‏ رجلٍ‏<br />

يحاول إبهارهم بخدعةٍ‏ برصيَّةٍ‏ رخيصة يدَّعي أنَّها ‏‘‘معجزة’’.‏ لذا فآخر ما<br />

ميكنك أن تظنَّه هو أنَّهم سُ‏ ذَّج.‏<br />

غري أنَّ‏ يسوع املسيح أدهشَ‏ هم،‏ فكان خالفًا لآلخرين إنسانًا استثنائيًّا.‏<br />

كان اآلخرون يُخرِجون أرانب من القبَّعات،‏ أمَّا املسيح فقد شفى املئات،‏<br />

حتَّى إنَّه تعبَ‏ جسديًّا ونام.‏ أخذ يسوع سمكتَني وخمسةَ‏ أرغفة خبز وأعدَّ‏<br />

وجبةً‏ لخمسة آالفٍ‏ رجلٍ‏ صاروا بعد ذلك شهودًا لذلك الحدث.‏ وأيضً‏ ا وقفَ‏<br />

املسيح إىل جانب رجلٍ‏ كسيح لسنوات وأمره بالوُقوف وامليش،‏ وهذا ما كان<br />

فعالً‏ . وقف يسوع كذلك يف مقدَّم قاربٍ‏ وأمرَ‏ البحرَ‏ الهائج بالهدوء-‏ وهذا<br />

ما حدث.‏ وقف املسيح أيضً‏ ا أمام قرب رجلٍ‏ كان قد تُويفِّ‏ قبل أربعة أيَّامٍ‏<br />

ودعاه ليخرجَ‏ من القرب،‏ فسمعَ‏ الرجُلُ‏ ذلك،‏ وقام ومىش خارجًا من القرب.‏ 12<br />

مل يقم أحدٌ‏ بكلِّ‏ هذا قَطّ‏ .<br />

وكان الناس مدهوشني.‏<br />

)12 متَّى ،27-24 :8 ،7-6 :9 ‎21-13‎؛ :14 يوحنَّا .43 :11<br />

32


شخص استثنائيٌّ‏ وأكثر<br />

هذا كلُّه لسبب<br />

ومع هذا كلِّه،‏ هناك املزيد.‏ فإنْ‏ أعرْتَ‏ انتباهَك بحقّ‏ ؛ وتجاوَزْتَ‏ الدَّهشة<br />

الحاصلة،‏ ورحْتَ‏ تسأل عامَّ‏ هو أعمق وعن السبب وراء إجراء املسيح كلَّ‏<br />

هذه األمور،‏ ستجد أنَّ‏ كلَّ‏ هذا كان لسببٍ‏ معنيَّ‏ .<br />

الحقيقة هي أنَّ‏ املسيح كان-‏ يف كلِّ‏ معجزةٍ‏ أجراها ويف كلِّ‏ عظةٍ‏<br />

ألقاها-‏ يرصِّح ويدعَمُ‏ ترصيحاتٍ‏ أدىل بها عن نفسه،‏ ومل يسبِقْ‏ إلنسانٍ‏<br />

آخرَ‏ أن أدىل بها.‏ خُذ مثالً‏ املوعِظة عىل الجبل يف متَّى 7-5، وهي تُعدُّ‏ أشهَرَ‏<br />

عِظات املسيح.‏ قد تبدو هذه العِظة أوَّلَ‏ وَهلةٍ‏ درسً‏ ا أخالقيًّا ال يختلف<br />

عن سواه من جهة الحضِّ‏ عىل العمل الصالح وتجنُّب السيِّئات:‏ ال تَحلِفوا،‏<br />

وال تَزْنوا،‏ وال تَشْ‏ تَهوا،‏ وال تَغْضبوا.‏ لكنْ‏ إنْ‏ أمعنْتَ‏ يف النظر جيِّدًا ستجدُ‏ أنَّ‏<br />

‏‘‘كيفيَّة الترصُّف’’‏ ليسَ‏ تِ‏ البتَّة الهدفَ‏ الرئييسَّ‏ من العِظة،‏ بل كان الهدفُ‏<br />

هو ادِّعاءً‏ جريئًا من املسيح بامتالكه الحقَّ‏ بتفسري الرشَّ‏ يعةِ‏ التي أعطاهم<br />

إيَّاها الله للنبيِّ‏ موىس،‏ وأنَّ‏ له الحقَّ‏ يف إعطاء معناها وسبب وجودها<br />

أصالً‏ ! لذا نجدُ‏ املسيح يقولُ‏ مرَّة تلوَ‏ مرَّة يف هذه املوعِظة:‏ ‏‘‘سَ‏ مِعْتُمْ‏ أنَّه<br />

قِيلَ‏ ‏...أمَّا أنا فَأقولُ‏ لَكُم...’’.‏ 13 وبالتشديد عىل الضمري أنا؛ يُقرُّ‏ يسوعُ‏ إقرارًا<br />

جسورًا بأنَّه املرشِّ‏ ع صاحب األحقيَّة لبني إرسائيل.‏ وفضالً‏ عن هذا،‏ الحظ<br />

أين أطلقَ‏ هذا اإلعالن:‏ أطلقَه يف أعىل جبلٍ‏ ، مامَّ‏ كان سيُعيدُ‏ إىل ذاكرة كلِّ‏<br />

يهوديٍّ‏ حينها ملَّا أعطى املرشِّ‏ عُ‏ العظيم الله شعبَه رشيعةَ‏ العهد القديم<br />

مبخاطبته إيَّاهم من أعىل جبلٍ‏ ! أالحظت املقصود؟ كان يسوعُ‏ يَنسِ‏ ب إىل<br />

نفسه الحقَّ‏ بسلطةٍ‏ أخَّاذة ال يجرؤُ‏ أحدٌ‏ عىل املطالَبة بها.‏<br />

33<br />

)13 متَّى .44-21 :5


عالوةً‏ عىل ذلك،‏ فلننظُرْ‏ إىل ما قالَه ملرثا أمامَ‏ قربِ‏ أخيها امليِّت:‏ ‏‘‘سَ‏ يَقُومُ‏<br />

أخوكِ‏ مِنَ‏ املوت’’.‏ وعىل ما يبدو من إجابتها،‏ كانت مرثا شاكرةً‏ لهذا التَّذكري:‏<br />

‏‘‘أنا أعرِفُ‏ أنَّه سَ‏ يَقومُ‏ من املوتِ‏ يف القِيامة،‏ يف اليَوم األخري’’.‏ وبكلامتٍ‏<br />

أُخرى:‏ نعم،‏ نعم،‏ أعرِف.‏ أشكرك عىل تعاطفك معي.‏ هذه تعزيةٌ‏ عظيمة<br />

يل.‏ لكنَّها مل تدركْ‏ ما قصده يسوع املسيح آنذاك.‏ رمبَّ‏ ا كانت لتُصدمَ‏ جدًّا إنْ‏<br />

أخربَها يسوع مبارشةً:‏ ال،‏ أقصد أنَّه سيقوم بعدَ‏ دقائق قليلة،‏ حينام آمره<br />

بذلك.‏ لكنَّ‏ ما قاله كان أكرثَ‏ جهارًا:‏ ‏‘‘أنا هُوَ‏ القِيامَةُ‏ وَالحَياةُ’’.‏ 14 ال متضِ‏ قُدُ‏ مًا<br />

ويَفُتْك هذا!‏ مل يكُنْ‏ الردُّ:‏ ميكنني إعطاء الحياة.‏ بل كان:‏ أنا هو الحياة!‏<br />

لنَكُنْ‏ صادقني!‏ أيُّ‏ رجلٍ‏ مَن يقول أمورًا كهذه؟ أيُّ‏ رجلٍ‏ مَن يقول له<br />

صاحبه بإجاللٍ:‏ ‏‘‘أنتَ‏ هُوَ‏ املَسِ‏ يحُ‏ ، ابْنُ‏ اللهِ‏ الحَيّ‏ ’’، فيجيبه مؤيِّدًا بأنَّ‏ الله<br />

هو مَن كشفَ‏ له هذه الحقيقة؟ أيُّ‏ رجلٍ‏ مَن يسأله قادة األُمَّة:‏ ‏‘‘أُناشِ‏ دُكَ‏<br />

بِاسْ‏ مِ‏ اللهِ‏ الحَيِّ‏ أنْ‏ تُخربِ‏ نا إنْ‏ كُنتَ‏ أنتَ‏ املسيحَ‏ ابْنَ‏ الله’’،‏ فيجيبهم بقوله:‏<br />

‏‘‘نَعَم أنا هُو كَام قُلْتَ‏ . وَأقُولُ‏ لَكُمْ:‏ منَ‏ اليَومِ‏ فَصاعِدًا،‏ سَ‏ رتَ‏ ‏َونَ‏ ابْنَ‏ اإلنسانِ‏<br />

جالِسً‏ ا عَنْ‏ ميَ‏ ‏ِنيِ‏ عَرْشِ‏ اللهِ،‏ وَآتِيًا عىل سُ‏ حُبِ‏ السَّ‏ امء’’.‏ 15<br />

دون شكّ‏ ، ليسَ‏ رجالً‏ عاديًّا،‏ وليس رجالً‏ يريد التميُّز بصفةِ‏ معلِّمٍ‏<br />

عظيم،‏ أو إنسانًا يطلبُ‏ التكريمَ‏ بوصفه صالحًا،‏ كام ليس إنسانًا يسعى<br />

ألنْ‏ يذكِّرَ‏ بأنَّه فيلسوفٌ‏ مؤثِّر.‏ بل مَن يقولُ‏ عن نفسه هذه الصِّ‏ يَغ ينسبُ‏<br />

إىل نفسه أمرًا أكرث بهاءً‏ وعَظَمةً‏ وعُمقًا من كلِّ‏ ما ذُكِر توًّا.‏ وهذا بالتَّحديد<br />

ما قام به يسوعُ،‏ عىل األقلِّ‏ ملن أعاروه االنتباه.‏<br />

كان يسوعُ‏ يرصِّح بكَونه ملك اليهود،‏ والبرشيَّة جمعاء.‏<br />

)14 اقرأ يوحنَّا .25-23 :11<br />

)15 اقرأ متَّى ،17-16 :16 .64-63 :26


الفصل 3<br />

ملكُ‏ إسرائيلَ‏ وملكُ‏ الملوك<br />

تذمَّر امللك هرني الرابع يف كتابات وليَم شكسبري ‏)عام ‎1597‎م(‏ حول<br />

واجباته امللَكيَّة قائالً‏ برثاء:‏ ‏‘‘ترى كم ألفًا من أفقر رعاياي نامئون يف هذه<br />

الساعة؟’’‏ ، 1 كام تعجَّب عن السبب الذي يجعَلُ‏ النومَ‏ يفضِّ‏ ل السُّ‏ كنى<br />

يف أكواخ الفُقَراء اآليِلَة للسُّ‏ قوط عىل السُّ‏ كنى يف قصور امللك،‏ وتساءَلَ‏<br />

كيف ميكن أن يقدِّم النَّومُ‏ عطيَّةَ‏ الراحة لفتى البحر املبلَّل الذي تتقاذفُه<br />

األمواجُ‏ من ناحيةٍ‏ إىل أُخرى وهو ممدَّد يف السَّ‏ فينة،‏ عىل أن يقدِّمها<br />

للملك يف مكان راحتِه الساكن؛ فيرصخ مجدَّدًا:‏ ‏‘‘ما أشقى الرأسَ‏ الذي<br />

يلبس التاج!’’.‏ 2<br />

مشهدٌ‏ أخَّاذ يصفه شكسبري إذ يُظهِرُ‏ سخريةً‏ عميقة.‏ فامللوك ينبغي<br />

أن يحظَوا بكلِّ‏ يشء؛ فهُم أغنياءٌ‏ وذوو سلطة،‏ ولديهم جيوشٌ‏ تحميهم<br />

وقصورٌ‏ تأويهم وخدَمٌ‏ يلبُّون أهواءهم.‏ مَن ال يريد كلَّ‏ هذا؟ لكن إن كانت<br />

لك درايةٌ‏ بالتَّاريخ،‏ فستَعرفُ‏ أنَّ‏ امللك هرني كان محقًّا.‏ فامللكيَّة ال تحظى<br />

دامئًا بحياةٍ‏ من الرتَّ‏ ف والرخاء املتواصل،‏ إذ ال بدَّ‏ أن تحملَ‏ معها شيئًا من<br />

1( وليَم شكسبري،‏ امللك هرني الرابع،‏ الجزء الثان،‏ الفصل الثالث،‏ املشهد األوَّل.‏<br />

2( املرجع السابق نفسه.‏<br />

35


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

القلق والخوف،‏ بل حتَّى الرُّهاب أحيانًا.‏ فالذي نالَ‏ التاج،‏ يحتاجُ‏ الحقًا<br />

ألن يحافظَ‏ عليه،‏ وقد أدرك عددٌ‏ من امللوك عرب التاريخ صعوبةَ‏ هذا األمر<br />

وخطورته،‏ لكن بعدَ‏ فَواتِ‏ األوان!‏<br />

وفوق كلِّ‏ هذا،‏ أظنُّ‏ أنَّه ميكننا القَول إنَّ‏ هناك شخصً‏ ا آخرَ‏ رأسُ‏ ه أشقى<br />

من امللك الالَّ‏ بس التاج،‏ وهو اإلنسانُ‏ الذي يطالبُ‏ باالعرتاف به ملكًا حينام<br />

ال مييِّزُ‏ ذلك أيُّ‏ شخصٍ‏ آخر.‏ وقد أثبتَ‏ التاريخ قسوَتَه عىل هؤالء الذين<br />

يطالبون مبَلَكيَّة ال ميلكونَها بعد.‏ أجل!‏ احتامل الفوز واعتالء العرش واردٌ،‏<br />

لكنَّ‏ عاقِبة الفشل وخيمة؛ فإذا فشلتَ‏ بوصفك ملكًا مُحتَمَالً‏ ، فال يَسعُك أن<br />

تقولَ‏ ‏‘‘آسف’’‏ ومتيض قُدمًا يف حياتك.‏ إذ من املحتمل أن ينتهي بك املطاف<br />

بفقدان ذاك الرأس الذي أردتَ‏ أن تضعَ‏ عليه التاج يف بداية األمر!‏<br />

أحد األمور الالفتة يف حياة يسوع هو حقيقة الصِّ‏ دام املحتَدِ‏ م بينه<br />

وبني السُّ‏ لطات يف زمانه.‏ كان املسيح نجَّارًا فقريًا من بلدةٍ‏ ريفيَّة مُهمَّشة<br />

يف الشامل،‏ أصبح يف خالفٍ‏ ليس فقط مع قادة شعبه،‏ بل مع قادة<br />

السلطات الرومانيَّة التي كانت تبسطُ‏ سيطرتَها عىل املنطقة.‏ فمن شأن<br />

هذا أن يوحي لنا بأنَّ‏ الذي أمامنا ليس مجرَّد معلِّمٍ‏ دينيٍّ‏ له من الحِ‏ كَم<br />

اللَّطيفة قليلٌ‏ عن الحياة وكيفيَّة العيش فيها،‏ ولسنا أيضً‏ ا بصَ‏ دَد التَّعامُل<br />

مع فَيلسوفٍ‏ أو حكيمٍ‏ باألخالق.‏ كالَّ‏ ! فبينام عُلِّق يسوعُ‏ ليموتَ‏ مُهانًا عىل<br />

صليبٍ‏ رومانّ،‏ كانت التُّهمة التي علَّقها الرُّومان فوق رأسه ساخرين به<br />

وبالشعب املظلوم كلِّه:‏ ‏‘‘يَسوعُ،‏ مَلِكُ‏ اليَهود’’.‏ 3<br />

ليست قصَّ‏ ةُ‏ يسوعَ‏ قصَّ‏ ةَ‏ رجلٍ‏ صالح؛ بل هي قصَّ‏ ةُ‏ املطالَبة بالعرش.‏<br />

)3 متَّى .37 :27<br />

36


ملك إسرائيل وملك الملوك<br />

عرشُ‏ إسرائيل لن يظلَّ‏ فارغً‏ ا<br />

بدأ يسوع خدمته العلنيَّة بحسب الكتاب املقدَّس يومَ‏ عُمِّد يف نهر األردن<br />

عىل يد رجلٍ‏ يُدعى يوحنَّا املعمدان.‏<br />

كان يوحنا يعِظُ‏ الناس ألشهُر بحاجتهم إىل التَّوبة عن خطاياهم<br />

‏)ويعني ذلك ببساطةٍ‏ االلتفاف واالبتعاد عنها(‏ ألنَّ‏ مملكة الله-‏ وهي<br />

سيادة الله عىل األرض-‏ كانت قد اقرتَ‏ ‏َبت،‏ بحسب ما وعظ يوحنَّا.‏ 4 وهذا<br />

ألنَّ‏ امللكَ‏ املختارَ‏ من الله كان سيظهر عن قريب،‏ والناس يف أمَسِّ‏ الحاجة<br />

إىل إعداد أنفسهم ملجيئه.‏<br />

وكعالمة عىل توبتهم،‏ سألَ‏ يوحنَّا الجموعَ‏ أن يُغطِّسوا أنفسهم مبياه<br />

النهر رمزًا إىل تنقِيَتهم من الخطايا واإلثم.‏ وحقيقة أنَّ‏ يسوع عُمِّد بهذه<br />

الطريقة حافلةٌ‏ بالدَّالالت املهمَّة الخاصَّ‏ ة مبعموديَّته هو خالفًا للباقني،‏<br />

والذي سنتحدَّث بشأنه الحقًا.‏ أمَّا اآلن فيكفينا مالحظةُ‏ أنَّ‏ يوحنَّا ملَّا رأى<br />

يسوعَ‏ مُقبِالً‏ إليه آمن فورًا بأنَّه مَن كان يَعِظُ‏ عنه طَوال الوقت املايض،‏<br />

ثمَّ‏ قال:‏ ‏‘‘هَذا هُوَ‏ الذي قُلتُ‏ عنه:‏ ‏»يَأيت بَعدي رَجُلٌ‏ أعظَمُ‏ منِّي،‏ ألنَّه كانَ‏<br />

قَبيل«’’.‏ 5<br />

إليك املقصود:‏ عَلِمَ‏ يوحنَّا أنَّ‏ الله يريد تأسيسَ‏ مملكته عىل األرض،‏<br />

وكان هذا أساسَ‏ رسالة يوحنَّا،‏ ثمَّ‏ أشار إىل املسيح يسوع بِكَونه ملكَ‏ هذه<br />

اململكة.‏ وما يجعل األمرَ‏ غايةً‏ يف األهمِّيَّة هو ما أفاد به يسوع نفسه؛<br />

فهذا مل يكن مجرَّد قناعةٍ‏ لدى يوحنَّا وحده،‏ إذ أفادَ‏ يسوع أنَّ‏ يوحنَّا كان<br />

37<br />

)4 متَّى .2 :3<br />

)5 يوحنَّا .30-29 :1


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

38<br />

آخر أنبياء العهد القديم،‏ ونهاية سلسلة من الرجال دامت قرونًا عدَّة<br />

كانت غايتُهم العُظمى تثبيت عيون األُمَّة عىل امللك الحقيقيِّ‏ الوحيد<br />

الذي سريسله الله أخريًا ليخلِّصَ‏ هم من خطاياهم.‏ وما كان إعالن يوحنَّا<br />

سوى أنَّ‏ اللحظة حانت،‏ وامللك أىت.‏<br />

رمبَّ‏ ا سمعتَ‏ مبا حدث بعد ذلك.‏ يقول الكتاب املقدَّس إنَّه حاملا<br />

صعدَ‏ يسوع من مياه النهر عَقِب معموديَّته ‏‘‘َرَأى رُوحَ‏ الله يَنزِلُ‏ عىل<br />

هَيئةِ‏ حَاممَةٍ‏ وَيَستَقرُّ‏ عليه.‏ وجاءَ‏ صَ‏ وتٌ‏ من السَّ‏ امء يَقولُ‏ : ‏"أنتَ‏ هُوَ‏ ابني<br />

املحبوبُ‏ . أنا راضٍ‏ عَنكَ‏ كلَّ‏ الرِّضا"’’.‏ 6 فضالً‏ عن نزول روح الله عىل هيئة<br />

حاممة والصوت السامويِّ‏ الذي علِمَ‏ الجميع أنَّه صوت الله،‏ كانت األهمِّيَّة<br />

العُظمى تكمن يف ما قاله الصوت.‏ كالعادة،‏ تحمل كلُّ‏ كلمة يف الكتاب<br />

املقدَّس معنًى هائالً‏ ، وأحيانًا أوجهًا عِدَّة للمعنى نفسه.‏ لكنَّ‏ ما يربز لدينا<br />

اآلن هو ما تحمله العبارة ‏‘‘أنتَ‏ هُوَ‏ ابني املحبوب’’؛ فالله توَّجَ‏ فيها يسوع<br />

بتاج إرسائيل،‏ أي أنَّ‏ يسوع املسيح كان ينصَّ‏ بُ‏ رسميًّا بوصفه ملك اليهود.‏<br />

كيف نعرف هذا؟ اشتُهرت العبارة ‏‘‘ابن الله’’‏ بوصفها لقبَ‏ ملك<br />

اليهود طَوال أيَّام العهد القديم.‏ وتعود جذور هذه العبارة إىل خروج بني<br />

إرسائيل من أرض العبوديَّة يف مرص؛ فعندما سمع الله دعوات النَّجاة من<br />

املرصيَّني،‏ هدَّدَ‏ فِرعَونُ‏ مرص قائالً‏ : ‏‘‘إرسائِيلُ‏ ابنِي البِكرُ،‏ وَأنا أقولُ‏ لَكَ‏ : أطلِقِ‏<br />

ابنيَ‏ لِيَعبُدَن’’‏ . 7 كان هذا إعالنٌ‏ عن محبَّة شديدة ومُميِّزة لبني إرسائيل،‏<br />

نوهِ‏ إىل انفصالهم واختالفهم عن باقي أمَم العامل.‏ كان الله يُعلِّم فرعون أنَّه<br />

تعاىل سيصارع من أجل بني إرسائيل ألنَّه يحبُّهم؛ فَهُم كانوا ابنه.‏<br />

)6 متَّى .17-16 :3<br />

)7 خروج .23-22 :4


ملك إسرائيل وملك الملوك<br />

وبعد أعوامٍ‏ ، أُطلق هذا اللقب ‏‘‘ابن الله’’‏ عىل ملك إرسائيل.‏ قال<br />

الله عن داوُد امللك العظيم ووارثيه:‏ ‏‘‘سَ‏ أكُونُ‏ أباه،‏ وَهُوَ‏ سَ‏ يَكونُ‏ ابني’’.‏ 8<br />

اإليحاء الرمزيُّ‏ مُهمٌّ‏ جدًّا:‏ دُعِيَ‏ ملك اليهود بلقبِ‏ ‏‘‘ابن الله’’-مثلام دُعِيَتِ‏<br />

األُمَّة-‏ لسبب متثيله األُمَّة جمعاء يف ذاته؛ فهو مُمثِّلهم الرشعيُّ‏ أمام الله،‏<br />

حتَّى إنَّ‏ ما يحصل له بوصفه نائبًا عن األُمَّة ميُ‏ ثِّل ما يحصل لألمَّة جمعاء.‏<br />

يف هذه الناحية من التشبيه يُجسِّ‏ د امللكُ‏ بني إرسائيل.‏<br />

يساعدنا هذا عىل فهم األهميَّة املُدهشة ملا قاله الله لحظة معموديَّة<br />

يسوع.‏ أجل،‏ كان يصف عالقة األب واالبن الكامنة منذ األزل بينه وبني<br />

يسوع ‏)وسنتوسَّ‏ ع يف الحديث عن هذا الحقًا(،‏ إالَّ‏ أنَّه تعاىل كان يُعلن بأنَّ‏<br />

يسوعَ‏ كان يُخوَّل رسميًّا مبَهمَّة متثيل بني إرسائيل لكَونه ملكَهم.‏ من تلك<br />

اللحظة فصاعدًا،‏ سيمثُل يسوع أمام العيلِّ‏ بوصفه نائبًا ومُمثِّالً‏ رشعيًّا،‏ بل<br />

حتَّى بوصفه بطالً‏ لشعبه.‏<br />

كان يسوع يعلم منذ البداية أحقيَّته مبنصب امللك.‏ ورُغم أنَّه غالبًا<br />

ما أمر الناس بالتكتُّم عىل هذه الحقيقة،‏ بل إنَّه رفضَ‏ يف أحد املواقف<br />

محاوَلة الجموع تنصيبه ملكًا-‏ فإنَّ‏ هذا مل يكن رَفضً‏ ا للمَنصب،‏ بل كانَ‏<br />

علامً‏ منه أنَّه سيكون ملكًا مختلفًا عامَّ‏ أراده الناس وتوقَّعوه.‏ أراد الظَّفَرَ‏<br />

بالتَّاج برشوطه التي وضعها هو،‏ ال بالرشوط الثَّوريَّة الخاطئة التى<br />

أرادَها الناس.‏<br />

ويف الحقيقة،‏ قَبِل يسوعُ‏ برسور تحيَّة الناس له كملك يف الوقت الذي<br />

أدرك فيه الناس فعالً‏ مَن كانوا يحيُّون.‏ يَرِدُ‏ يف متَّى 16 ذِكرُ‏ لَيلةٍ‏ سأل فيها<br />

39<br />

)8 صموئيل الثان .14 :7


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

يسوع أقربَ‏ أتباعه،‏ بعد مواجهةٍ‏ أخرى مع قادة الشعب،‏ عامَّ‏ يقول الجمع<br />

إنَّه هو.‏ وكانت هناك العديد من اآلراء التي أخربه بها أتباعه:‏ ‏‘‘بعضُ‏ هُم<br />

يَقولُ‏ إنَّكَ‏ يُوحنَّا املعمدانُ‏ ، وَآخَرُونَ‏ إنَّكَ‏ إيلِيَّا،‏ وَآخَرونَ‏ إنَّكَ‏ إرمِيا،‏ أو نَبِيٌّ‏<br />

كَباقِي األنبِياء’’.‏ يتَّضح أنَّ‏ يسوع كان مُدهشً‏ ا جدًّا حتَّى إنَّ‏ الناس ظنُّوا أن<br />

ال بُدَّ‏ أن يكونَ‏ أحَدَ‏ األنبياء وبُعث إىل الحياة!‏ لكنْ‏ مهام ظنَّ‏ الناس،‏ كان<br />

املسيح أكرث اهتاممًا مبا ظنَّه تالميذه هو،‏ لذا سألهم:‏ ‏‘‘وَأنتُم،‏ مَن أنا يف<br />

رَأيِكُم؟’’.‏ سلَّط هذا السؤال األضواء عليهم،‏ فكان رجلٌ‏ يُدعى سمعان أوَّل<br />

مَن أجاب قائالً‏ : ‏‘‘أنتَ‏ هُوَ‏ املسيحُ‏ ، ابنُ‏ الله الحيّ‏ ’’.<br />

ومع أنِّ‏ أرى أنَّ‏ سمعان عنى بقَوله أكرث من هذا،‏ فإنَّه كان عىل<br />

األقلِّ‏ يُحيِّي يسوع بوصفه ملك األمَّة:‏ أنت هو املمسوح ‏)هذا ما عنته<br />

كلمة املسيح يف اللغة اليونانيَّة(‏ ابن الله وامللك!‏ وماذا كان ردُّ‏ املسيح؟<br />

ما كان منه إالَّ‏ أنَّه قَبِل التحيَّة امللوكيَّة،‏ وقال فَرحًا:‏ ‏‘‘هَنِيئًا لَكَ‏ يا سِ‏ معانُ‏<br />

بنَ‏ يُونا،‏ ألنَّ‏ مَن أعلَنَ‏ لَكَ‏ ذَلِكَ‏ لَيسَ‏ إنسانٌ‏ ، بَل هُوَ‏ أيب الَّذي يف السَّ‏ امءِ’’.‏<br />

كان سمعان-‏ والذي أسامه يسوعُ‏ بطرسَ‏ - قد أدرك ما كان يسوع يعلِّمه<br />

مسبَّقًا عن نفسه،‏ وهو كونه ملك إرسائيل الرشعيّ‏ . 9<br />

ويَرِد يف إنجيل لوقا 19 حدثٌ‏ آخر أعلن فيه يسوع بصورةٍ‏ دراميَّة<br />

وعلنيَّة عن حقِّه باملَلكيَّة،‏ قبل أسبوع فقط من موته عىل الصليب حيث<br />

كان وتالميذه يف طريقهم إىل أورشليم ‏)القُدس(‏ لحضور عيد الفصح.‏ ومن<br />

املُحتمَل أنَّ‏ مئات اآلالف من الناس كانوا يشقُّون طريقَهم إىل املدينة ذلك<br />

األسبوع،‏ إذ إنَّه أهمُّ‏ أعيادِ‏ السنة اليهوديَّة.‏<br />

)9 متَّى .20-13 :16<br />

40


وبينام كانوا يقرتبون من املدينة،‏ أرسَ‏ لَ‏ يسوع بعضً‏ ا من تالميذه إىل<br />

قريةٍ‏ صغريةٍ‏ تُدعى بيت فاجي،‏ وأمرهم بإحضار أتان ‏)أنثى حامر(‏ مُعَدٍّ‏<br />

لهم.‏ يقول الكتاب املقدَّس إنَّ‏ يسوع امتَطى األتان وذهب يف مسريةٍ‏<br />

قصريةٍ‏ من بيت فاجي إىل أورشليم ‏)القدس(‏ بينام تبعه حشدٌ‏ كبري من<br />

الناس.‏ وإليك ما حدث بعدها:‏<br />

‏‘‘وَاقرتَ‏ ‏َبَ‏ من مُنحَدَر جَبَل الزَّيتُون.‏ حينَئذٍ‏ ابتَدَأت حُشُ‏ ودُ‏<br />

أتباعه كُلُّهم يُسبِّحونَ‏ اللهَ‏ بفَرَحٍ‏ بأصواتٍ‏ عاليَةٍ‏ من أجل<br />

كلِّ‏ املُعجزات التي رَأوها.‏ فَسبَّحُوا وقالوا:‏ ‏»مُبارَكٌ‏ امللكُ‏<br />

الذي يَأيت بِاسْ‏ م الرَّبِّ‏ ! يف السَّ‏ امء سَ‏ المٌ،‏ وَاملجدُ‏ لله يف<br />

األعايل!«’’.‏ 10<br />

‏‘‘وكانَ‏ مُعظَمُ‏ النَّاس يَفرِشونَ‏ أردِيَتَهُم عَىل الطَّرِيق.‏ ولكنَّ‏<br />

آخَرينَ‏ قَطَعوا أغصانًا من األشجارِ‏ وَفَرَشوها عىل الطَّريق.‏<br />

وَجُموعُ‏ النَّاس الذينَ‏ كانوا يَسريونَ‏ أمامَه وَخَلفَه كانوا<br />

يَهتِفونَ‏ : ‏»يَعيشُ‏ املَلكُ‏ ! يَعيشُ‏ ابنُ‏ داوُدَ.‏ مُبارَكٌ‏ هُوَ‏ اآليتِ‏<br />

بِاسمِ‏ الرَّبّ‏ . يَعيشُ‏ املَلِكُ‏ يفِ‏ عُاله«’’.‏ 11<br />

ميتلئ هذا املشهد بالدَّالالت بالغة األهمِّيَّة.‏ مل يكُنِ‏ الناس فقط<br />

يلوِّحون باألغصان ويفرشون أرديَتَهم عىل الطريق أمام يسوع كأسلوبٍ‏<br />

رمزيٍّ‏ ومُعتاد للخضوع للملوك،‏ بل كانوا أيضً‏ ا يدعونه ملكًا ويهتِفون<br />

بكَونه وارث داوُد!‏ وفوق هذا،‏ كانوا يقتبسون أنشودةً‏ قدمية اعتادَ‏ الناس<br />

41<br />

)10 لوقا .38-37 :19<br />

)11 متَّى .9-8 :21<br />

ملك إسرائيل وملك الملوك


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

إنشادَها مللكِهِم حينام كان يقرتب من الهيكل لتقريب ذبيحة.‏ 12<br />

كان املشهد كلُّه مَوضعًا للفُرجة،‏ وقصد يسوع من هذا جذب<br />

االنتباه.‏ ارتاع بعضٌ‏ من الفريسيِّني وتذمَّروا ليسوع بعد أن سمعوا هتافَ‏<br />

الجمع وما كان يُقال،‏ فأَعرَبوا عن ذلك قائلني:‏ ‏‘‘يا مُعَلِّمُ،‏ وَبِّخ تَالميذَك!’’.‏<br />

هل أدركتَ‏ ما كان مسؤولو الهيكل هؤالء يفعَلون؟ كانوا يريدون تأييد<br />

املسيح لهم بأنَّ‏ هتافاتِ‏ الشعب امللَكيَّة مل تكُنْ‏ مناسبة،‏ أي أنَّهم أرادوا<br />

منه رَفْضَ‏ امللَكيَّة.‏ لكنَّ‏ املسيحَ‏ أىب ذلك وقال:‏ ‏‘‘أقُولُ‏ لَكُمُ‏ الحقَّ‏ ، إنْ‏ سَ‏ كَتوا<br />

هُم،‏ فَسَ‏ تَرصُخُ‏ الحِ‏ جارة!’’.‏ 13 ال مجال للتَّأخري،‏ كان الوقت قد حان لتتحقَّقَ‏<br />

النبوَّة بوُصول امللك إىل عاصمته عىل ظَهْرِ‏ أتان.‏<br />

مل يَعُدْ‏ عرشُ‏ إرسائيل فارغًا كام كان منذ أكرث من ستِّ‏ مئة سنة،‏ بل<br />

صار يعرفُ‏ مَلِكَه.‏<br />

ملكٌ‏ حقيقيٌّ‏ على عرشٍ‏<br />

42<br />

حقيقيٍّ‏ ذي تاريخ حقيقيّ‏<br />

يصعبُ‏ علينا اليوم استيعاب الداللة الواضحة ملا كان يحصل عند دخول<br />

يسوع أورشليم ‏)القدس(‏ ممتطيًا األتان يف ذلك اليوم.‏ ميكن أن نفرتضَ‏<br />

أنَّ‏ الناسَ‏ الذين تدافَعوا حوايلَ‏ املسيح كانوا يأدُّون شيئًا يشبه مرسحيَّة<br />

دينيَّة صاخبة،‏ كانت ستُنىس فورَ‏ أن عادوا إىل صوابهم وقصدوا بيوتَهم.‏<br />

إالَّ‏ أنَّ‏ هؤالء مل يكونوا يهتفون مبُلكٍ‏ حقيقيٍّ‏ سيجلس عىل عرشٍ‏ حقيقيٍّ‏<br />

له تاريخٌ‏ حقيقيّ‏ .<br />

مل يحظَ‏ بنو إرسائيل دَومًا مبَلك.‏ ففي بداية تاريخهم؛ وبينام<br />

)12 مزمور .26 :118<br />

)13 لوقا .40-39 :19


كان الشعب مجرَّدَ‏ عائلةٍ‏ ممتدَّة،‏ كان يقودهم ساللة من اآلباء ومن<br />

ثمَّ‏ سلسة طويلة من األنبياء والقضاة أقامَهم الله ليحكُموا الشعبَ‏<br />

ويحموه.‏ غري أنَّ‏ بني إرسائيل سألوا النبيَّ‏ صموئيل قائدَهم أخريًا أن<br />

ميسحَ‏ لهم ملكًا.‏ ورغمَ‏ أنَّ‏ صموئيل اعرتض وحذَّرهم من اإلساءات التي<br />

قد ميارسها امللك مُستغالًّ‏ السلطة،‏ فإنَّهم أرصُّوا،‏ وهكذا مسحَ‏ صموئيل<br />

ملكًا عليهم.‏ وصلت الساللة امللكيَّة إىل أوجِها يف أثناء حُكم امللك داوُد؛<br />

فتًى راعٍ‏ من قرية بيت لحم اختارَه الله ‏)مُسبِّبًا دهشةً‏ للنَّاس(‏ ليحكُمَ‏<br />

الشعب.‏ حينها بدأ نجمُ‏ داوُد بالسُّ‏ طوع تحت برَكة القدير وإرشاده،‏ إىل<br />

أنِ‏ اعتَىل الحُكمَ‏ نحو عام 1000 ق.‏ م،‏ حيث وحَّد أسباطَ‏ بني إرسائيل<br />

االثني عرش تحت تاجٍ‏ واحد،‏ وأخضعَ‏ أعداء األُمَّة،‏ واستَوىل عىل أورشليم<br />

‏)القدس(‏ وجعلها عاصمةَ‏ اململكة.‏ وفوق كلِّ‏ هذا،‏ وعده الله بأن يُثبِّت<br />

ساللتَه املالكة إىل األبد.‏<br />

يُعرَفُ‏ داوُد بأنَّه أعظَمُ‏ ملوك اليهود،‏ حتَّى إنَّ‏ املنصب نفسه دُعي<br />

‏‘‘بامللكيَّة الداوُديَّة’’،‏ وعرشُ‏ ه ‏‘‘بالكُريسِّ‏ الداوديّ‏ ’’. أمَّا داوُد نفسه فكان<br />

محاربًا مِقدامًا وعازفًا موهوبًا وحكيامً‏ ، كام كان شاعرًا.‏ كتب داوُد<br />

أكرث من نِصف األناشيد التي يحتويها كتاب املزامري،‏ كام يُعرَفُ‏ بأنَّه<br />

مثالٌ‏ لإلميان والربِّ.‏ مل يكن داوُد كامالً‏ - حاشا!-‏ إالَّ‏ أنَّه أحبَّ‏ الله حُبًّا<br />

جامًّ‏ ، وأحسَّ‏ بعُمق ذنبه وعوَزه،‏ وآمن بصدقٍ‏ برحمة العيلِّ‏ مبغفرة<br />

خطاياه.‏ ويذكُرُ‏ الكتاب املقدَّس أنَّ‏ الله وصفَ‏ داود بأنَّه ‏‘‘رَجُل كَام<br />

يُريده قَلبُه’’.‏ 14<br />

وبعدما تُوُيفِّ‏ داوُد نحو عام 970 ق.‏ م،‏ خلفَه عىل العرش ابنه سُ‏ لَيامن،‏<br />

43<br />

)14 ‎1‎صموئيل .14 :13<br />

ملك إسرائيل وملك الملوك


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

44<br />

حيث كان مُلكُه أعظم شأنًا من ذلك الذي ألبيه من عدَّة نواحٍ،‏ ال سيَّام<br />

يف بدايات الحُكم.‏ فقد ازدادت عَظَمة اململكة وغناها وتأثريها وصوالً‏ إىل<br />

عرصها الذهبيّ‏ . غري أنَّ‏ الساللة امللكيَّة آلتْ‏ إىل الفَوىض مبوت سليامن بعد<br />

أن حَكم ألربعني عامًا.‏ وقَسَ‏ مَت حربٌ‏ أهليَّة اململكةَ‏ قسمَني:‏ مملكة إرسائيل<br />

‏)الشامليَّة(،‏ ومملكة يهوذا ‏)الجنوبيَّة(،‏ حيث شَ‏ هِدَ‏ الشعبان يف القرون<br />

الالحقة انحطاطًا مروِّعًا للمُلوك يف عبادة األوثان والرشِّ‏ الفظيع،‏ حتَّى إنَّ‏<br />

امللك آحاز،‏ من اململكة الشامليَّة،‏ ضحَّى بابنه إللهٍ‏ وثنيٍّ‏ بحرقه حيًّا بالنَّار.‏<br />

ويف غضون كلِّ‏ هذا،‏ واصل الله إرسال أنبياء لتحذير إرسائيل ويهوذا<br />

وحثِّهم عىل ترك خطاياهم والعودة إىل طاعته،‏ وإنْ‏ فعلوا هذا كان الله<br />

سيغفر لهم ويُعيد بناءَ‏ أُمَّتهم،‏ وإالَّ‏ كانت ستَحلُّ‏ عليهم الدينونة،‏ ويطالهم<br />

املوت.‏ لكنَّ‏ أيًّا من الشعَبني مل يتُب،‏ مامَّ‏ أدَّى إىل تعرُّض اململكة الشامليَّة<br />

لغزو اإلمرباطوريَّة األشوريَّة الفتَّاكة نحو سنة 700 ق.‏ م،‏ ووُقوع أهلها يف<br />

السبي وتعرُّضهم للتَّهجري.‏ أمَّا مملكة يهوذا الجنوبيَّة فقد نجت ألكرث من<br />

مئة عام،‏ إىل أن أىت نبوخذنرصَّ‏ البابيلُّ‏ واجتاحَها سنة 586 ق.‏ م،‏ ودمَّر<br />

أورشليم ‏)القدس(‏ والهيكل وسبى أهلها إىل بابل.‏ وأرس البابليُّون امللك<br />

الداوُديَّ‏ وقَلَعوا عَينَيه،‏ ووَضعوا خزامةٍ‏ يف أنفه واقتادوه إىل بابل حيث<br />

أمىض حياته يشارك نبوخذنرصَّ‏ مائدة الطعام.‏ ومع أنَّ‏ هذا الدعوة تبدو<br />

حسنة،‏ فقد كانت بالفعل تعبريًا عن اإلذالل أكرث منه عن التكريم.‏ فقد كان<br />

امللك الداوديُّ‏ اآلن مجرَّد تابعٍ‏ أعمًى وبائس لإلمرباطور البابيلّ.‏<br />

مضت السنوات،‏ وهزمَتِ‏ اإلمرباطوريَّة الفارسيَّة البابليِّني،‏ وأطاحَ‏<br />

اليونانيُّون بالفارسيِّني،‏ والحقًا ابتلعَ‏ الرومان حضارة اليونانيِّني،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ أمَّة<br />

بني إرسائيل مل تتمكَّن من إعادة استقاللها وتثبيت عرشها.‏ فقد بقيت


تابعةً‏ مذلولة وخاضعة لباقي األمم،‏ وألكرث من ستِّ‏ مئة عام ظلَّ‏ العرش<br />

الداوُديُّ‏ ال يعرفُ‏ ملكًا.‏<br />

ورغم هذا مل يضمحلَّ‏ الرجاء؛ إذ ظلَّ‏ األنبياء يتنبَّأون بزمنٍ‏ آتٍ‏ تُقام فيه<br />

الساللة امللكيَّة الداوُديَّة من جديد،‏ يف وسط األحداث املأساويَّة التي أصابت<br />

إرسائيل من انقسام وانحطاط وسقوط.‏ كام أنبأوا اليهود بيَومٍ‏ سريسل الله<br />

فيه ملكًا يحكُم من عرش داوُد بربٍّ‏ وعدلٍ‏ مُطلَقَني-‏ ملكًا ممسوحًا بروح الله<br />

سيعيد قلبَ‏ األُمَّة إىل عبادة الله وحده،‏ وسيملُك إىل األبد بالحكمة والرأفة<br />

واملحبَّة.‏ ليس ذلك فحسب،‏ بل وعد الله أيضً‏ ا أالَّ‏ يكون العرش الداوُديُّ‏<br />

مجرَّد عرشٍ‏ محيلِّ‏ ّ، بل ستَشملُ‏ سُ‏ لطتُه كلَّ‏ األرض حتَّى إنَّ‏ الشعوب ستأيت<br />

إىل أورشليم ‏)القدس(‏ وتُقدِّم اإلجاللَ‏ مللِك إرسائيل،‏ ملِك امللوك.‏ 15<br />

بدت هذه النبوات سخيفةً‏ عىل األرجح بينام شاهدَ‏ اليهود ملوكَهم<br />

يقَعون يف الرشِّ‏ وتحت دينونة الله العادلة واحدًا تلو اآلخر،‏ وبدا أنَّها<br />

استهزاءٌ‏ قاسٍ‏ أيضً‏ ا حينام شاهدوا آخرَ‏ ملكٍ‏ داوديٍّ‏ يرجو الرحمة عندما اقتلعَ‏<br />

البابليُّون عينَيه.‏ لكنَّهم لو أصغوا بحذرٍ‏ للنبوَّات،‏ ألدرَكوا أنَّ‏ هذا امللك الذي<br />

وعد به األنبياء ليس مثل باقي الرجال الذين اعتَلَوا العرشَ‏ لزمانٍ‏ ثمَّ‏ ماتوا،‏<br />

فقد أوحت النبوَّات أنَّه أعظم من ذلك بكثريٍ.‏ يف الواقع،‏ لو أصغى الشعب<br />

جيِّدًا ألدركوا أنَّ‏ الله مل يَعِدْ‏ مبجرَّد إرسال ملكٍ‏ إىل اليهود،‏ بل سيأيت بنفسه<br />

ويكون امللك عليهم.‏ الحظ ما قاله النبيُّ‏ إشعياء عن ميالد هذا امللك العظيم:‏<br />

‏‘‘هَذا حنيَ‏ يولَدُ‏ لَنا وَلَدٌ،‏ ونُعطى ابنًا،‏<br />

وتَكونُ‏ مَسؤولِيَّةُ‏ القِيادةِ‏ عىل عاتِقِه’’.‏<br />

15( إقرأ مثالً‏ إشعياء ‎9‎؛ ‎11‎؛ مالخي 5.<br />

ملك إسرائيل وملك الملوك<br />

45


ال يشء ملحوظ يف هذا،‏ أليس كذلك؟ يبدو كأيِّ‏ ملكٍ‏ آخر.‏ تابعِ‏ القراءة:‏<br />

‏‘‘وَسَ‏ يُدعى اسمُهُ:‏ املشريَ‏ العَجيبَ‏ ، اللهَ‏ الجَبَّارَ،‏<br />

األبَ‏ األبَدِ‏ يَّ‏ ، رَئِيسَ‏ السَّ‏ الم.‏<br />

لَن يَكونَ‏ هُناكَ‏ حَدٌّ‏ لِعَظَمةِ‏ سُ‏ لطانِه<br />

وَسَ‏ المِهِ‏ عَىلَ‏ عَرشِ‏ داوُدَ‏ وَمَملَكَتِه.‏<br />

سَ‏ يُؤَسِّ‏ سُ‏ ها وَيَحفَظُها بِالربِ‏ ِّ من اآلنَ‏ وإىلَ‏ األبَد’’.‏ 16<br />

ليس هذا ملكًا اعتياديًّا.‏ ال ميلكُ‏ أيُّ‏ ملكٍ‏ اعتياديٍّ‏ ‏‘‘من اآلنَ‏ وإىلَ‏<br />

األبَد’’،‏ وليس من ملكٍ‏ له سلطانٌ‏ بال حدٍّ.‏ وال من ملكٍ‏ يُدعى املشريَ‏<br />

العَجِيبَ‏ أو األبَ‏ األبَدِ‏ يَّ‏ أو رَئِيسَ‏ السَّ‏ المِ‏ . وفوق كلِّ‏ ذاك،‏ ليس من أحدٍ‏ -<br />

ملكًا كان أم ال-‏ ميكنه أن يحملَ‏ لقب اللهَ‏ الجَبَّارَ‏ وال أليِّ‏ سبب كان.‏ ال<br />

أحد،‏ ما عدا...‏ الله نفسه.‏<br />

أعيُنٌ‏ وذهنٌ‏ مذهوالن بالجالل<br />

كثريًا ما تخيَّلتُ‏ سمعان بطرس يقول هذه الكلامت:‏ ‏‘‘أنتَ‏ هُوَ‏ املَسِ‏ يحُ‏ ،<br />

ابنُ‏ الله الحيّ‏ ’’، هامسً‏ ا وعيناه وذهنُه مذهوالن بإجالل.‏ أظنُّ‏ أنَّه بدأ<br />

يستوعِب حينها ما كان يجري من حوله.‏ أجل،‏ كان امللوك القُدامى<br />

يحملون اللقب ‏‘‘ابن الله’’‏ الذي ظنَّه الجميع مجرَّد لقبٍ‏ عاديّ‏ . إالَّ‏ أنَّه<br />

مل يكن كذلك؛ بل كان قصد الله منه اإلشارة إىل املستقبل وإىل مشيئته<br />

بتنصيب نفسه عىل عرش داود.‏ وكام أعلن األنبياء،‏ سيكون امللك العظيم<br />

‏‘‘ابن الله’’‏ ال رمزًا فقط،‏ وال تلقيبًا،‏ بل بالحقيقة.‏ الله نفسه هو امللك.‏<br />

)16 إشعياء .7-6 :9


ملك إسرائيل وملك الملوك<br />

هذا ما أدركه بطرس:‏ أنَّ‏ هذا الرجل الجالس أمامه هو امللك املسيح<br />

املمسُ‏ وح إلرسائيل،‏ لذا كان لقبه ‏‘‘ابن الله’’‏ من هذه الناحية،‏ ومن ناحية<br />

طبيعته:‏ هو ابن الله األزيلّ.‏ ليس فقط مَلِكَ‏ إرسائيل،‏ بل مَلِك امللوك.‏<br />

لقد أدرَكَ‏ بطرس أنَّ‏ هذا الرجل هو الله املتجسِّ‏ د.‏<br />

47


الفصل 4<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏<br />

مل يَتَبادر إىل ذهن بطرس فكرة ألوهيَّة املسيح يسوع من ال يشء.‏ فلنذكُر<br />

أنَّه رافَقَ‏ يسوعَ‏ أشهرًا عدَّة شاهد فيها املعجزات التي صنعها،‏ والسقامء<br />

الذين شفاهم إذ مل يكُن لهم رجاءٌ‏ يف الشفاء،‏ بل إنَّه أقامَ‏ أُناسً‏ ا من املوت.‏<br />

كانت هذه األحداث كافيةً‏ لتُدهشَ‏ أيًّا كان.‏<br />

هذا فضالً‏ عن أوقاتٍ‏ أُخرى أصابتْهم بالذُّهول-‏ أوقاتٍ‏ بدت فيها<br />

الطبيعة أيضً‏ ا تنحني منصاعةً‏ للمسيح.‏<br />

إحدى هذه املرَّات كانت تقريبًا عند بداية خدمة املسيح العلنيَّة.‏<br />

كان قد ذاع الخربُ‏ عن رجلٍ‏ يشفي السُّ‏ قَامء ويُخرج الشياطني،‏ لذا بدأت<br />

الحشود تتجمهَرُ‏ من حوله.‏ تعاملَ‏ يسوع معهم بصربٍ‏ ولُطف،‏ حيث<br />

أمىض الساعات بإخراج الشياطني وشفاء من عانوا جرَّاءَ‏ شتَّى األمراض.‏<br />

لكنَّ‏ يسوع تَعِب يومها،‏ إذ كان له عدَّة ساعات يشفي ويخدم عىل شاطئ<br />

بحر الجليل ‏)بُحرية طربيَّا(.‏ وحينام أبرص جَمعًا كبريًا يُقبل إليه من بعيد،‏<br />

صعد مع تالميذه إىل قاربهم وأبحروا إىل الطرف اآلخر من البُحرية.‏<br />

كان يسوعُ‏ وتالميذه معتادين اإلبحار يف بحر الجليل؛ إذ إنَّ‏ قسطًا<br />

كبريًا من تعاليم املسيح والشفاءات التي صنعها كانت قد جرت يف القُرى<br />

49


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

50<br />

املحيطة بالبُحرية،‏ والتي متتاز بصيد السمك.‏ كام أنَّ‏ بعضً‏ ا من تالميذه،‏<br />

ومن بينهم بطرس،‏ كانوا قد امتهنوا الصيد هناك قبلام دعاهم يسوع<br />

ليتبعوه.‏ وتجدرُ‏ اإلشارةُ‏ إىل أنَّ‏ بحرَ‏ الجليل ليس كبريًا،‏ وهو يف الواقع<br />

ليس بحرًا،‏ بل بحريةٌ‏ من املاء العذب ال يتجاوز محيطها ثالثةً‏ وخمسني<br />

كيلومرتًا.‏ إالَّ‏ أنَّ‏ أبرزَ‏ ما مييِّزه هو انخفاضه نحو مئتَي مرت تحت مستوى<br />

سطح البحر،‏ واملنخفضات السحيقة التي تحيط به تأيت إليه برياح رسعتها<br />

هائلة.‏ لذا فضالً‏ عن اشتهار بحر الجليل بالسمك الوفري،‏ اشتُهر آنذاك<br />

أيضً‏ ا برياحٍ‏ عاتية تعصف عادةً‏ ودون إنذار.‏<br />

وهذا ما حدث يف ذلك اليوم بالتَّحديد؛ فبعد ساعات من إبحار سفينة<br />

املسيح وتالميذه،‏ هبَّت إحدى هذه العواصف بينام كانوا يف منتصف<br />

البحرية،‏ إىل حيث ال منفعة من االلتفاف والعودة.‏ يبدو أنَّ‏ هذه العاصفة<br />

مل تكن متوسِّ‏ طة الشدَّة،‏ بل وصفها البشري متَّى،‏ وهو أحد التالميذ الذين<br />

خاضوا التجرِبة،‏ ولهم درايةٌ‏ بهذه العواصف،‏ بأنَّها ‏‘‘اضطرابٌ‏ عظيم’’؛<br />

والكلمة اليونانيَّة التي استخدمها البشري متَّى لتشريَ‏ إىل العُنف االستثنايئِّ‏<br />

للعاصفة هي ‏‘‘سيسموس’’‏ ،(Seismos) 1 وتعني زلزاالً‏ . أي أنَّ‏ متَّى أرادَنا<br />

أن ندركَ‏ أنَّ‏ هذه مل تكن عاصفةً‏ مثل العواصف األخرى،‏ بل كانت كزلزال<br />

عىل سطح املاء!‏ وهكذا وجدَ‏ التالميذ أنفسهم غارقني يتخبَّطون يف قاربهم<br />

الصغري بني أمواج البحر العاتية التي أثارتها رياحٌ‏ وجدت طريقَها إىل<br />

البُحرية من الوديان املحيطة.‏<br />

كان الرجال مرتعبني دون شكّ‏ . وهذا أمرٌ‏ طبيعيّ‏ ؛ إذ ميكنُ‏ قَلْبُ‏<br />

القارب الصغري وتحطيمه بسهولة،‏ لينتهيَ‏ بهم املطاف بالغرق واملوت<br />

)1 متَّى .24 :8


دون أن يدريَ‏ بهم أحدٌ.‏ ورُغم خوف هؤالء الرجال،‏ فلم يكن املسيح<br />

خائفًا،‏ بل كان نامئًا عىل منت مؤخَّر القارب.‏ عندها هُرِع التالميذ إىل<br />

يسوع املسيح وأيقَظوه قائلني:‏ ‏‘‘يا سيِّدُ،‏ نَجِّنا فإنَّنا نَهلِكُ‏ !’’، وهذا ما<br />

سجَّله متَّى.‏ أمَّا ما ورد عن مرقس فهو قولهم:‏ ‏‘‘يا مُعَلِّمُ،‏ أما يَهُمُّكَ‏ أنَّنا<br />

نَهلِكُ‏ ؟’’،‏ ولوقا أوْرَد:‏ ‏‘‘يا مُعلِّمُ،‏ يا مُعلِّمُ،‏ إنَّنا نَهلِكُ‏ !’’. 2 ومع أنَّ‏ الكثري كان<br />

قد قيل حينها،‏ فإنَّ‏ التالميذ أدركوا شيئًا واحدًا:‏ كانوا جميعهم يف مأزق<br />

أرادوا تدخُّل املسيح فيه.‏<br />

لنتوقَّف هنا قليالً‏ . إنَّ‏ استنجادهم بيسوع مثريٌ‏ لالهتامم،‏ أليس<br />

كذلك؟ أقصدُ‏ من ذلك:‏ ما الذي أراد هؤالء الرجال من يسوع فعله؟ فأنا<br />

أشُ‏ كُّ‏ يف وُجود أيَّة خُطَّة.‏ يبدو عليهم االنبهار الكايف من املسيح ليفرتضوا<br />

قدرتَه عىل فعل أمرٍ‏ ما.‏ فهم مل يقولوا:‏ ‘‘ أتعلمون أيُّها الرجال؟ ينبغي<br />

لنا أن نهدأ.‏ فالربُّ‏ نائمٌ‏ يف الخلف’’.‏ فلرُمبَّ‏ ا توقَّعوا منه أن يحميَهم من<br />

العاصفة الهوجاء بطريقةٍ‏ ما،‏ أو أنْ‏ يدفعَ‏ بالقارب مرسعًا،‏ أو أنْ‏ ينقُله يف<br />

لحظة إىل الطرف اآلخر من البُحرية.‏ ومع أنَّهم انتظروا املسيح ليفعلَ‏ شيئًا<br />

ما،‏ فام ال ميكن إنكاره هو عدم توقُّعهم ما قام به فعالً‏ .<br />

لنعُد إىل الرواية.‏ هُرِعَ‏ التالميذ فَزِعني إىل مؤخَّر القارب وأيقَظوا<br />

يسوع.‏ أمَّا يسوعُ‏ فقامَ‏ بأمرٍ‏ عجيب:‏ استيقظَ‏ من نومه،‏ ورمبَّ‏ ا فرك عَينَيه،‏<br />

وكلَّمهم قائالً‏ : ‏‘‘ما بالُكُم خائفنيَ‏ يا قَلييل اإلميان؟’’.‏ 3 ال يسعني إالَّ‏ تصوُّر<br />

رغبة واحد أو اثنني من التالميذ–‏ بطرس عىل وجه التحديد–‏ بأن يجيبوا:‏<br />

‏‘‘ما بالنا خائفني؟ ال بدَّ‏ أنَّك متُ‏ ازحنا!’’.‏ لكنَّهم مل ينطقوا بكلمة.‏ ويقول<br />

51<br />

2( متَّى ‎25‎؛ 8: مرقس ‎38‎؛ 4: لوقا 24. 8:<br />

)3 متَّى .26 :8<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

الكتاب املقدَّس إنَّ‏ يسوع وقف بهدوءٍ‏ عجيب ‏‘‘وانتهر الريح’’‏ وقال<br />

للبحر:‏ ‏‘‘اسكُت!‏ ابكَم!’’.‏ 4<br />

يا لها من كلمة آرسة!‏ ‏‘‘انتهرهم’’‏ متامًا كام يؤدِّب أبٌ‏ أوالده.‏ هل<br />

سبق لك أنِ‏ انتهرت الريح أو اعرتضت عىل عاصفة؟ قد تحاول وتذهب<br />

لتحاجج إعصارًا آتيًا من الشاطئ حول الدمار الذي قد يجلبه،‏ إالَّ‏ أنَّ‏<br />

اإلنجيل يقول إنَّه حينام أمر يسوعُ‏ العاصفةَ‏ بالهدوء،‏ أطاعت العاصفة<br />

فِعالً‏ . ويقول مرقس:‏ ‏‘‘فسكَنَتِ‏ الرِّيحُ‏ وصارَ‏ هُدوءٌ‏ عظيم’’.‏ سبق أن رأى<br />

هؤالء التالميذ عواصفَ‏ تهدأ،‏ وبرسعة أيضً‏ ا.‏ لكن هذا مل يحدثْ‏ بتاتًا؛<br />

فحتَّى لو هدأت الرياح برسعة،‏ كانت املياه تستمرُّ‏ بالتخبُّط مدَّةً‏ إضافيَّة<br />

قبل أن تهدأ هي أيضً‏ ا.‏ أمَّا ما رأوه فكانَ‏ توقُّف الرياح واألمواج يف آنٍ‏<br />

واحد بهدوءٍ‏ خارق للطبيعة.‏ وقف التالميذ مذهولني يقطرون ماءً.‏ وراحوا<br />

يتبادلون النظرات ما بينهم وينظرون إىل يسوعَ‏ مدهوشني.‏ ال يذكرُ‏<br />

اإلنجيل من الذي طرحَ‏ السؤال يف النهاية،‏ إالَّ‏ أنِّ‏ أراهن عىل أنَّ‏ جميعهم<br />

هزُّوا رؤوسهم بعُجبٍ‏ مؤيِّدين السائل:‏ ‏‘‘مَن هو هذا؟ فإنَّ‏ الرِّيحَ‏ أيضً‏ ا<br />

والبحرَ‏ يُطيعانِه!’’.‏ 5<br />

أكثرَ‏ من مُجرَّد ملك<br />

أتساءل ما إذا كان ذلك اليوم يجول يف خاطر بطرس حينام أجاب عن<br />

سؤال املسيح،‏ وقال:‏ ‏‘‘أنتَ‏ هو املسيحُ‏ ابنُ‏ الله الحَيّ‏ !’’. 6 يعتقد بعض<br />

)4 مرقس .39 :4<br />

)5 مرقس .41 :4<br />

)6 متَّى .16 :16<br />

52


العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏<br />

الناس أنَّ‏ بطرس مل يكنْ‏ يُعربِّ‏ عامَّ‏ هو أعمق من اعرتاف بأحقيَّة يسوع<br />

املسيح باملُلك عىل إرسائيل.‏ يعتقدون أنَّه ترصيحٌ‏ ذو عالقة بالسياسة ال<br />

أكرث.‏ غري أنِّ‏ ال أتَّفق مع ذلك.‏ وإليك السبب:‏ آخر مرَّةٍ‏ دعا فيها التالميذ<br />

يسوع بلقب ‏‘‘ابن الله’’‏ كانت عندما قامَ‏ بأمرٍ‏ آخر وضعَه يف خانة أسمى<br />

من مجرَّد ملك.‏ وليس ذلك فحسب،‏ بل ما حدث كانت له ذكرى خاصَّ‏ ةٌ‏<br />

لدى بطرس نفسه.‏<br />

كانت الحال مشابهة لتلك التي أَسْ‏ كَت فيه املسيح العاصفة.‏ كان<br />

التالميذ مرَّة أُخرى يف قاربٍ‏ متَّجهني إىل الناحية األُخرى من البحرية،‏ وأخذت<br />

الرياح تَعصف واألمواج تتخبَّط نحو القارب،‏ متامًا كام سبق.‏ كان ما يحصل<br />

مألوفًا جدًّا ما عدا فارقًا واحدًا:‏ مل يكن يسوع هذه املرَّة موجودًا معهم.‏<br />

كان يسوع يف ذلك اليوم قد أطعم أكرث من خمس آالف رجلٍ‏ مع<br />

عائالتهم من سمكتني وخمسة أرغفة،‏ ثمَّ‏ أرسل تالميذه ليسبقوه إىل<br />

الجانب اآلخر من بحر الجليل.‏ لرمبَّ‏ ا ظنُّوه سيَستأجرُ‏ قاربًا آخر أو سيذهبُ‏<br />

برًّا حول البُحرية،‏ لكن يف كلتا الحالتَني،‏ أبحروا بالقارب بينام بَقِيَ‏ يسوعُ‏<br />

ليُنهيَ‏ خدمته للجموع،‏ حيث صعد بعدها أعىل جبلٍ‏ قريب واعتزل ليصيلِّ‏ .<br />

يف هذه األثناء،‏ كان التالميذ ميُ‏ ضون ليلةً‏ صعبةً‏ عىل منت القارب<br />

املضطرب بسبب الرياح واألمواج التي هاجت مُجدَّدًا،‏ مامَّ‏ أقلقَهم جدًّا.‏<br />

يذكرُ‏ اإلنجيل أنَّ‏ الوقت حينها كان الهزيع الرابع من اللَّيل؛ أي يف وقتٍ‏<br />

ما بني الثالثة والسادسة فجرًا.‏ حينها أبرص التالميذ أحدهم ماشيًا عىل املاء<br />

نحوهم!‏ ومن املتوقَّع أنَّ‏ قلقهم حاالً‏ تحوَّل إىل رُعبٍ‏ ورصخوا:‏ ‏‘‘إنَّه خيالٌ‏ !’’.<br />

ما حدث بعدها يُعدُّ‏ من أبرز أحداث سرية حياة املسيح يسوع،‏ ولرُمبَّ‏ ا<br />

53


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

54<br />

أغناها باملعنى واألهمِّيَّة.‏ فبعدما سمع يسوع رصخاتهم ناداهم قائالً‏ :<br />

‏‘‘تشَ‏ جَّعوا!‏ أنا هو.‏ ال تخافوا’’.‏ توقَّفِ‏ اآلن وتأمَّل يف ما قاله،‏ إذ يبدو أنَّ‏<br />

يف هذه الكلامت القليلة سمع بطرس ما حاز ثقته.‏ مال بطرس ونادى:‏<br />

‏‘‘يا سيِّدُ،‏ إنْ‏ كُنتَ‏ أنتَ‏ هو،‏ فمُرن أنْ‏ آيتَ‏ إلَيكَ‏ عىل املاء’’.‏ يا له من قولٍ‏<br />

عجيب!‏ ال بدَّ‏ أن تتساءل ما إذا نظر اآلخرون إىل بطرس حاسبني أنَّه<br />

فَقَدَ‏ عقله!‏ لكنَّه مل يفقد عقله.‏ إذ كان هناك يشءٌ‏ ما يف ما قاله يسوع<br />

جعل األمر جليًّا لبطرس،‏ وحان الوقت ليختربه.‏ كان يسوع يعلم أيضً‏ ا ما<br />

يجول يف خاطر بطرس،‏ فدعاه مُجيبًا:‏ ‏‘‘تعال!’’.‏ ثمَّ،‏ خطوة تلو األخرى،‏<br />

نزل بطرس من القارب ووقف عىل املاء ومىش.‏ ال يذكر اإلنجيل مقدارَ‏<br />

ما مشاه بطرس،‏ إالَّ‏ أنَّه قبل أن يصلَ‏ إىل يسوع الحظَ‏ الرياح التي تدفعه<br />

وأحسَّ‏ باملياه تالمس رجليه.‏ ويف اللحظة التي أشاح بنظره عن املسيح<br />

ارتعبَ‏ وبدأ يغرق،‏ فرصخ مناديًا املسيح ليُنقذه.‏ يقولُ‏ اإلنجيل إنَّه و‘‘يف<br />

الحال’’‏ مدَّ‏ يسوع يده وأمسكه ورفعَه إىل القارب.‏ مل يكن يسوع محتاجًا<br />

إىل إسكات الريح هذه املرَّة،‏ فلامَّ‏ دخال القارب سكنت الريح يف الحال.‏<br />

وبحسب ما جاء يف متَّى،‏ تىل ذلك أنَّ‏ ‏‘‘الذينَ‏ يف السَّ‏ فينَة جاءوا<br />

وسَ‏ جَدوا لهُ‏ قائلنيَ:‏ ‏"بالحَقيقَةِ‏ أنتَ‏ ابنُ‏ الله!"’’.‏ 7<br />

لكن ماذا عَنوا مبناداتهم إيَّاه ‏‘‘ابن الله’’؟ هل قصدوا أن يقولوا إنَّه<br />

ملكُ‏ إرسائيلَ‏ الرشعيُّ‏ ؟ هل كانوا يلقِّبونه بلقبٍ‏ مليكٍّ‏ حملَه العرشات من<br />

امللوك السابقني؟ ال ميُ‏ كن!‏ فالتالميذ شاهدوه للتوِّ‏ مييش عىل املاء،‏ ويأيت<br />

بأحدهم ليقومَ‏ باملِثل،‏ ويهدِّئ الرياح دون كلمة.‏ عُدْ‏ بالذَّاكرة أيضً‏ ا إىل ما<br />

قاله املسيح وحفَّز بطرس عىل النزول من القارب من بداية األمر.‏ ما الذي<br />

)7 متَّى 33-26 :14


العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏<br />

سمعه يف كالم املسيح حينام قال:‏ ‏‘‘تشَ‏ جَّعوا!‏ أنا هو’’،‏ ودفعَه للنُّزول من<br />

القارب بدلَ‏ أن يقول:‏ ‏‘‘حسنًا،‏ ميكنُنا التوقُّف عن القلق اآلن.‏ إنَّه يسوع’’؟<br />

ملاذا مأله اإلميانُ‏ فجأة بأنَّ‏ يسوع كان مسيطرًا عىل الوضع متامًا؟<br />

تكمنُ‏ اإلجابة يف كلمتي ‏‘‘أنا هو’’...رغم أنَّنا لن نجد فيهام املعنى<br />

الذي قصده يسوع إنْ‏ نظَرْنا إليهام دون النظر إىل الخلفيَّة التاريخيَّة<br />

للشَّ‏ عب اليهوديّ‏ . كانت هذه الكلمة هي ما منحَ‏ بطرس ثقةً‏ عالية<br />

بيسوع ملَّا سمعَها؛ إذ إنَّ‏ بطرس مل يسمَعْ‏ سيِّده يقول فقط:‏ ‏‘‘أيُّها رجال!‏<br />

إنَّه أنا يسوع’’،‏ بل أطلق يسوع عىل نفسه االسم القديم والشهري إلله<br />

إرسائيل القدير.‏<br />

يعود بنا هذا مجدَّدًا إىل وقتِ‏ فداء بني إرسائيل من مرص.‏ أحد<br />

الجوانب الطريفة للقصَّ‏ ة هو جدلُ‏ موىس مع الله حول عدم أهليَّته<br />

للقيام باملهمَّة التي أوكِلَت إليه.‏ طرحَ‏ موىس عددًا من األعذار:‏ لستُ‏ مهامًّ‏<br />

كفاية،‏ لن يصدِّقونني،‏ لستُ‏ خطيبًا مفوَّهًا.‏ ويف كلِّ‏ مرَّة،‏ كان الله يُجيبه<br />

ويُبطل أعذاره.‏ إالَّ‏ أنَّ‏ أحد األسئلة التي رفعها موىس كانت عامَّ‏ يجيبُ‏<br />

الشعبَ‏ حينام يسألونه عن اسم إلههم الذي أرسل موىس إليهم.‏ فكشفَ‏<br />

جوابُ‏ الله عن ذاته بعمقٍ‏ جيلّ:‏ ‏‘‘فقالَ‏ الله لِموىس:‏ ‏"أنا هوَ‏ الذي هوَ.‏<br />

هكذا تُجيبُ‏ بَني إِرسائيلَ‏ : هوَ‏ الذي هوَ‏ أرسلَني إليكُم"’’.‏ 8 وهكذا أفصحَ‏<br />

الله عن نفسه بأنَّه إله الكون املتسامي واملطلَق،‏ أصلُ‏ كلِّ‏ ما هو موجود،‏<br />

وصانع الوجود،‏ والخالق وسيِّد العاملني،‏ الكائن والذي كان والذي يأيت؛<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’.‏<br />

8( خروج 14 3: ‏)الرتجمة العربيَّة املشرتكة للكتاب املقدَّس(.‏<br />

55


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

هذا كان ما سمعه بطرس وحازَ‏ ثقته.‏ كان يسوع ينسبُ‏ إىل نفسه<br />

اسمَ‏ الله،‏ وكان يفعل هذا بينام كان مييش عىل وجه البحر.‏ كان البحر<br />

أقوى الخليقة شدَّةً‏ وإفزاعًا،‏ وكان الرمزَ‏ القديمَ‏ للفَوىض والرشَّ‏ ّ، واملوطنَ‏<br />

الخرايفَّ‏ لآللهة املُعادِية.‏ وها يسوع يُخضعُه ويغلبُه ويحكمُه،‏ ويدوسُ‏ ه<br />

تحت قدمَيه حرفيًّا.‏ يقول أحدُ‏ األناشيد الكتابيَّة القدمية:‏ ‏‘‘ضَ‏ جيجُ‏ املحيطِ‏<br />

عالٍ‏ جِدًّا.‏ وَأمواجُ‏ البَحرِ‏ املتالطِ‏ مةُ‏ قَويَّةٌ‏ جِدًّا!‏ وَلَكِنَّ‏ اللهَ‏ أعىلَ‏ وَأعْظَمُ!’’.‏ 9<br />

أترى املقصود؟ حينام دعا التالميذ يسوع ‏‘‘ابن الله’’،‏ كانوا يُعلِنون<br />

أكرث من اعرتافٍ‏ بكَونه مجرَّد ملك.‏ كانوا يعرتفون أنَّه الله-‏ الخالق<br />

والعظيم ‏‘‘أنا هو’’.‏<br />

الرجل يدَّعي األلوهة<br />

56<br />

يدَّعي بعض األشخاص أحيانًا أنَّ‏ فكرةَ‏ كَونِ‏ يسوع هو الله هي مجرَّد<br />

اختِالقِ‏ مخيِّلة التالميذ،‏ وأنَّ‏ يسوع مل ينسب هذا إىل نفسه،‏ بل إنَّهم<br />

اختَلَقوا هذه القصَّ‏ ة بعد موت املسيح،‏ أو أنَّهم يف أفضل الحاالت أساءوا<br />

تفسريَ‏ ذكرياتهم حول جميع األمور الحاصلة.‏ إالَّ‏ أنَّك ال تحتاج حتَّى ألن<br />

تقرأ اإلنجيل بحذرٍ‏ شديد لتالحظَ‏ ادِّعاءَ‏ يسوع أنَّه الله مرَّة تلو األُخرى،‏ كام<br />

حاول أحيانًا أن يكونَ‏ أوضح ما ميكن.‏<br />

فمثالً‏ ، حدث مرَّةً‏ أنْ‏ قال يسوع:‏ ‏‘‘أنا وَاآلبُ‏ واحدٌ’’.‏ ومرَّةً‏ أُخرى<br />

سأله فيها فيلبُّس بحامسٍ‏ أغفله عامَّ‏ كان يسوعُ‏ يقصد أن يقولَه:‏ ‏‘‘يا<br />

ربّ‏ ، أرِنا اآلبَ‏ ، وهَذا يَكفِينا’’،‏ فأجابه يسوع:‏ ‏‘‘أمضَ‏ يْتُ‏ مَعكُمْ‏ كُلَّ‏ هَذه<br />

املدَّة الطَّويلَة،‏ وما زِلتَ‏ ال تَعرِفُنِي يا فيلِبُّسُ‏ ؟ مَن رَآنِ‏ فَقَد رَأى اآلبَ‏<br />

)9 مزمور .4 :93


أيضً‏ ا،‏ فَكَيفَ‏ تَقولُ‏ : ‏"أرِنا اآلبَ‏ ‏"؟’’.‏ كانت هناك أيضً‏ ا تلك الحادثة التي<br />

ردَّ‏ فيها املسيح عىل قادة اليهود يف نهاية محاكَمَتِه قائالً‏ : ‏‘‘منَ‏ اليومِ‏<br />

فَصاعِدًا،‏ سَ‏ رتَ‏ ‏َوْنَ‏ ابْنَ‏ اإلنسانِ‏ جالِسً‏ ا عن ميَ‏ ‏ِنيِ‏ عَرْشِ‏ اللهِ،‏ وَآتِيًا عىل<br />

سُ‏ حُبِ‏ السَّ‏ امء’’.‏ أدركَ‏ رئيسُ‏ الكهنة حاالً‏ ما كان يدَّعيه املسيح؛ وهذا<br />

ما جعله ميُ‏ زِّق ثوبَه ويتَّهم يسوع بالتَّجديف؛ فالرَّجل الذي أمامه كان<br />

يدَّعي أنَّه الله.‏ 10<br />

كام ادَّعى يسوع يف إحدى املرَّات ادِّعاءً‏ تجاوزَ‏ حدَّ‏ تصوِّر القادة،‏<br />

حتَّى إنَّهم التَقَطوا حجارةً‏ لريجموه.‏ ويذكر اإلنجيل أنَّ‏ املوقف كان<br />

بالغَ‏ الخطورة حتَّى إنَّ‏ املسيح توارى عن األنظار وغادر.‏ كان الجدلُ‏<br />

قد بدأ بتَطاوُل الفَرِّيسيِّني عىل يسوع وشَ‏ تْمِه قائلني:‏ ‏‘‘ألَسْ‏ نا مُحقِّنيَ‏ يف<br />

قَولِنا إنَّكَ‏ سامريٌّ‏ وَفِيْكَ‏ رُوحٌ‏ رشِّير؟’’.‏ كانت هذه إهانةٌ‏ دنيئة؛ ليس<br />

أنَّهم ادَّعوا فقط بأنَّ‏ فيه روحًا رشِّيرًا،‏ بل كأنَّهم اتَّهموه بأنَّه من مدينة<br />

معروفةٍ‏ برشِّها املقيت.‏ عمومًا،‏ كان ردُّ‏ املسيح:‏ ‏‘‘لَيسَ‏ يفَّ‏ روحٌ‏ رشِّير،‏ بل<br />

أنا أُمجِّدُ‏ أيب وأنتُم تُهِينُونَني!...‏ أقُولُ‏ الحَقَّ‏ لَكُمْ:‏ إنْ‏ أطاعَ‏ أحَدٌ‏ تَعليمي<br />

فلن ميَ‏ وتَ‏ أبَدًا’’.‏ روَّع كالمه هذا الفَرِّيسيِّني فاتَّهموه بالتعجرُف قائلني:‏<br />

‏‘‘اآلنَ‏ تَأكَّدنا أنَّ‏ فِيكَ‏ روحًا رشِ‏ ‏ِّيرًا!‏ فَحتَّى إبراهِيمُ‏ واألنبِياءُ‏ كلُّهم ماتوا،‏<br />

وَأنتَ‏ تَقُولَ‏ : ‏"إنْ‏ أطاعَ‏ أحدٌ‏ تَعلِيْمِي فَلَن ميَ‏ وتَ‏ أبَدًا".‏ فَهَلْ‏ تَزعُمُ‏ أنَّكَ‏<br />

أعظَمُ‏ من أبِينا إبراهِيمَ؟ فَقَد مات هو،‏ وماتَ‏ األنبياءُ‏ أيضً‏ ا.‏ فَمَنْ‏<br />

تَحسِ‏ بُ‏ نَفسَ‏ كَ‏ ؟’’.‏ 11<br />

أمَّا يسوع فأجاب:‏ ‏‘‘أبوكُمْ‏ إبراهيمُ‏ ابتَهَجَ‏ مُتشَ‏ وِّقًا ألن يَرى يَومي،‏ وقد رَآهُ‏<br />

57<br />

)10 يوحنَّا ‎30‎؛ :10 ‎9-8‎؛ :14 متَّى .64 :26<br />

)11 يوحنَّا .53-48 :8<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

وفَرحَ‏ ’’. أو بكلامتٍ‏ أُخرى،‏ علِمَ‏ إبراهيم بوَعد الله بإرسال مخلِّص،‏ لذا ترقَّب<br />

هذا بفَرحٍ.‏ أغاظَ‏ هذا الكالمُ‏ أيضً‏ ا القادةَ‏ وأربَكَهم.‏ كان لهم ادِّعاء املسيح<br />

مبعرفة إبراهيمَ‏ إيَّاه،‏ بل أيضً‏ ا معرفة املسيح إلحساس إبراهيم بالفَرَح،‏ أمرًا<br />

مُبالغًا فيه،‏ فقالوا:‏ ‏‘‘لَم تَبلُغِ‏ الخَمسِ‏ نيَ‏ بَعْدُ،‏ وقَد رَأيتَ‏ إبراهِيم؟’’.‏<br />

أمَّا إجابة املسيح لسؤالهم فقد هزَّتهم:‏ ‏‘‘أقولُ‏ الحقَّ‏ لَكُم:‏ قَبلَ‏ أن<br />

يَكونَ‏ إبراهيمُ،‏ أنا كائنٌ‏ ’’. 13،12<br />

إليك هذا االسمَ‏ مجدَّدًا،‏ وهذه املرَّةُ‏ استَعمَله يسوع متعمِّدًا<br />

ملواجهتهم.‏ كيف نعلمُ‏ هذا؟ السبب هو إنْ‏ كان املسيح يقصدُ‏ إيصالَ‏<br />

مجرَّد فكرة وجوده قبل إبراهيم،‏ لكان ما قاله توظيفًا خاطِ‏ ئًا لقواعد<br />

اللغة وكان ينبغي أن يستعملَ‏ الفعل بهذه الطريقة:‏ ‏‘‘قبل أن يكونَ‏<br />

إبراهيم،‏ أنا كنتُ‏ ’’. لكنَّه حينام قال ‏‘‘أنا كائنٌ‏ ’’ ‏)أو ‏‘‘أنا هو’’(‏ كان ينسبُ‏<br />

إىل نفسه مرَّةً‏ أُخرى وبكلِّ‏ وضوحٍ‏ االسمَ‏ الفريدَ‏ والخاصَّ‏ بالله.‏ وهذا ما<br />

دفعهم ليَتَناوَلوا حجارةً‏ لريجموه.‏ فإنْ‏ مل يكنْ‏ حقًّا الله-‏ وهم مل يعتقدوا<br />

ذلك-‏ لكانَ‏ جدَّفَ‏ بأسوأ أنواع التجديف.‏<br />

وجهً‏ ا لوجه مع الثالوث<br />

58<br />

لكنَّه دون شكٍّ‏ مل يُجدِّف.‏ بل كان مُحقًّا؛ فقد أثبتَ‏ مِرارًا وتَكرارًا ادِّعاءه<br />

األلوهيَّة.‏ فام إنْ‏ تفهمُ‏ هذا ستبدأ يف مالحظة جوانبَ‏ جديدةٍ‏ ألهمِّيَّة<br />

إرصار املسيح عىل كَونه ابن الله.‏ مل يكن هذا مجرَّد لقبٍ‏ مليكٍّ؛ بل كان<br />

زعامً‏ من يسوع بالتَّساوي مع الله باملكانة والشخصيَّة واإلجالل.‏ وهذا<br />

12( أو برتجمة أُخرى للنصِّ‏ األصيلّ‏ : ‏‘‘أقولُ‏ الحقَّ‏ لَكُمْ:‏ قَبلَ‏ أنْ‏ يَكونَ‏ إبراهيمُ،‏ أنا هُوَ’’‏ ‏)املرتجم(.‏<br />

)13 يوحنَّا .58-56 :8


ما يوضِ‏ حه يوحنَّا قائالً‏ : ‏‘‘فازدادَ‏ اليَهودُ‏ إرصارًا عَىلَ‏ قَتلِه...ألنَّه قالَ‏ إنَّ‏<br />

اللهَ‏ أبوه،‏ مُساوِيًا نَفسَ‏ ه بالله’’.‏ 14<br />

ويبقى املزيد من املعنى يف هذه العبارة؛ إذ كان يسوع فيها ليس<br />

فقط يُلقَّبُ‏ بلقبٍ‏ مليكٍّ‏ أو يُخربُ‏ بشأن مساواته مع الله،‏ بل أيضً‏ ا يَصِ‏ فُ‏<br />

فيها أيضً‏ ا عالقةً‏ فريدةً‏ وحرصيَّة بينه وبني الله اآلب.‏ لذا قال حينًا:‏ ‏‘‘فال<br />

أحَدَ‏ يَعرِفُ‏ االبْنَ‏ إالَّ‏ اآلبُ‏ ، وال أحَدَ‏ يَعرِفُ‏ اآلبَ‏ إالَّ‏ االبنُ‏ وكُلُّ‏ مَن يَشاءُ‏<br />

االبنُ‏ أنْ‏ يَكشِ‏ فَ‏ لَه’’.‏ 15 وأوضح حينًا آخر قائالً‏ :<br />

وَمَهام عَملَ‏ اآلبُ‏ ، فإنَّ‏ االبنَ‏ يَعْمَلُه أيضً‏ ا.‏ اآلبُ‏ يُحبُّ‏ االبنَ‏ ،<br />

وَيُرِيه كلَّ‏ يشَ‏ ءٍ‏ يَعْمَلُه...ألنَّه مِثلَام يُقيمُ‏ اآلبُ‏ األمواتَ‏<br />

وَيُحيِيهِم،‏ فَإنَّ‏ االبْنَ‏ أيضً‏ ا يُحيِي مَن يَشاءُ.‏ اآلبُ‏ ال يُحاكِمُ‏<br />

أحَدًا،‏ لَكنَّهُ‏ سَ‏ لَّمَ‏ كلَّ‏ القَضاءِ‏ لِالبنِ‏ ، وذَلكَ‏ لِيكَ‏ ْ يُكْرِمَ‏ كلُّ‏<br />

الناسِ‏ االبْنَ‏ ، كَام يُكرِمونَ‏ اآلبَ‏ . فالذي ال يُكْرِمُ‏ االبن،‏ ال<br />

يُكرِمُ‏ بِذلكَ‏ اآلبَ‏ الذي أرسَ‏ لَه أيضً‏ ا’’.‏ 16<br />

أرأيتَ‏ هذا؟ ادَّعى يسوع ابن الله بكَونه الله نفسه،‏ وأيضً‏ ا بكَونه يف<br />

عالقةٍ‏ فريدةٍ‏ وحرصيَّةٍ‏ ومتناغمةٍ‏ كلِّيًّا بالله اآلب.‏<br />

كيف ميكن هذا؟<br />

كيف ميكن أن يكون املسيح الله ويكونَ‏ يف الوقت ذاته يف عالقة<br />

بالله اآلب؟ يف هذه املرحلة نأيت وجهًا إىل وجهٍ‏ مع عقيدة الثالوث<br />

59<br />

)14 يوحنَّا .18 :5<br />

)15 متَّى .27 :11<br />

)16 يوحنَّا .23-19 :5<br />

العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

60<br />

املسيحيَّة Trinity) (The والتي هي يف اللغة اإلنكليزيَّة دمجٌ‏ رصيفٌّ‏ للكلمة<br />

.(Tri-Unity) 17 رمبَّ‏ ا سبقَ‏ لك أن سمعْتَ‏ بكلمة الثالوث،‏ أو رمبَّ‏ ا سمعتَ‏<br />

املسيحيِّني يتحدَّثون بشأن الله اآلب والله االبن والله الروح القدس،‏<br />

وبأنَّهم مُتَاميِزون بعضهم عن بعض-‏ ثالثة أقانيم 18 مختلفة-‏ لكنَّهم<br />

يف الوقت ذاته اإلله الواحد.‏ ليسوا ثالثة آلهة!‏ بتاتًا!‏ فالكتاب املقدَّس<br />

واضحٌ‏ من الصفحة األوىل بشأن وجودِ‏ إلهٍ‏ واحد،‏ وأنَّ‏ هذا اإلله يف ثالثة<br />

أقانيمَ‏ مُتَاميِزة.‏<br />

ما أرجوه لك هو أن تجدَ‏ أنَّ‏ املسيحيِّني مل يختَلِقوا فكرةَ‏ الثالوث،‏<br />

بل عرَّفوها ووَصَ‏ فوها وعلَّموها ودافَعوا عنها؛ ألنَّهم وَجَدوها يف الكتاب<br />

املقدَّس.‏ وأنَّهم سمِعوها يف كالم املسيح عن نفسه،‏ وعن عالقته باآلب،‏<br />

وعن الروح القدس.‏ وسأستعرض هنا بإيجازٍ‏ خالصةَ‏ ما سمعوه من املسيح:‏<br />

‎1.1‎سمعوا املسيح يشدِّد عىل وجودِ‏ إلهٍ‏ واحد.‏ 19<br />

‎2.2‎سمعوا املسيح يخرب بأنَّه هو الله،‏ وأنَّ‏ اآلب هو الله،‏<br />

وأنَّ‏ الروح القُدس هو الله.‏ 20<br />

‎3.3‎ونهايةً،‏ سمعوا املسيح يوضِ‏ حُ‏ أنَّه واآلب والروح القدس<br />

17( الجزء األوَّل )Tri( هو بادئة تعني ‏‘‘مؤلَّفٌ‏ من ثالثة’’،‏ والجزء الثان )Unity( يعني ‏‘‘وحدة أو اتِّحاد’’.‏<br />

لذا يصري معنى الكلمة ‏‘‘واحدٌ‏ من ثالثة’’‏ ‏)املرتجم(.‏<br />

18( أَقانيم:‏ مُفردها أُقنوم.‏ هي كلمة رسيانيَّةُ‏ األصل معناها ‏‘‘شَ‏ خص’’،‏ تُستَعار يف اللغة العربيَّة حينام<br />

نتحدَّث بعِلم الالهوت لنُشري إىل أيٍّ‏ من اآلب أو االبن أو الروح القدس ملجرَّد أنَّ‏ كلمة ‏‘‘شَ‏ خص’’‏ يف العربيَّة<br />

شائعةُ‏ االستعامل عن البرش،‏ أمَّا حينام نتحدَّث بشأن الله تعاىل وبِكَونه إلهٌ‏ واحد موجود يف ثالثة أقانيم،‏ فإنَّنا<br />

نُفضِّ‏ ل استعاملَ‏ هذه الكلمة حتَّى ال نقعَ‏ يف خطأ مُشابَهة أمورِ‏ الخالق بالبرش ‏)املرتجم(.‏<br />

)19 مثالً‏ : مرقُس .29 :12<br />

)20 مثالً‏ : يوحنَّا ‎18‎؛ :5 ‎58‎؛ :8 لوقا .10 :12


العظيم ‏‘‘أنا هو’’...‏<br />

ليسوا األقنوم ‏)أو الشخص(‏ ذاته،‏ بل هم مُتَاميِزون<br />

بعضهم عن بعض،‏ ويف عالقة فريدة وحرصيَّة بعضهم<br />

ببعض.‏ 21<br />

قد تقرأ هذه النقاطَ‏ الثالثَ‏ وتقول:‏ ‏‘‘ال ميكنني استيعاب إمكانيَّة<br />

أن تكونَ‏ هذه الثالثة صحيحة يف الوقت ذاته ويف الطريقة ذاتها’’.‏<br />

فألكُنْ‏ صادقًا معك وأقول إنَّه ال ميكنني ذلك أيضً‏ ا،‏ وال ميكن ذلك أليِّ‏<br />

مسيحيٍّ‏ آخر.‏ لكنَّ‏ فَهمي أو نُقصانه ليس أساسَ‏ املوضوع،‏ بل نؤمن،‏ نحن<br />

املسيحيِّني،‏ باملسيح يسوع الذي علَّم هذه النقاط الثالثة،‏ لذا أومن بها-‏<br />

22<br />

أومن بجميعها،‏ حتَّى إنْ‏ مل تتناغَمْ‏ متامًا ونهائيًّا يف عقيل يف الوقت نفسه.‏<br />

خالصة املوضوع هي عدم وجود أيَّة تَناقُضاتٍ‏ منطقيَّة بني هذه<br />

النقاط الثالث،‏ فضالً‏ عن إدرايك محدوديَّة عقيل؛ فهناك الكثري من األمور يف<br />

هذه الحياة ال ميكنني استيعابها كلِّيًّا.‏ لذا ال يصعب عيلَّ‏ تصوُّر وجود عددٍ‏<br />

غري محدودٍ‏ من األمور التي يعلمُها الخالق غري املحدود،‏ لكنِّي ال أعلَمُها أنا.‏<br />

ما أعلَمُه بالتأكيد هو أنَّ‏ املسيح علَّم عن إله واحد،‏ وأنَّه هو واآلب والروح<br />

القدس هم اإلله واحد،‏ وأنَّه واآلب والروح القُدس ليسوا األقنوم ذاته،‏ بل<br />

يف عالقة متبادلة بعضهم ببعض.‏ لذا أدعو هذه الحقيقة املعقَّدة،‏ كام فعل<br />

جميع املسيحيِّني عىل مدى التاريخ،‏ بعقيدة الثالوث أو الوَحدة الجامِعة.‏<br />

21( الحِ‏ ظِ‏ الحديثَ‏ بشأن العالقة مثالً‏ يف يوحنَّا 17-16. 14:<br />

22( ال يقصد الكاتب هنا أنَّ‏ ما يؤمن به املسيحيُّون عن الله ال ميُ‏ كن فهمه أو أنَّه مجرَّد إميان ساذج أو<br />

أعمى؛ إذ أنَّه سارَ‏ يف الصفحات السابقة ليوضحَ‏ عقيدةَ‏ الثالوث واإلميان املسيحيِّ‏ بالله.‏ غري أنَّه يحاول إيصال<br />

فكرة عدم قدرتنا عىل استيعاب أمور الله كلِّيًّا وبكلِّ‏ تفاصيلها وجوانبها،‏ وإالَّ‏ ملا كان الله أعظمَ‏ منَّا ‏)حاشا<br />

لله!(؛ فالحظ ما يقولُه الحقًا ‏)املرتجم(.‏<br />

61


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

الطريق الوحيد<br />

إليك الهدفَ‏ من كلِّ‏ هذا:‏ حينام تبدأ تفهم أنَّ‏ يسوع هو الله بالحقيقة؛<br />

وأنَّه يف عالقةٍ‏ فريدةٍ‏ وحرصيَّةٍ‏ بالله اآلب،‏ ستبدأ أيضً‏ ا تفهَمُ‏ أنَّك إنْ‏ أردْتَ‏<br />

أن تعرفَ‏ اإلله الذي خلقك فأنت تحتاجُ‏ ألنْ‏ تعرفَ‏ يسوع املسيح.‏ ليس<br />

من طريقٍ‏ آخر.‏<br />

وما يجعلُها بِشارةً‏ سارَّة هي أنَّ‏ يسوع ليس فقط العظيم ‏‘‘أنا هو’’،‏<br />

بل هو أيضً‏ ا واحدٌ‏ منَّا إىل األبد.‏<br />

62


الفصل 5<br />

واحدٌ‏ منَّا<br />

أنكَرَ‏ أشخاصٌ‏ يف بداية تاريخ املسيحيَّة أنَّ‏ يسوعَ‏ إنسانٌ‏ حقًّا.‏ وادَّعوا أنَّ‏<br />

دالئلَ‏ ألوهيَّته كانت أقوى من أنْ‏ يكونَ‏ إنسانًا أيضً‏ ا،‏ كام ادَّعوا أنَّه الله<br />

رمبَّ‏ ا اتَّخذ بعضَ‏ الجِلدِ‏ ، أو أنَّه كان يف حالة متوسِّ‏ طة بني األلوهة والبرشيَّة،‏<br />

إالَّ‏ أنَّهم مل يعرتفوا أنَّه حقًّا كان واحدًا منَّا.‏ عُرف هؤالء الذين أنكروا<br />

الناسوت الكامل ليسوع الحقًا باسم الدكوتيِّني ‏)أو املشبِّهني(.‏ اشتُقَّ‏ هذا<br />

االسم من الكلمة اليونانيَّة األصل دويك ،(Doke) وتعني ‏‘‘يُشبه أو يبدو’’،‏<br />

وكان هذا وَصْ‏ فًا مناسبًا الدِّعائهم بشأن املسيح،‏ إذ يرَون أنَّ‏ املسيح مل يكُنْ‏<br />

إنسانًا حقًّا،‏ بل شابَهَ‏ البرشَ‏ أو بدا عليه ذلك.‏<br />

وفَورًا أعلَنَ‏ املسيحيُّون بأن العقيدة الدوكيتيَّة خاطئة؛ إذ إنَّ‏<br />

املسيحيِّني قرأوا الكتاب املقدَّس ووجدوا أنَّ‏ يسوع مل يبدُ‏ إنسانًا،‏ وكأنَّه<br />

مجرَّد خيالٍ‏ أو شبح ما،‏ أو كأنَّ‏ الله اتَّخذ منظرَ‏ اإلنسان ال حقيقته.‏ كالَّ‏ !<br />

فلو صدَّقنا الكتابَ‏ املقدَّس،‏ لوجدنا أنَّ‏ يسوعَ‏ كان بالحقِّ‏ إنسانًا بالتَّامم.‏<br />

ومع هذا،‏ مل يُنكِرِ‏ املسيحيُّون ألوهيَّته قَطّ‏ ، بل كانوا مُقتَنِعني أنَّ‏ يسوعَ‏<br />

هو ابن الله وخالق الكون والعظيم ‏‘‘أنا هو’’.‏ لكنَّهم كانوا مقتَنِعني كذلك<br />

أنَّ‏ العظيمَ‏ ‏‘‘أنا هو’’‏ صار واحدًا منَّا بإعجازٍ‏ عجيب.‏<br />

63


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

ليسَ‏ مجرَّد زائر<br />

شكَّلَتِ‏ الرواياتُ‏ الكتابيَّة عن حياة املسيح أساسً‏ ا متينًا ميتَلئُ‏ باألدلَّة عىل<br />

كَونِ‏ املسيح إنسانًا مثلنا متامًا؛ إذ يُخربُنا اإلنجيل بأنَّه جاعَ‏ وعَطِ‏ شَ‏ وتَعِبَ‏<br />

وشعرَ‏ بالنُّعاس أيضً‏ ا ‏)أتذكُرُ‏ قَيلولَتَه يف القارب؟(.‏ ومل يكن كام تصوَّر<br />

اليونانيُّون والرومان آلهتَهم الزائفة؛ كأنَّه أُولِيمبِيٌّ‏ اتَّخذَ‏ شكلَ‏ اإلنسان<br />

دون أن يكونَ‏ كذلك بالحقيقة،‏ أي مُتحاشيًا التحدِّيات،‏ أو حتَّى الضَّ‏ عفات<br />

التي تأيت مع الطبيعة البرشيَّة.‏ كالَّ‏ ! كان يسوع إنسانًا بالتَّامم،‏ وتعامَلَ‏ مع<br />

جميع هذه متامًا مثلنا.‏<br />

ويعني هذا أنَّه جاع حني مل يَأكُل كِفايةً.‏ وتعِبَ‏ حني مل ينَمْ‏ كفايةً.‏<br />

وحني غرز الجُنود الشَّ‏ وك يف فَروةِ‏ رأسه ودقُّوا املسامري يف مِعصميه،‏<br />

آمله ذلك.‏ وحينام تُوُيفِّ‏ صاحبُه،‏ حزِن وبىك-‏ مع أنَّه كان مُزمِعًا أن<br />

يُقيمَه من املوت بعد بضعِ‏ دقائقَ‏ ! كام خارت قواه أيضً‏ ا.‏ يُخربنا الكتاب<br />

املقدَّس عن اضطرار الرومان إىل تسخريِ‏ أحَدِ‏ املتفرِّجني ليحمَلَ‏ الصليبَ‏<br />

مع يسوع إىل موضع الصَّ‏ لب بعدما جَلَدوا يسوع.‏ هناك أيضً‏ ا أحَدُ‏<br />

أقوى الرباهني عىل اإلطالق:‏ موت يسوع.‏ مل يبدُ‏ عىل يسوع املوت،‏ ومل<br />

ميُت قليالً‏ أو تقريبًا،‏ لكنْ‏ مل تَنتهِ‏ القصَّ‏ ة مبوت املسيح،‏ إالَّ‏ أنَّه ال سبيل<br />

للمراوَغة:‏ لقد مات.‏ 1<br />

من الضوريِّ‏ أنْ‏ نفهَمَ‏ حقيقة برشيَّة يسوع،‏ إذ يعني هذا أنَّه مل يكنْ‏<br />

مجرَّد زائرٍ‏ إىل عاملنا.‏ مع أنَّ‏ فكرة كونه زائرًا تبدو مُبهجةً‏ بصورةٍ‏ ما،‏ أليس<br />

كذلك؟ أليس مُفرحًا أن يزورَنا أعظم مَن يف الوجود؟ لكنَّ‏ هذا مل يحصل.‏<br />

)1 متَّى ‎50‎؛ :27 ،24 :8 ،2 :4 يوحنَّا .33 :19 ،35 :11 ،2 :19<br />

64


واحد منَّا<br />

ما حصل حقًّا هو أروَعُ‏ من هذا مبقدارٍ‏ عظيم؛ الله الخالق،‏ أعظم مَن يف<br />

الوجود،‏ العظيم ‏‘‘أنا هو’’‏ صار إنسانًا.‏<br />

يسمِّي املسيحيُّون هذا األمرَ‏ التجسُّد.‏ وهو مفهومٌ‏ يعني اتِّخاذ الله،‏<br />

يف يسوع،‏ جسدًا برشيًّا.‏ وال بدَّ‏ من الحذر هنا؛ ألنَّنا قد نيسء فَهْمَ‏ املقصود<br />

بالظنِّ‏ أنَّ‏ برشيَّةَ‏ يسوع كانت مجرَّد مسألة جِلْدٍ‏ برشيّ‏ ، وأنَّ‏ الله ارتدى<br />

غطاءَ‏ إنسانٍ‏ كام نرتدي أنا وأنت مِعطفًا،‏ وأنَّ‏ هذا ما كانت عليه برشيَّة<br />

يسوع.‏ إنَّ‏ هذا يقرتب كثريًا من الفكر الدوكيتيِّ‏ ، أنَّ‏ يسوع كان فقط يبدو<br />

إنسانًا.‏ لكنْ‏ كيفام صِ‏ غنا تعريفَ‏ الطبيعة البرشيَّة،‏ ال بدَّ‏ أن نتَّفقَ‏ عىل<br />

كون جوهرها ال يقترص عىل الجلد البرشيّ‏ ؛ بل ما هو أعمَقُ‏ من هذا.‏<br />

والكتاب املقَّدس يُرصِّح بأنَّ‏ يسوع كان إنسانًا حتَّى الصميم.‏ وهذا ما دفع<br />

املسيحيِّني عىل مدى القرون لوَصْ‏ ف يسوع بأنَّه ‏‘‘إلهٌ‏ حقًّا وإنسانٌ‏ حقًّا’’.‏<br />

ليس يسوع نصف إله ونصف إنسان،‏ أو خليطًا من األلوهة والبرشيَّة،‏ أو<br />

شيئًا ما بني الله واإلنسان.‏<br />

هو الله.‏<br />

وهو إنسان.‏<br />

واعلَمِ‏ التايل أيضً‏ ا:‏ ليس هذا واقعًا مؤقَّتًا؛ فيسوع إنسانٌ‏ اآلن،‏ ولن<br />

يتوقَّف عن أن يكون إنسانًا إىل األبد.‏ كنتُ‏ أتناوَلُ‏ طعامَ‏ اإلفطار مع صديقٍ‏<br />

قبل بضع سنوات حينام باغَتَت ذهني هذه الحقيقة فجأة.‏ كنَّا حينها<br />

نخوضُ‏ نقاشً‏ ا عن إمكانيَّة وجود حياة يف الفضاء،‏ وما إذا ذكرَ‏ الكتاب<br />

املقدَّس شيئًا عن املوضوع،‏ وعن النتائج املرتتِّبة إذا فرَضْ‏ نا وجودَها...‏<br />

وهلمَّ‏ جرًّا.‏ فسألنا أنفسنا:‏ إذا كان هناك فضائيُّون،‏ وكانوا خُطاةً‏ مثلنا،‏ هل<br />

سيُخلِّصهم الله؟ وكيف سيقوم بذلك؟<br />

65


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

كان ردِّي املبارش:‏ ‏‘‘بالتأكيد سيفعل!‏ سيتجسَّ‏ د يسوع كمرِّيخيٍّ‏ وميوت<br />

ألجل خطاياهم أيضً‏ ا،‏ وهكذا!‏ ومن ثمَّ‏ يقرِّر ما سيفعله مع سكَّان املجرَّة<br />

التالية’’.‏ شعرتُ‏ وكأنَّ‏ جوايب كان منطقيًّا،‏ لكن هل اكتشفت املشكلة فيه؟<br />

طأطأ صديقي رأسه وقال:‏ ‏‘‘ال،‏ يا غريغ!‏ يسوعُ‏ إنسانٌ‏ . دامئًا وإىل األبد.‏ لن<br />

يكونَ‏ شيئًا آخر سوى إنسانٍ‏ ’’. مل يسبقْ‏ يل أن فكَّرتُ‏ يف األمر هكذا.‏<br />

كلمةٌ‏ واحدة:‏ أحبَّنا<br />

كان هذا حتامً‏ نِقاش غري مألوف،‏ غري أنَّ‏ اإلدراكَ‏ الذي نتج عنه أدهشَ‏ ني:‏<br />

يسوعُ‏ إنسانٌ‏ ، وسيبقى هكذا إىل األبد.‏ الذي يجلسُ‏ يف هذه اللحظة عىل<br />

عرش الكون هو إنسانٌ‏ ، إىل األبد،‏ دهرًا تلو دهر.‏ صار الله إنسانًا وسيبقى<br />

ذلك إىل األبد.‏ مل يرتَدِ‏ جِلدَ‏ إنسانٍ‏ كمِعطَف ليخلَعَه الحقًا حينام يعودُ‏ إىل<br />

سامئه.‏ بل صار إنسانًا-‏ قلبًا ونفسً‏ ا وفِكرًا وقوَّةً!‏<br />

تصوَّر معي للحظة من الزمن كم أحبَّ‏ ابنُ‏ الله الناسَ‏ ليُقرِّر أن<br />

يصريَ‏ إنسانًا إىل األبد.‏ هو األقنوم الثان من الثالوث املقدَّس،‏ أزيلٌّ،‏ وبعالقة<br />

مثاليَّة ومتناغمة وجميلة مع الله اآلب والله الروح القدس،‏ إالَّ‏ أنَّه قرَّر أن<br />

يصريَ‏ إنسانًا،‏ عاملًا أنَّه متى قام بذلك سيبقى كذلك إىل األبد.‏<br />

ليس من يشءٍ‏ دفعَ‏ ابنَ‏ الله ليقومَ‏ بهذا سوى أنَّه أحبَّنا بشَ‏ غفٍ‏ ، وهذا<br />

ما ميكن رؤيته يف كلِّ‏ تفاصيل حياته عىل األرض.‏<br />

يُخربِ‏ ‏ُنا كُتَّابُ‏ اإلنجيل مرَّةً‏ تلو األُخرى عن تحنُّن املسيح عىل جميع<br />

مَن حوله.‏ إذ يذكُر متَّى السببَ‏ وراء سَ‏ هَر املسيح طويالً‏ يف شفاء السُّ‏ قَامء<br />

من الجموع؛ إنَّه شفقته عليهم.‏ وحينام نَظَر جَمعًا من أربعة آالفِ‏ رَجُلٍ‏<br />

66


ونسائهم وأطفالهم مل يأكلوا جيِّدًا منذ أيَّام،‏ قال لتالميذه:‏ ‏‘‘إنَّني أُشفِقُ‏<br />

عىل هؤُالءِ‏ الناس،‏ فَهُمْ‏ مَعي منذُ‏ ثَالثَة أيَّامٍ‏ وال يشَ‏ ءَ‏ مَعهم لِيأكُلوا.‏ وَال<br />

أُريدُ‏ أنْ‏ أرصِفَهم جَوعَى،‏ لِئَالَّ‏ يُغْمى عَلَيهِم يف الطَّريق’’.‏ وحني رَسا بقاربٍ‏<br />

عىل الشاطئ واستقبله حشدٌ‏ من أُناسٍ‏ كانوا يتوقون إىل تعاليمه،‏ ‏‘‘تَحنَّنَ‏<br />

عَلَيهم ألنَّهم كانوا كَخِ‏ رافٍ‏ ال راعِيَ‏ لها.‏ فَابتَدأ يُعلِّمُهم أُمورًا كَثرية’’.‏ 2<br />

لقي يسوعُ‏ يومًا مَوكبَ‏ جنازةِ‏ شابٍّ‏ وحيدٍ‏ ألمٍّ‏ أرملةٍ‏ ليس لها مَن<br />

يُعيلُها،‏ وإليك ما حصل عندئذٍ‏ : ‏‘‘فلَامَّ‏ رآها الربُّ‏ تَحنَّنَ‏ عَلَيها وقالَ‏ لها:‏<br />

‏»ال تَبيكِ‏ «. وَاقرتَ‏ ‏َبَ‏ وَلَمَسَ‏ التابوتَ‏ ، فَتَوقَّفَ‏ حامِلوه.‏ ثمَّ‏ قالَ‏ يَسوعُ:‏ ‏»أيُّها<br />

الشابُّ‏ ، أنا أقولُ‏ لَكَ‏ ، انهَضْ‏ !«. فَجَلَسَ‏ امليِّتُ‏ مُعتَدالً‏ ، وَبدَأ يَتكَلَّم.‏ فرده<br />

يَسوعُ‏ إىل أُمِّه’’.‏ 3<br />

هناك أيضً‏ ا حنيَ‏ وَصَ‏ لَ‏ إىل منزل صاحبه لِعازَرَ‏ ورأى شقيقة املتوفَّ‏<br />

تبيك،‏ ‏‘‘فَلَامّ‏ رَآها يَسوعُ‏ تَبْيكِ‏ هِيَ‏ وَاليَهُودُ‏ الَّذِ‏ يْنَ‏ جاءُوا مَعَها،‏ تَأثَّرَ‏ يفِ‏ روحِ‏ هِ‏<br />

وَتَضايَقَ‏ ’’. حينئذٍ‏ سألهم يسوع:‏ ‏‘‘أينَ‏ دَفَنتُموه؟’’.‏ يُخربنا اإلنجيل أنَّهم<br />

أروه القرب،‏ ‏‘‘فَبَىكَ‏ يَسوعُ’’،‏ بىك هناك أمام قربِ‏ صاحبه.‏ مل يتوهَّم أيٌّ‏ من<br />

اليهود الحارضين حينها أنَّ‏ ما أبداه يسوع من مشاعر هي ليست فائضً‏ ا<br />

من األىس والحبِّ‏ ، لذا أومأوا برؤوسهم وقالوا:‏ ‏‘‘انظُروا كَمْ‏ كانَ‏ يُحِ‏ بُّه!’’.‏ 4<br />

أترى مَن هو يسوع؟ مل يكُنْ‏ رجالً‏ قاسيًا ماكرًا يجول قامِعًا ومطالبًا بامللك<br />

واالعرتاف باأللوهة.‏ كالَّ‏ ! بل كان رجُالً‏ ينبضُ‏ قلبُه باملحبَّة ملن حوله.‏ كان<br />

يستمتع بإمضاء الوقت مع منبوذي املجتمع،‏ وتَناوَلَ‏ الطعامَ‏ معهم وحضَ‏<br />

67<br />

2( متَّى ‎32‎؛ 15: مرقُس ‎34‎؛ 6: واقرأ أيضً‏ ا متَّى 1. 14: 34، 6:<br />

)3 لوقا .15-13 :7<br />

)4 يوحنَّا .36-33 :11<br />

واحد منَّا


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

مناسباتهم،‏ فبحسب قَوله:‏ ‏‘‘ال يَحتاجُ‏ األصِ‏ حَّاءُ‏ إىلَ‏ طَبيبٍ‏ ، بلِ‏ املَرىض.‏ أنا لَم<br />

آتِ‏ لِيكَ‏ أدعُوَ‏ الصَّ‏ الحني،‏ لَكنِّي جِئتُ‏ ألِ‏ دعُوَ‏ الخُطاةَ‏ إىل التَّوبة’’.‏ 5 دعا يسوع<br />

األطفال وضمَّهم إليه وباركهم،‏ كام وبَّخ تالميذه ملَّا صدُّوهم عنه ملَّا كان<br />

مشغوالً‏ جدًّا.‏ غري أنَّه حَضَ‏ ن تالميذَه أيضً‏ ا،‏ وكان ميُ‏ ازحهم،‏ ونادى الناسَ‏<br />

بأسامئهم بلُطفٍ‏ . شجَّع يسوع اآلخرين وسامحهم وقوَّاهم وطأمنَهُم وقوَّمهم.‏<br />

بكلمةٍ‏ واحدة،‏ أَحبَّ‏ يسوع الناس.‏<br />

أترى ذلك؟ حتَّى بينام صنعَ‏ العجائب-‏ ما ميُ‏ كن أن يصنعَه الله<br />

وحده-‏ صنعَها بلُطفٍ‏ وحنانٍ‏ ومحبَّة للبرش.‏ ما كان فقط يسوع إنسانًا؛<br />

بل أرانا أيضً‏ ا ما ابتغاه الله للبرشيَّة أن تكون،‏ منذ البداية.‏<br />

لماذا صار اهلل االبن إنسانًا؟<br />

ألنَّنا احتَجْ‏ نا ألن يفعلَ‏ ذلك<br />

إالَّ‏ أنَّنا نحتاج ألن نُدركَ‏ إىل جانب جميع ما سبق أنَّ‏ يسوع مل يأتِ‏ فقط<br />

لريُ‏ يَنا الطبيعة البرشيَّة األصليَّة التي ابتغاها الله.‏ بل صار يسوع إنسانًا ألنَّنا<br />

احتَجنا ألن يفعلَ‏ ذلك.‏ احتجنا مَن ميَ‏ ثُل أمام الله بديالً‏ منَّا.‏ هذا أساس<br />

ما جاء يسوع من أجله،‏ ليكونَ‏ ملِكًا مُحاربًا مُحِ‏ بًّا سيخلِّصُ‏ شعبَه العزيز.‏<br />

لذا فإنَّ‏ جُزءًا مامَّ‏ كان يعملُه يسوع حينام صارَ‏ إنسانًا هو مُامثلَتُنا<br />

ليصريَ‏ واحدًا منَّا ليكونَ‏ له أن ميُ‏ ثِّلنا.‏ وهذا ما جعل املسيح يرصُّ‏ أن يعمِّده<br />

يوحنَّا يف اليوم األوَّل من خدمته العلنيَّة.‏ اعرتضَ‏ يوحنَّا يف بداية األمر؛<br />

ألنَّه علمَ‏ أنَّ‏ معموديَّته كانت للتَّوبة-‏ أي أنَّها كانت للخطاة الذين اعرتفوا<br />

)5 لوقا .32-31 :5<br />

68


واحد منَّا<br />

بخطاياهم وأرادوا الرجوع عنها-‏ وعلمَ‏ أنَّ‏ يسوع هو ابن الله املنزه عن<br />

اإلثم،‏ لذا فهو ال يحتاجُ‏ إليها.‏ مل يوبِّخ يسوعُ‏ يوحنَّا عىل اعرتاضه؛ إذ عَلمَ‏<br />

مثلام علمَ‏ يوحنَّا أيضً‏ ا أنَّه ال يحتاجُ‏ إىل التَّوبة عن أيِّ‏ أمر.‏ لكنَّ‏ هذا مل يكن<br />

ما قصده مبعموديَّته،‏ إذ قال ليوحنَّا:‏ ‏‘‘اسْ‏ مَحْ‏ بِذلِكَ‏ اآلنَ‏ ، ألنَّه من الَّالئقِ‏ أنْ‏<br />

نُتمِّمَ‏ كلَّ‏ ما يَطلُبُه الله’’.‏ 6 وبكلامتٍ‏ أُخرى:‏ وكأنَّ‏ يسوع كان يقول:‏ ‏‘‘أنتَ‏<br />

مُحقٌّ‏ ، يا يوحنَّا.‏ لستُ‏ بحاجةٍ‏ إىل معموديَّة التوبة،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ لديَّ‏ غايةً‏ أُخرى<br />

منها.‏ أمَّا اآلن،‏ فمن الجيِّد واملناسب أن نقومَ‏ بهذا’’.‏ عُمِّدَ‏ املسيح ليس<br />

حاجةً‏ إىل التَّوبة من خطيَّةٍ‏ ما،‏ بل ليُامثِلَنا إىل التامم.‏ كان يالقينا حيثُ‏<br />

وُجِدنا،‏ ويُرسِّ‏ خ نفسَ‏ ه يف تربَتِنا.‏ كان يصنعُ‏ لنفسه مكانًا يف وَسْ‏ طِ‏ نا ويداه<br />

تُشابِك أيدي البرشيَّة اآلمثِ‏ ة واملكسورة يف الرسَّاء والضَّاء.‏<br />

أتذكر ما تىل هذا؟ جاءَ‏ صوتٌ‏ من السامء يعرتِف بيسوع أنَّه ابن الله<br />

األزيلُّ،‏ مع تنصيبه ابن الله املليكّ-‏ ملك إرسائيل.‏ ومع أنَّ‏ هناك املزيد مامَّ‏<br />

ميُ‏ كن فَهمُه من هذه الكلامت اآلتية من السامء،‏ فيكفي اآلن أن نفهمَ‏<br />

ما جعلَه من املناسب للمسيح أن يُعمَّد مع مجموعةٍ‏ من الخُطاة:‏ كان<br />

يتسلَّمُ‏ منصبَ‏ ممثِّلهُم ومَلِكهم،‏ وبَطَلهم أيضً‏ ا.‏<br />

بدايةُ‏ الصِّ‏ راع<br />

يُخربنا مُرقس بعد ذلك:‏ ‏‘‘واقتادَ‏ الرُّوحُ‏ يَسوعَ‏ إىل الربِّيَّة وَحدَه.‏ وَبَقِيَ‏ هناكَ‏<br />

أربَعنيَ‏ يَومًا يف مُواجَهَةِ‏ تَجارِبِ‏ الشَّ‏ يطان’’.‏ 7 كانت هذه الخطوة التالية<br />

األمثل بعدما متثَّل امللك يسوع دون رجعةٍ‏ بشعبه الخُطاة،‏ تقدَّم ليَخوضَ‏<br />

69<br />

)6 متَّى .15 :3<br />

)7 مرقس .13-12 :1


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

نِزالهم القديمَ‏ بالنيابة عنهم،‏ مُستأنفًا قضيَّتهم الخارسة لريبَحها من أجلهم.‏<br />

لذا ذهب إىل الربِّيَّة ملجابهة عدوِّ‏ شعبه،‏ مُبتَدئًا املعركة التي ستَستمرُّ‏ إىل<br />

نهاية الزمان بني يسوع امللك العظيم والشيطان املشتَيك البغيض.‏<br />

تنوِّه تفاصيل الحدث،‏ حتَّى البسيطة منها،‏ إىل أنَّ‏ املسيح امللك كان<br />

يخوض املعركة ذاتها التي سبق وخَرسِ‏ ها شعبه.‏ الحظْ‏ أنَّ‏ تجاربَ‏ إبليس<br />

كانت يف الربِّيَّة؛ والربيَّة كانت حيث تاه الشعبُ‏ بعدَ‏ الخروج من عبوديَّة<br />

مِرصْ‏ َ لزمانِ‏ جيلٍ‏ كامل،‏ وأخفقَ‏ إخفاقًا ذريعًا.‏ وأمَّا أيَّام الصيام األربعني<br />

التي صامَها املسيح فكانت متثِّلُ‏ السنوات األربعني التي تاهَ‏ فيها الشعبُ‏<br />

يف الربِّيَّة،‏ لذا خاضَ‏ املسيح ما توازى مع ذلك-‏ يومًا واحدًا مُقابل كلِّ‏ سنة.‏<br />

ما يحدُثُ‏ هنا ال ميُ‏ كن إغفاله.‏ مبناسبة تنصيب يسوع باللَّقب،‏ تقدَّم اآلن<br />

ليَخوضَ‏ معركةَ‏ شعبه.‏<br />

يخربنا متَّى أكرثَ‏ من اآلخرين بشأن تجرِبة إبليس ليسوع.‏ كانت إحدى<br />

أكرث لحظات حياة يسوع األرضيَّة إثارةً.‏ وبينام سدَّد الشيطان تجاربه<br />

الثالث عىل املسيح،‏ ارتفعت وترية املوقف عاليًا.‏ حتَّى مواقع التجارب<br />

تحيك لنا شيئًا:‏ األوىل عىل أرضيَّة الربِّيَّة،‏ والثانية عىل قمَّة الهيكل،‏ واألخرية<br />

أعىل جبلٍ‏ شاهق؛ وكأنَّ‏ ارتفاع مكان الرصاع كان يصاحبُ‏ ارتفاع وتريته.‏<br />

ال تبدو تجرِبة الشيطان األوىل شيئًا يُذكر.‏ إذ قال الشيطان فيها:‏ ‏‘‘إنْ‏<br />

كُنتَ‏ ابْنَ‏ الله،‏ فَقُلْ‏ لِهَذه الحِ‏ جارةِ‏ أنْ‏ تَصريَ‏ أرغِفةَ‏ خُبزٍ’’.‏ الحِ‏ ظْ‏ أنَّ‏ أكرث من<br />

شهرٍ‏ مىض عىل صيام يسوع-‏ لرمبَّ‏ ا كان صيامه انقطاعيًّا أو قد يكون تناوَلُ‏ ما<br />

يكفي إلبقائه عىل قيد الحياة-‏ غري أنَّه كان بالتأكيد جائعًا جدًّا.‏ هذا فضالً‏<br />

عن كونه سيصنع بعد مدَّةٍ‏ وجيزة من املعجزات ما هو أعظم وأعجب،‏ أمَّا<br />

70


واحد منَّا<br />

تحويل الحجر إىل خُبز فكان سهالً‏ . لكنْ‏ ما الذي كان سيجعل قيامه بذلك<br />

أمرًا غري صحيح؟ الجواب يكمُن يف ردِّه عىل الشيطان:‏ ‏‘‘يَقولُ‏ الكِتابُ‏ : ‏»ال<br />

يَعِيْشُ‏ اإلنسانُ‏ عَىلَ‏ الخُبزِ‏ وَحده«.‏ بَلْ‏ بِكُلِّ‏ كَلِمةٍ‏ تَخرُجُ‏ من فَمِ‏ الله’’.‏ مل يكُنِ‏<br />

الهدفُ‏ هو ما إذا كان يسوع سيصنع أمرًا اقرتحه إبليس،‏ بل إنْ‏ كان يسوع<br />

‏)كام فعل اليهود قبل ذلك(‏ سيطالب مبا يريحه ويُناسبه يف تلك اللحظة<br />

أمْ‏ سيُخضع نفسه إىل سبيل التواضع والتألُّم الذي وضعه الله اآلب أمامه.‏<br />

يف املكان الذي ارتكبَ‏ فيه الناس اإلثم مرَّة تلو األُخرى مبطالبتهم باإلشباع<br />

الفوريِّ‏ لرغباتهم،‏ وَثِق يسوع امللك بالله حافظه وراعيه.‏<br />

بعد تغلُّب يسوع عىل التجربة األوىل،‏ راح الشيطان يجرِّبه من قمَّة<br />

الهيكل يف أورشليم.‏ كان االرتفاع يُسبِّب الدَّوخة ال محالة.‏ ومُجدَّدًا قال<br />

شيطان:‏ ‏‘‘إنْ‏ كُنتَ‏ حقًّا ابْنَ‏ الله،‏ فارْمِ‏ بِنَفسِ‏ كَ‏ من هنا.‏ فَالكِتابُ‏ يَقُولُ‏ :<br />

‏»يُوصِ‏ الله مَالئِكَتَهُ‏ بِكَ‏ ". وَبأنَّهُم:‏ ‏"سَ‏ يَحْمِلونَكَ‏ عَىلَ‏ أياديهم،‏ لِئالَّ‏ تَرتَطِ‏ مَ‏<br />

قَدَمُكَ‏ بِحَجَر«’’.‏ كان ما قاله إبليسُ‏ يبدو معقوالً‏ مرَّةً‏ أُخرى،‏ بل هذه املرَّة<br />

كان يقتبسُ‏ الكتاب املقدَّس عىل مسمَع املسيح!‏ لكنْ‏ كام سبق وحصل،‏<br />

كان الهدفُ‏ من التجربة جَعْلَ‏ املسيح يطالب مبا يناسبه بدلَ‏ ما يُريض<br />

الله-‏ بأن يطالب ‏)كام فعل اليهود كثريًا(‏ مبا يُثْبتُ‏ عناية الله بطريقةٍ‏<br />

معيَّنة.‏ أفهمت املقصود؟ أرادَ‏ إبليس من املسيح متجيد نفسه بدلَ‏ أبيه<br />

السامويِّ‏ بإجبارِ‏ تدخُّل أبيه السامويِّ‏ بدلَ‏ تصديق كالم الله.‏ رفضَ‏ يسوع<br />

القيام بذلك،‏ وردَّ‏ عىل الشيطان قائالً‏ : ‏‘‘يَقولُ‏ الكِتابُ‏ أيضً‏ ا:‏ ‏»ال متَ‏ تَحِ‏ نِ‏ الربَّ‏<br />

إلهَك«’’.‏ وبكلامتٍ‏ أخرى،‏ يوصينا الكتابُ‏ أالَّ‏ نشُ‏ كَّ‏ يف الله بِطَلبِ‏ دليلٍ‏ عىل<br />

عنايته.‏ ثِق به وآمن بكالمه،‏ فإنَّه سيعتني بك كيفام شاء ووقتام شاء.‏<br />

كانت التجربة الثالثة األكرث بذاءةً‏ بني الثالث.‏ إذ استعرضَ‏ إبليسُ‏ عىل<br />

71


جبلٍ‏ شاهق ماملكَ‏ الدُّنيا وأمجادَها أمام املسيح.‏ وقدَّم عَرضَ‏ ه قائالً‏ : ‏‘‘سَ‏ أُعطيكَ‏<br />

هَذه كلَّها إنْ‏ سَ‏ جَدْتَ‏ يل’’.‏ يا له من عرضٍ‏ وقح وخبيث!‏ كان املخلوقُ‏ يسأل<br />

خالقَه بالرُّكوع وعبادته،‏ مقابل إعطائه جميع ما سبقَ‏ ووعدَ‏ اآلبُ‏ املسيحَ‏ بِه-‏<br />

إنَّ‏ ا دون خَوضِ‏ طريق اآلالم التي وضعَها اآلب أمامه.‏ كان اليهود قد واجهوا<br />

هذا االمتحانَ‏ عدَّةَ‏ مرَّاتٍ‏ - اإلغراء بجَمْع حُلفاء من الدول املجاورة القويَّة،‏<br />

والتآمُر والعصيان،‏ من أجل الحصول عىل األمان واملجد ألنفسهم من أيدي<br />

اآلخرين بدل الله.‏ أخفقَ‏ اليهود يف االمتحان مرَّة تلو األخرى،‏ أمَّا يسوع فلم<br />

يُخفِقْ‏ . فقد أنهى العِراك بالرَّد عىل املجرِّب:‏ ‏‘‘ابتَعِدْ‏ يا شَ‏ يطانُ‏ ، فَالكِتابُ‏ يَقُولُ‏ :<br />

‏»يَنبَغِي أنْ‏ تَعبُدَ‏ الربَّ‏ إلهَكَ‏ ، وأنْ‏ تَسجُدَ‏ له وَحده«’’.‏ 8<br />

هل أدركْتَ‏ ما كان يسوع يفعلُه مبجابهته الشيطان يف الربِّيَّة؟ كان<br />

يُحرِّض رصاعَ‏ الربِّ‏ والطاعة الذي خرسه بنو إرسائيل متامًا قبل زمنٍ‏ بعيد.‏<br />

كانت التجارب الثالث التي ألقاها الشيطان عليه بأن ال يثقَ‏ بالله أو<br />

ميتحنَه أو يعبده،‏ هي إخفاقات اليهود األشهر.‏ كانت رضبات إبليس<br />

األكرث نجاحًا،‏ لذا سدَّدها هذه املرَّة عىل ملك إرسائيل.‏ غري أنَّ‏ إبليسَ‏ هو<br />

مَن أخفق.‏ خاضَ‏ امللك املسيح النِّزال خطوةً‏ بخطوة.‏ عادَ‏ امللك وخاض<br />

معركة شعبه الفاشلة،‏ وانترص.‏<br />

أمَّا لوقا فَريَ‏ ‏ِد عنه:‏ ‏‘‘وملَّا استَنْفَدَ‏ إبليسُ‏ كلَّ‏ مُحاوَلةٍ‏ إلغراءِ‏ يَسوع،‏<br />

تَرَكَه إىل أنْ‏ تَحنيَ‏ فُرصةٌ‏ ثانيةٌ’’.‏ 9 مل تكُنِ‏ نهايةَ‏ املعركة،‏ بل هناك دخلَ‏<br />

املعركةَ‏ من أجل روح البرشيَّة مَن يُعدُّ‏ األفضل واألقوى،‏ وهي معركة<br />

كانت مستمرَّة منذ عصور خَلَتْ‏ .<br />

)8 متَّى .10-3 :4<br />

)9 لوقا .13 :4


الفصل 6<br />

انتصار ُ آدمَ‏ األخير<br />

غالبًا ما متتدُّ‏ جذور الرصاعات عميقًا يف التاريخ؛ فإن قرأتَ‏ عناوين<br />

الصحف حول الحروبِ‏ واملعارك والرصاعات املستَعِرة يف أيِّ‏ يومٍ‏ كان،‏<br />

ستجدها نادرًا ما نشبَتْ‏ من العَدم.‏ إذ تعود أحيانًا جذور هذه الرصاعات<br />

إىل قرون مضت.‏<br />

وهذه هي حالُ‏ الرصاع ما بني يسوع املسيح والشيطان.‏ فحينام واجهَ‏<br />

املسيح الشيطان وغلبَه يف الربِّيَّة،‏ كانت هذه اللحظة أوجَ‏ الرصاع الذي<br />

دام آالف السنني وشمل البرشيَّة جمعاء.‏ بل كانت بدايةَ‏ النهاية لهذا<br />

الرصاع.‏ كان الشيطان يحاول مقاومة الله وخُطَطه يف األرض لقرون خلَتْ‏ ،<br />

لكنَّه وقع حينها يف مواجهةٍ‏ حاسمة مع مَن سيغلِبه غلبةً‏ نهائيًّة.‏ مل يكن<br />

الشيطان يجهلُ‏ مَن يكون يسوع؛ إذ إنَّ‏ تجرِبتَني ركَّزتا تحديدًا عىل هُوِيَّة<br />

يسوع لكونه ابن الله.‏ لكنْ‏ مع أنَّ‏ الشيطانَ‏ يعرفُ‏ ذلك،‏ فقد ظنَّ‏ أنَّه<br />

ميكنه بطريقةٍ‏ ما جعل يسوع يُخطئ.‏ ولِمَ‏ ال يَظنُّ‏ ذلك؟ فكلُّ‏ إنسانٍ‏<br />

آخَر يف التاريخ سبق أن وقعَ‏ ضحيَّةَ‏ تجارِبه.‏ لِمَ‏ ال يقع هذا اإلنسان<br />

أيضً‏ ا؟ هكذا اعتقَدَ‏ الشيطان.‏ كام ظنَّ‏ هذا الكذَّابُ‏ أنَّ‏ الله أخطأ ‏)وحاشا<br />

لله!(‏ يف أن يصريَ‏ إنسانًا،‏ باتِّخاذ الطبيعة البرشيَّة والضعفات البرشيَّة<br />

73


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

واملحدودات البرشيَّة،‏ ورمبَّ‏ ا أخريًا صار الله...قابالً‏ للهزمية.‏<br />

إالَّ‏ أنَّ‏ الشيطان أدركَ‏ حتامً‏ يف نهاية هذا اللقاء األوَّيلِّ‏ مع يسوع أنَّ‏<br />

آمالَه خائبةٌ‏ ال محالة.‏ وال بدَّ‏ أن تتساءل ما إذا عَلِمَ‏ الشيطان باقرتاب<br />

نهايته بعدما رأى فشَ‏ ل أفضل أساليبه الرشِّيرة.‏ وال بدَّ‏ أيضً‏ ا أن تتساءل<br />

ما إذا تذكَّر الشيطان صوتَ‏ القدير يقول لهُ‏ قبلَ‏ بضعِ‏ ألفِ‏ سنةٍ‏ مُتوعِّدًا:‏<br />

‏‘‘حينام يأيت امللك،‏ أجل،‏ ستلدَغُ‏ عَقِبَه،‏ لكنَّهُ‏ سيَسحقُ‏ رأسَ‏ كَ‏ ’’. 1<br />

حتامً‏ جعلَه هذا يتوقُ‏ إىل األيَّام التي بدت فيها الحربُ‏ ضدَّ‏ الله<br />

تَجري عىل ما يُرام.‏<br />

أراد إنزالَ‏ العليِّ‏ عن العرش<br />

ال يرصف الكتاب املقدَّس كثريًا من الوقت يف التحدُّث بشأن الشيطان؛<br />

فرتكيزُهُ‏ عىل الله وعالقته بالبرش،‏ ومترُّدهم وخطاياهم نحوه،‏ ومشيئته يف<br />

إنقاذهم ومُسامحتهم.‏ لكنَّ‏ الشيطان موجود أيضً‏ ا،‏ فهو املجرِّب واملُشتيك<br />

عىل بني البرش،‏ وعدوُّ‏ الله وخُطَطه.‏ ومع أنَّه ليس لدينا الكثري عن أصله،‏<br />

فإنَّ‏ الكتابَ‏ املقدَّس يحوي تلميحاتٍ‏ هنا وهناك عن أصله.‏ وتجدرُ‏ اإلشارةُ‏<br />

قبل كلِّ‏ يشءٍ‏ إىل وضوح الكتاب بشأن عدم كون الشيطان ضدًّا لله بصورةٍ‏<br />

ما تجعله يف القوَّة أو العظمة نفسهام،‏ بل هو مضادٌّ‏ لله بالصِّ‏ فات.‏ بعبارةٍ‏<br />

2<br />

أُخرى،‏ ال يُقدَّم الشيطان عىل كونه ‏‘‘اليانغ’’‏ الذي يُقابل ‏‘‘يِن’’‏ الله.‏<br />

ويشري أنبياء العهد القديم بالحقيقة إىل أنَّ‏ الشيطانَ‏ يف األصل مالكٌ‏<br />

74<br />

)1 اقرأ تكوين .15 :3<br />

2( اليانغ والنيِ‏ يف الفلسفة الصينيَّة القدمية هام قوَّتا الطبيعة املتقابِلتان واملتساوِيَتان،‏ وتحتاج كلتاهام إىل<br />

األُخرى إلحداث التوازن.‏ مثل النور والظُلمة،‏ والسكون والنشاط...إلخ ‏)املرتجم(.‏


خَلَقَه الربُّ‏ لخدمته،‏ حالُه حالُ‏ املالئكة اآلخرين.‏ وإليك وَصْ‏ ف حِ‏ زقيال<br />

النبيِّ‏ للشَّ‏ يطان:‏<br />

‏‘‘أنتَ‏ صُ‏ ورَةٌ‏ عنِ‏ الكَاملِ!‏<br />

مَملُوءٌ‏ بِالحِ‏ كْمَةِ،‏ وَفائِقُ‏ الجَاملِ.‏<br />

كُنتَ‏ يفِ‏ عَدنٍ‏ ، يف جَنَّةِ‏ الله.‏<br />

أنتَ‏ مُزَيَّنٌ‏ بِكُلِّ‏ األحجارِ‏ الكَرمية:‏<br />

بِالعَقِيقِ‏ األحمَرِ‏ وَالياقُوتِ‏ األصفَرِ‏ وَالعَقَيقِ‏ األبيَضِ‏<br />

وَالزَبَرْجَدِ‏ وَالجَزْعِ‏ وَاليَشبِ‏<br />

وَالياقُوتِ‏ األزرَقِ‏ وَالبَهرَمانِ‏ وَالزُّمُرُّدِ‏ وَالذَّهَبِ‏ .<br />

أُعِدَّتْ‏ كلُّ‏ هَذه الحِ‏ جارَةِ‏ لَكَ‏ ،<br />

يَومَ‏ خُلِقْتَ‏ .<br />

أنتَ‏ كَرُوبٌ‏ حارِسٌ‏ مُختارٌ،‏<br />

وَضَ‏ عْتُكَ‏ عَىلَ‏ جَبَلِ‏ اللهِ‏ املقدَّس.‏<br />

تَجَوَّلْتَ‏ وَسَ‏ طَ‏ الحِ‏ جارَةِ‏ البارِقَة كالنَّار.‏<br />

كُنتَ‏ مُسْ‏ تَقيامً‏ وكامالً‏ يف كُلِّ‏ طُرُقِكَ‏<br />

من اليَومِ‏ الذي خُلِقْتَ‏ فيهِ‏ إىل أنْ‏ أخْطَأْتَ‏ ’’. 3<br />

سيتبنيَّ‏ لك بينام تقرأ سِ‏ فر حزقيال أنَّ‏ هذا الوصفُ‏ يتكلَّم مبارشةً‏<br />

عن ملكِ‏ مدينةٍ‏ تُدعى صور.‏ إذ إنَّ‏ الوصف يتقدَّمه أمرُ‏ الربِّ‏ لحزقيال:‏<br />

‏‘‘يا إنْسانُ‏ ، غَنِّ‏ أُغنِيَّةَ‏ رِثاءٍ‏ عَىل مَلِكِ‏ صُ‏ ورَ’’.‏ 4 غري أنَّ‏ نبوَّات العهد القديم<br />

75<br />

)3 حزقيال .15-12 :28<br />

)4 حزقيال .12 :28<br />

انتصار آدم األخير


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

76<br />

هي رسائل غامضةٌ‏ مدهشة،‏ وهناك أحيانًا أكرث مامَّ‏ يظهرُ‏ عىل السطح.‏<br />

وهذه هي حال ما لدينا هُنا؛ إذ يتَّضح من مطلع كلامت الرِّسالة أنًّ‏<br />

حزقيال ال يتكلَّمُ‏ عن ملكِ‏ صُ‏ ور فقط.‏ فام املعنى من قوله إنَّ‏ هذا الرَّجُل-‏<br />

حاكِمُ‏ مدينةٍ‏ ثريَّة وساحليَّة غري ملحوظة تقريبًا من الرشق األدىن القديم-‏<br />

كان يف عدن،‏ وأنَّه كَروبٌ‏ حارِسٌ‏ مختار،‏ وأنَّه عىل جبل الله املُقدَّس؟ لن<br />

يكونَ‏ هذا منطقيًّا بتاتًا.‏ فحتَّى لو كان تعبريًا شِ‏ عريًّا،‏ لكان مُبالغةً‏ إىل حدِّ‏<br />

السخافة والفشل الشعريّ‏ .<br />

ال مجال للشكِّ‏ أنَّ‏ هنالك تصويرًا لشخصيَّةٍ‏ أُخرى يف هذا الكالم<br />

بطريقةٍ‏ تبدو سينامئيَّة.‏ كأنَّ‏ وجه ملك صُ‏ ور الرشِّير كان يعكس حينًا وجه<br />

آخرَ-‏ وجهَ‏ مَن يقف وراء رشِّ‏ املدينة كلِّها،‏ ومَن يحرِّك ذلك الرشَّ‏ ويحرِّضه،‏<br />

ومَن يعكسُ‏ الرشُّ‏ حقيقتَه.‏ هل ترى ما يفعله حزقيال؟ تصعيدًا لقوَّة<br />

نبوَّته ضدَّ‏ ملك صُ‏ ور،‏ يعطينا حزقيال ملحاتٍ‏ عمَّن يُجسِّ‏ د فِعليًّا التمرُّد<br />

ضدَّ‏ الله:‏ الشيطان.‏ وهكذا تابعَ‏ النبيُّ‏ وصفه لسقطة الشيطان من منصبه<br />

العايل قائالً‏ : ‏‘‘جَعلَكَ‏ جَاملُكَ‏ مُتَكَربِّ‏ ‏ًا،‏ وَفَسَ‏ دَتْ‏ حِ‏ كمَتُكَ‏ بِسَ‏ بَبِ‏ بَهائِكَ‏ ، ولِذا<br />

طَرَحْتُكَ‏ أمامَ‏ امللوكِ‏ اآلخَرِينَ‏ ، رصِ‏ ‏ْتَ‏ مَثارًا للدَّهشة’’.‏ 5 يصوِّر نبيٌّ‏ آخر اسمُه<br />

إشعياءُ‏ خطيَّة الشيطان قائالً‏ : ‏‘‘كيفَ‏ سَ‏ قَطْتَ‏ مِنَ‏ السَّ‏ امءِ،‏ يا هِاللَ‏ الفَجْر.‏<br />

كيفَ‏ أُسقِطتَ‏ إىل األرض،‏ يا هازِمَ‏ األُمَم؟ قُلتَ‏ يفِ‏ نَفسِ‏ كَ‏ : ‏»سَ‏ أصعَدُ‏ إىلَ‏<br />

السَّ‏ امءِ،‏ وَسَ‏ أرفَعُ‏ عَريشِ‏ َ فَوقَ‏ نُجوم الله،‏ وسَ‏ أجلِسُ‏ عىل قمَّةِ‏ جَبَلِ‏ صافون<br />

حَيثُ‏ تَجتَمعُ‏ اآللهةُ.‏ سَ‏ أصعَدُ‏ إىل أعايل السَّ‏ حاب،‏ وأصريُ‏ مِثلَ‏ العَيلِّ«’’.‏ 6<br />

خطيَّةُ‏ الشيطان هي الكربياء أكرث من أيِّ‏ يشءٍ‏ آخر.‏ ومع كلِّ‏ جامله<br />

)5 حزقيال .17 :28<br />

)6 إشعياء .14-12 :14


انتصار آدم األخير<br />

ورَوعته األخَّاذين،‏ مل يرضَ‏ مبا خلقه الله ليكونَ‏ عليه،‏ بل أرادَ‏ املزيد-‏ أراد<br />

أن ‏‘‘يصري مثل العيلّ’’،‏ بحسب ما قاله إشعياء.‏ أرادَ‏ إنزال الله عن عرشه.‏<br />

لذا هل من الغريب أنَّ‏ الشيطان هاجمَ‏ الناس مبحاولة جعلهم<br />

يتمرَّدون عىل الربِّ‏ وميشون يف سبيلهم،‏ بإعطائهم الوعد أنَّهم إذا ما<br />

عصَ‏ وا سيادة الله،‏ فسيَصريون هم أيضً‏ ا مثل العيلّ؟<br />

تذكيرٌ‏ حيٌّ‏ باهلل الملك<br />

نجدُ‏ هذه األحداث يف سفر التكوين يف بداية الكتاب املقدَّس،‏ حيث يتَّضح<br />

لنا رسيعًا سبب حاجة البرشيَّة إىل يسوع املسيح.‏ سدَّد الشيطان حينها<br />

رضبةً‏ بإغوائه اإلنسان األوَّل ليُخطئ ظنًّا منه أنَّ‏ ذلك سيدمِّرُ‏ البرشيَّة<br />

دمارًا نهائيًّا،‏ ويف الوقت ذاته،‏ يؤلِم قلب الله ويُصيبُ‏ حتَّى أساسَ‏ عرشه.‏<br />

يشريُ‏ اسمُ‏ سفر التكوين إىل فَحواه.‏ فاألصحاحات األوىل منه تُخربنا<br />

بكيفيَّة خلق الله الكون بأكمله-األرضَ‏ والبحرَ‏ والطيورَ‏ والحيواناتِ‏<br />

واألسامك-‏ بكلمةٍ‏ منه.‏ ويُخربنا السفر أنَّ‏ الله حينام خلقَ‏ كلَّ‏ ما يف الكون<br />

كان الكلُّ‏ حسنًا جدًّا،‏ وأنَّ‏ الله توَّج جميعَ‏ ما صَ‏ نع بخَلقِه اإلنسان.‏ مل يكُنِ‏<br />

اإلنسانُ‏ األوَّلُ‏ حَيوانًا آخر،‏ بل كان-‏ كام يُخربنا الكتاب املقدَّس-‏ مميَّزًا<br />

ومخلوقًا عىل صورة الله ليجعلَه عىل كلِّ‏ ما صنعه.‏ كان لإلنسان مكانٌ‏<br />

خاصٌّ‏ يف قلب الله ويف خُطَّته.‏ إليك ما يَردُ‏ يف سِ‏ فر التكوين عن خلق الله<br />

لإلنسان األوَّل:‏ ‏‘‘ثمَّ‏ شَ‏ كَّلَ‏ الله الرَّجُلَ‏ من تُرابِ‏ األرض،‏ ونَفَخَ‏ يف أنفِه نَفَسَ‏<br />

الحَياة،‏ فَصارَ‏ الرَّجلُ‏ نَفْسً‏ ا حيَّة’’.‏ 7 واللفظ العربيُّ‏ لكلمة ‏‘‘الرجُلُ‏ ’’ هو أدام<br />

،(Adam) والذي صار فورًا اسمَ‏ اإلنسان األوَّل-‏ آدم.‏<br />

77<br />

)7 تكوين ‎27‎؛ :1 .7 :2


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

78<br />

كان الله رؤوفًا مع آدم منذ البداية؛ إذ وضعه يف جنَّةٍ‏ زرعَها الله<br />

يف مكانٍ‏ فاضلٍ‏ يف األرض اسمه عَدْن.‏ كانت الجنَّةُ‏ خالَّ‏ بةً‏ يجري وسطها<br />

نهرٌ‏ يُنمي ‏‘‘كلَّ‏ شَ‏ جَرةٍ‏ جَميلَةٍ‏ وصالحَةٍ‏ لِألكل’’.‏ كام كانت يف وسط الجنَّة<br />

شجرتان فريدتان:‏ شجرة الحياة وشجرة معرفة الخري والرشَّ‏ ّ. كانت حياةُ‏<br />

آدم يف الجنَّةِ‏ صالحةً،‏ ما عدا هذا:‏ كان آدم مُحتاجًا إىل رفيقٍ‏ . وهذا ما<br />

عَلِمه الله إذ قال:‏ ‏‘‘لَيسَ‏ حَسَ‏ نًا أنْ‏ يَكونَ‏ الرَّجُلُ‏ وَحيدًا.‏ لهذا سأصنَعُ‏ له<br />

مُعينًا مِثله’’.‏ وهكذا من الطبيعيِّ‏ أن نجدَ‏ إثرَ‏ هذا أنَّ‏ الله جعلَ‏ آدم<br />

يُسمِّي جميع الحيوانات بأسامء!‏ 8<br />

إذا كنت تتساءل متعجِّبًا عامَّ‏ حصل هنا،‏ فاعلم أنَّك لستَ‏ الوحيد!‏<br />

فالكثري من الناس أبدوا مظاهرَ‏ الحَرية نتيجةَ‏ هذا االستطراد يف رسَ‏ ‏ْدِ‏<br />

األحداث.‏ كام إنَّ‏ الكثريين منهم،‏ حتَّى الذين لهم أعوامٌ‏ يف اإلميان املسيحيّ‏ ،<br />

يحسبون األمرَ‏ قصَّ‏ ةً‏ طفوليَّةً‏ طريفةً‏ أو فاصالً‏ إعالنيًّا قبل متابعة الكالم عن<br />

خلق حوَّاء.‏ لكنْ‏ عليك أالَّ‏ تنىس مبدأً‏ مُهامًّ‏ إذا ما أردت أن تفهم الكتاب<br />

املقدَّس:‏ أنْ‏ ليس يف الكتابِ‏ املقدَّس أيَّة عَشوائيَّة.‏ يُشريُ‏ حدثُ‏ تسمية<br />

آدم للحيوانات إىل أمرَين بالغَي األهمِّيَّة:‏ األوَّل أنَّ‏ الله أعطى درسً‏ ا مُهامًّ‏<br />

آلدم.‏ فبعد أن عربَتِ‏ الحيواناتُ‏ والطيورُ‏ واألسامكُ‏ والحرشاتُ‏ أمامه وأطلق<br />

عليها أسامءً‏ مثل ‏‘‘نر!’’‏ و‘‘وحيد قرن!’’‏ و‘‘بعوضة!’’،‏ أدرك آدم أخريًا عدم<br />

صالحيَّة أيٍّ‏ منها ليكونَ‏ رفيقًا له.‏ فليس منها ما يشبهُه.‏<br />

ويف اللحظة التي تربهنت فيها حكمة الله مامَّ‏ فعل،‏ أوقعَ‏ آدمَ‏ يف<br />

نومٍ‏ عميق،‏ وأخذ ضلعًا من أضالعه وخلقَ‏ املرأة األوىل لتكونَ‏ رفيقةً‏ آلدم.‏<br />

تخيَّل فرحةَ‏ آدم حينام استيقظ من سباته ووجدها ماثلةً‏ أمامه.‏ كانت<br />

)8 تكوين ،10-8 :2 .18


مثاليَّة،‏ ال سيَّام بعدَ‏ أن شاهدَ‏ فَظاعةَ‏ احتامليَّة أن يكونَ‏ الحوت األزرق أو<br />

الزرافة أو الخنفساء رُفقاءَ‏ له.‏ لذا أعرب عن رأيه قائالً‏ : ‏‘‘أخريًا!‏ هَذه عَظْمٌ‏<br />

من عِظامِي ولَحمٌ‏ من لَحمي!‏ سأُسمِّي هَذه ‏»امرأةً«‏ ألنَّها أُخِ‏ ذَتْ‏ من<br />

امرِئٍ‏ ’’. 9 هذا جزءٌ‏ مامَّ‏ قصدَه الله بجَعْل آدم يسمِّي الحيوانات؛ إذ أراده<br />

أن يعلمَ‏ يقينًا أنَّ‏ املرأةَ‏ املاثلةَ‏ أمامه خُلقت له،‏ بل عىل سبيل الحميميَّة...‏<br />

خُلقَتْ‏ منه.‏<br />

لكنَّ‏ أمرًا آخرَ‏ كان يحدُثُ‏ بينام كان آدم يُعطي الحيواناتِ‏ أسامءَها.‏ ال<br />

بدَّ‏ أنَّ‏ الله رَيضِ‏ َ مبشاهدة آدم يتوىلَّ‏ عمالً‏ ليس بأالعيبَ‏ أو متعةً‏ بالية.‏ كان<br />

الله يُخرب آدم بهذه الطريقة أنَّ‏ له وظيفةً‏ يُتمِّمها يف األرض.‏ كان آدم هو سيِّد<br />

العامل الذي أوجَده الله ليكونَ‏ اللمسةَ‏ األخريةَ‏ يف الخليقة،‏ واملخلوق الوحيد<br />

عىل صورة الله.‏ تسميةُ‏ يشءٍ‏ هي طريقةٌ‏ ملامرسة السلطة عىل هذا اليشء،‏<br />

متامًا كام يتسنَّى لألبِ‏ واألمِّ‏ رشف تسمية أوالدهام.‏ وهكذا كان آدم ميُ‏ ارس<br />

سلطتَه عىل الحيوانات بإعطائها أسامءً.‏ كان يقوم بوظيفته كخليفة الله عىل<br />

الخليقة،‏ وتحت سيادة الله املبارشة.‏<br />

وما يزيد من أهمِّيَّة األمر هو حقيقة أنَّ‏ آدم أعطى املرأة اسامً‏ حينام<br />

رآها-‏ ‏‘‘سأُسمِّي هذه امرأةً’’-‏ والحقًا يُخربنا الكتاب املقدَّس بأنَّه أسامها<br />

مُجدَّدًا:‏ ‏‘‘ودَعا آدَمُ‏ زَوجَتَه ‏»حَوّاءَ«’’.‏ ترى،‏ ما الذي يقوم به الله هنا؟<br />

إنَّه يؤسِّ‏ سُ‏ نظامًا متكامالً‏ من السُّ‏ لطةِ‏ أُعطِ‏ يَ‏ آدم فيه السُّ‏ لطةَ‏ عىل حوَّاء،‏<br />

وأُعطي كالهام،‏ بوصفهام زوجَني،‏ السُّ‏ لْطةَ‏ عىل الخليقة كلِّها،‏ والقصد من<br />

هذا كلِّه هو إبراز حقيقة ملكيَّة الله عىل الجميع.‏ فهذا جزءٌ‏ من السبب<br />

وراء ما عناه الله حينام قال إنَّه سيخلق الرجل واملرأة ‏‘‘عىل صورته’’.‏<br />

79<br />

)9 تكوين .23 :2<br />

انتصار آدم األخير


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

80<br />

كان امللوك املُستعمِرين يستخدمون الصور والتامثيل لتذكري الشعوب<br />

املستَعمَرة مبَن يحكُمُهم حينها،‏ حيث كانوا ينصبونها عىل مُرتفعٍ‏ عالٍ‏<br />

كفايةً‏ لرياه كلُّ‏ مَن يف املنطقة.‏ وكان هذا أشبَه بتنبيهٍ‏ مَفاده:‏ ‏‘‘هذا هو<br />

مَلِكُكُم’’.‏ وهذه هي حال آدم وحوَّاء يف الخليقة؛ فمهام كانت املعان التي<br />

يتضمَّنها الخَلقُ‏ عىل صورة الله،‏ كان اإلنسان يقفُ‏ كأنَّه تذكريٌ‏ للكَون كلِّه<br />

بأنَّ‏ الله هو امللك.‏ فالسُّ‏ لطةُ‏ التي مارَسها عىل الخليقة كانت أنَّهم مُمثِّلون<br />

عن امللك العظيم:‏ الله.‏<br />

وقد أثارَ‏ هذا كلُّه غَيظَ‏ الشيطان دون توقُّف.‏<br />

كان الدمار ُ كلِّيّ‏ ‏ًا تقريبًا<br />

كان هجوم الشيطان عىل البرشيَّة محبوكًا بدِ‏ قَّةٍ‏ بجَعْل اإلنسان يتخلَّص<br />

من جميع ما صنعه الله يف الجنَّة.‏ الحظ معي عدم اهتامم الشيطان<br />

مبجرَّد جعل إنسانٍ‏ بسيط يُخطئُ‏ بذنبٍ‏ بسيط تجاه الله،‏ بل أراد اإلجهاز<br />

عىل هيكليَّة السلطة التي وضعها الربُّ‏ ، واإلجهاز عىل كلِّ‏ رمزٍ‏ وضعه الله<br />

ليُشري ملمَلَكيَّته وحُكمه.‏ أراد قلبَ‏ هيكليَّة الخليقة كاملةً‏ رأسً‏ ا عىل عقب،‏<br />

من أجل أن يُهني الله ‏)حاشا لله(.‏<br />

يُخربنا الكتاب املقدَّس بشأن سَ‏ امح الله آلدم وحوَّاء باألكل من كلِّ‏<br />

أشجار الخليقة ما عدا واحدة-‏ شجرة معرفة الخري والرشَّ‏ ّ. وتكمُن أهمِّيَّة<br />

هذه الشجرة يف أنَّها كانت تذكريًا لإلنسان بأنَّ‏ لسُ‏ لطته عىل الخليقة<br />

مُحدِّدات،‏ أيْ‏ أنَّها مل تكُن سيادةً‏ مُطلَقة.‏ مل يكن الله مزاجيًّا حينام منعَهام<br />

من تناوُلِ‏ مثِ‏ ارها،‏ بل كان يُذكِّر آدم وامرأته بأنَّه مَلِكُهُم،‏ وأنَّه مع كلِّ‏ الرشف<br />

الذي حازاه بالنيابة عن الله يف حُكم الخليقة،‏ فام زال هو الخالق والسيِّد.‏


وهذا ما جعل التوعُّد بعقابِ‏ عِصيانه عسريًا،‏ إذ قال:‏ ‏‘‘ألنَّكَ‏ حنيَ‏ تَأكُلُ‏ منها،‏<br />

مَوتًا متَ‏ وت’’.‏ 10 عِصيان آدم وحوَّاء لهذه الوصيَّة ما هو إالَّ‏ محاولةً‏ للتخلُّص<br />

من سلطة الله عليهم،‏ يف جَوهر ذلك إعالنٌ‏ للحرب عىل مَلِكِهم.‏<br />

تكمنُ‏ أهمِّيَّة الشجرة أيضً‏ ا يف ما يُشري إليه اسمُها.‏ فالقُرَّاء اليهود<br />

القُدامى لسفر التكوين سيتذكَّرون فورًا أنَّ‏ ‏‘‘معرفة الخري والرشِّ’’‏ هي<br />

الوظيفة االعتياديَّة للقُضاةِ‏ يف إرسائيل،‏ والتي مفادُها أن مييِّز القايض<br />

الخريَ‏ من الرشِّ‏ ويصدرَ‏ األحكامَ‏ التي تعربِّ‏ عن الواقع.‏ وهكذا كانت شجرة<br />

معرفة الخري والرشِّ‏ منصَّ‏ ةً‏ للقضاء.‏ كانت حيث ينبغي آلدمَ‏ مُامرسة سلطته<br />

بوصفه حاميَ‏ جنَّةِ‏ الله،‏ وذلك بالتحقُّق من عدم ترسُّبِ‏ الرشِّ‏ إليها.‏ وإنْ‏<br />

حدث ذلك،‏ أن يضمنَ‏ القضاء عىل هذا الرشِّ‏ وطرحَه خارجًا.‏<br />

غري أنَّ‏ الشيطان نفَّذ الهجومَ‏ هناك،‏ مُقابل شجرة القضاء التي كانت<br />

تعملُ‏ كتذكريٍ‏ آلدم بسيادة الله املطلقة.‏ وهكذا قدَّم الشيطان اقرتاحَه<br />

لحوَّاء،‏ آخذًا هيئة حيَّةٍ،‏ بأن تتعدَّى وصيَّةَ‏ الله وتأكل من مثر الشجرة.‏<br />

وإليك ما يُخربنا به سفر التكوين عن اللقاء:‏<br />

‏‘‘وكانَتِ‏ الحَيَّةُ‏ أمكَرَ‏ الحيواناتِ‏ الربِّيَّة التي خَلَقَها الله.‏<br />

فَقالَتْ‏ لِلمَرأة:‏ ‏»أحَقًّا قالَ‏ الله لَكُام:‏ ال تَأكُال من أشجارِ‏<br />

الحَديقة ‏]الجنَّة[كلِّها؟«.‏ فقالَتِ‏ املَرأةُ‏ لِلحيَّة:‏ ‏»بل نَأكُلُ‏ من<br />

مثَ‏ ‏َرِ‏ جَميع األشجارِ‏ يف الحَديقة،‏ أمَّا الشجَرةُ‏ التي يف وَسَ‏ طِ‏<br />

الحَديقة،‏ فقد قال الله:‏ ال تأكُال منها وال تَلمَساها وإالَّ‏<br />

فَستَموتان!«.‏ فَقالَتِ‏ الحَيَّةُ‏ لِلمَرأةِ:‏ ‏»لَن متَ‏ وتا!‏ لَكنَّ‏ الله<br />

81<br />

)10 تكوين .17 :2<br />

انتصار آدم األخير


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

يَعرِفُ‏ أنَّكُام حنيَ‏ تَأكُالنِ‏ منها،‏ تَنفَتحُ‏ أعيُنُكُام،‏ وتُصبِحانِ‏<br />

مثلَ‏ الله يف التَّمييزِ‏ بنيَ‏ الخَري والرشَّ‏ «. وَرَأتِ‏ املرأةُ‏ أنَّ‏<br />

الشجَرةَ‏ شَ‏ هِيَّةٌ‏ لِألكلِ‏ وَجذَّابةٌ‏ لِلعَني،‏ ومَرغوبٌ‏ فِيها بِسَ‏ بَبِ‏ ما<br />

تُعطيه من الحِ‏ كمة لآلكِل منها.‏ فأخَذَتْ‏ من مثَ‏ رِها،‏ وأكَلَتْ‏ .<br />

ثمَّ‏ أعطَتْ‏ لِزَوْجها الذي كانَ‏ مَعَها،‏ فَأكَلَ‏ هو أيضً‏ ا’’.‏ 11<br />

كانت النتيجة مأساويَّة،‏ وبدا األمر للوهلة األوىل انتصارًا ساحقًا<br />

للشَّ‏ يطان.‏ إذ مل يقترصَ‏ ِ األمرُ‏ فقط عىل إقناعه للبرش محبويب الربِّ‏ بعصيان<br />

إلههم بأن وَعَدهم مبا ابتغاه هو من البداية،‏ ‏‘‘أن يصري مثل العيلّ’’،‏ بل أنجز<br />

أيضً‏ ا ما أراده منذ بداية األمر:‏ أن يدمِّر هيكليَّة السلطة يف الخليقة كلِّها.‏<br />

إليك الكيفيَّة:‏ هل سبق وتساءلت عن سبب تجرِبة إبليس لحوَّاء<br />

بَدَل آدم؟ فمع أنَّ‏ آدمَ‏ هو مَن له السُّ‏ لطة؛ ومع أنَّ‏ الكتاب املقدَّس يُلقي<br />

باللَّوم عىل عاتق آدم ملا حدث،‏ فإنَّ‏ الشيطان جاء لحوَّاء.‏ ملاذا؟ مل يكن<br />

هذا ألنَّ‏ الشيطان ظنَّ‏ حوَّاء هدفًا أسهل.‏ كالَّ‏ ! بل ألنَّ‏ مُرادَه كان إهانةَ‏<br />

الله وإسقاط سلطانه بأكرث طريقةٍ‏ مُقنعةٍ‏ ومؤثِّرةٍ‏ أمكنَه املُيضُّ‏ فيها.‏ لذا<br />

أرادَ‏ أن يتمرَّد ليس فقط آدم عىل الله،‏ بل حوَّاء أيضً‏ ا بتحريضها إيَّاه عىل<br />

ذلك.‏ ولكنَّ‏ هناك املزيد:‏ هل سبق أن تساءلت عن السبب الذي دفع<br />

الشيطان للقُدوم إليهم عىل هيئة حيَّة؟ ملَ‏ ملْ‏ يأتِهم عىل هيئةِ‏ إنسانٍ‏ آخر،‏<br />

أو حيوانٍ‏ عدا عن الحيَّة،‏ مثل زرافةٍ‏ أو سنجاب؟ السبب ذاته:‏ أراد إبليس<br />

إسقاط سُ‏ لطة الله نهائيًّا وإىل التامم؛ فأىت عىل هيئة أحد الحيوانات التي<br />

كان آلدم وحوَّاء معًا السُّ‏ لطة عليها،‏ ومن بني جميع هذه الحيوانات الحيَّة<br />

)11 تكوين .6-1 :3<br />

82


انتصار آدم األخير<br />

والتي هي أدناها ‏)بصورةٍ‏ رمزيَّة(.‏ أترى؟ سقطت هيكليَّة السلطة كأحجار<br />

الدومينو-‏ أدىن الحيوانات أغوى املرأة،‏ والتي بِدَورِها حرَّضت الرجُل،‏<br />

والذي بدَورِه أعلنَ‏ الحربَ‏ ضدَّ‏ الله.‏<br />

كان الدمارُ‏ شبهَ‏ نهايئّ.‏ فشل آدم يف مهمَّته فشالً‏ ذريعًا؛ فبدل إصدار<br />

الحُكم من موضع شجرة معرفة الخري والرشِّ‏ عىل الشيطان الحيَّة لرشه،‏<br />

شاركَ‏ إبليسَ‏ مترُّده عىل الله.‏ وبدل أن يحميَ‏ الجنَّة ويطرَحَ‏ الحيَّة خارجها،‏<br />

سلَّمها إىل الشيطان.‏ وبدلَ‏ اإلميان بكالم الله والترصُّف بحسبها،‏ شكَّ‏ يف الله<br />

ووضع ثقته يف الشيطان.‏ وبدلَ‏ الخضوع لله وتنفيذ دور املمثِّل الرشعيِّ‏ عن<br />

الله،‏ قرَّر أنَّه يُريد التاجَ‏ األعىل لنفسه.‏ وكام فعل الشيطان من قبله،‏ قرَّر<br />

آدم أنَّه يُريد أن يصري ‏‘‘مثل العيلّ’’.‏<br />

كابوس العالم<br />

كانت نتيجة خطيَّة آدم كارثيَّة؛ إذ صارَ‏ العامل بعدَها متمرِّدًا عىل الخالق؛<br />

لذا قىض الربُّ‏ بالعدل ولعن الرجُلَ‏ وامرأته،‏ كام لعنَ‏ من أغواهام.‏ وهكذا<br />

مل تعُدِ‏ الحياةُ‏ لدى الرجُل واملرأة جنَّةً،‏ بل صارتْ‏ شقاءً‏ وإجهادًا وأملًا.‏<br />

صارت الوالدة مؤملةً‏ والعملُ‏ مُرهِقًا واألرضُ‏ شحيحةَ‏ الثمر واملنتَجات.‏<br />

واألسوأُ‏ من هذا،‏ انقطعَتِ‏ العالقةُ‏ التي متتَّع بها آدم وحوَّاء مع الله؛ إذ<br />

طُرِدوا من الجنَّةِ‏ نهائيًّا وأُغلِق سبيل العودة مبالكٍ‏ حارسٍ‏ ذي سيفٍ‏ ناريّ‏ .<br />

كان هذا االنفصالُ‏ الروحيُّ‏ إىل جانب املوت الجسديِّ‏ هام جَوهَر وعد<br />

الله باملوت مقابل العِصيان؛ فاإلنسان قبل أن ميوت جسديًّا يف الوقت<br />

املعنيَّ‏ يعان جرَّاء هذا االنفصال الروحيِّ‏ عن الله،‏ ربِّ‏ الحياة،‏ ويبدأ<br />

باملوت بالتَّدريج تحت ثِقلِ‏ عصيانه.‏<br />

83


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

84<br />

تجدُرُ‏ اإلشارةُ‏ إىل أنَّ‏ خطيَّة آدم وحوَّاء أثَّرتْ‏ ليس فقط فيهام،‏ بل<br />

أيضً‏ ا يف نَسلهام.‏ ومن ثَمَّ‏ تُخربنا األصحاحات الالحقة من الكتاب املقدَّس<br />

بشأن تفيشِّ‏ اإلثم بني البرش جيالً‏ بعد جيل.‏ فنجِدُ‏ أنَّ‏ قايني ابنَ‏ آدمَ‏ وحوَّاءَ‏<br />

قتلَ‏ أخاه بسبب التعجرُف والحَسَ‏ د،‏ ومن هناك بدأت الخطيَّة بالتشبُّث<br />

أكرث فأكرث يف قلوب الناس.‏ ومع أنَّ‏ نسل قايني أحرزَ‏ تقدُّمًا ثقافيًّا ببناء<br />

مدينةٍ‏ متطوِّرةٍ‏ تِقنيًّا وفنيًّا،‏ فإنَّ‏ رسَ‏ ‏ْدَ‏ الكتاب املقدَّس لألحداث يُخربنا بشأن<br />

تَقَيسِّ‏ الناس باإلثم،‏ ومتسُّ‏ كهم بالطُّغيان والفجور والتمرُّد عىل الله،‏ حتَّى<br />

إنَّ‏ واحدًا من بني قايني تباهى بقَتْله رجالً‏ ملجرَّد أنَّ‏ الرجلَ‏ جرحه،‏ وتوعَّد<br />

متفاخرًا أنَّه سينتقم لنفسه سبعًا وسبعني مرَّةً‏ ملن يحاول إيذاءه.‏ وهكذا<br />

جعلَ‏ اإلثمُ‏ من العامل كابوسً‏ ا ال مفرَّ‏ منه.‏ 12<br />

وكانت يف الوقت نفسه عاقبة املوت التي جعلها الله عىل آدم وحوَّاء<br />

بعَودة جسدَيهام إىل الرتاب تصيب البرشيَّة جمعاء وليس هُام فقط.‏ نجدُ‏<br />

أصحاحًا كامالً‏ يف سفر تكوين يحوي سُ‏ اللةَ‏ نسب آدم،‏ وعددَ‏ السنوات<br />

التي عاشها كلٌّ‏ من أوالده.‏ وما يُثري الدهشة إىل جانب عدد السنوات<br />

التي عاشوها هو نهاية كلِّ‏ تقريرٍ‏ عن كلٍّ‏ منهم؛ إذ ينتهي سجلُّ‏ كلٍّ‏<br />

منهم،‏ واحدًا تلو اآلخر،‏ بالعبارة ‏‘‘وبعد ذلك مات’’.‏ عاش آدم 930 سنةً،‏<br />

وبعد ذلك مات.‏ وعاش شيث 912 سنةً،‏ وبعد ذلك مات.‏ وأنوش...مات.‏<br />

وقينان...مات.‏ ومهلَلْئيل ويارِد ومتوشالَح...جميعهم ماتوا،‏ متامًا كام قال<br />

الربُّ‏ ، وساد املوت جميعَ‏ الناس.‏ 13<br />

أترى جدِّيَّة األمر؟ مل يكُنِ‏ ارتكاب آدم لإلثم فرديًّا،‏ ومل يعانِ‏ وحدَه<br />

)12 تكوين .24-17 :4<br />

)13 تكوين .5


انتصار آدم األخير<br />

من عاقبة اإلثم،‏ بل حينام أخطأ كان ميُ‏ ثِّل جميعَ‏ مَن سيأيت بعدَه.‏ لذا<br />

قال بولس يف العهد الجديد من الكتاب املقدَّس:‏ ‏‘‘لقدْ‏ جاءَتِ‏ الدَّينونةُ‏<br />

عىل جَميعِ‏ النَّاس مبِ‏ ‏َعصِ‏ يَةٍ‏ واحِ‏ دة’’،‏ وأيضً‏ ا:‏ ‏‘‘صارَ‏ الكَثريونَ‏ خُطاةً‏ مبِ‏ عصِ‏ يَةِ‏<br />

إنسانٍ‏ واحِ‏ د’’.‏ 14 مثَّلَ‏ آدم جميعَنا،‏ وترصَّ‏ فَ‏ عن جميعِنا،‏ ومترَّد عن جميعِنا.‏<br />

غالبًا ما ال يحسبُ‏ الناسُ‏ هذا األمرَ‏ متَّسامً‏ بالعدل،‏ ويقولون:‏ ‏‘‘أفضِّ‏ ل<br />

أن أُمثِّل نفيس بنفيس،‏ وال ميُ‏ ثِّلني آخر’’.‏ غري أنَّ‏ من املالحظ أنَّ‏ هذا<br />

املوقف مل يكُن لدى أيٍّ‏ من بني آدم.‏ وقد يعود ذلك إىل كَونهم يدركون<br />

أنَّه وإنْ‏ جعلهُم الله ميثِّلون أنفسهم،‏ فهُم لن يقوموا مبا هو أفضل مامَّ‏<br />

فعله آدم.‏ وقد يعود ذلك أيضً‏ ا إىل إدراكهم أنَّ‏ رجاءهم هو بإرسال الله<br />

شخصً‏ ا آخرَ-‏ مُمثِّالً‏ آخرَ‏ أو آدمَ‏ آخر إن صحَّ‏ التعبري-‏ ليمثِّلهم ويُنقذهم<br />

يف هذه املرَّة.‏ فإنْ‏ كان آدم قد مثَّل الناسَ‏ أجمعني بالخُضوع للشَّ‏ يطان<br />

والتمرُّد عىل الله،‏ فام يحتاجون إليه اآلن هو مَن ميُ‏ ثِّلهم يف الخضوع لله<br />

وهزمية الشيطان.‏<br />

كلُّ‏ هذا يصُ‏ بُّ‏ هنا<br />

ويتَّضحُ‏ أنَّ‏ هذا ما وعد الله بأن يفعلَه.‏<br />

فقد وعد الله مبارشةً‏ ويف أعقاب خطيَّة آدمَ‏ وحوَّاءَ‏ بإنقاذ البرشيَّة<br />

من الهالك بإرسال ممثِّلٍ‏ آخر أو آدمَ‏ آخرَ‏ ليُمثِّلها ويفوزَ‏ بالخالص للنَّاس<br />

أجمعني.‏ كانت لحظةً‏ مُدهشةً‏ حينام قطع الله هذا الوعد؛ إذ إنَّه قطعَه<br />

يف أحلَكِ‏ اللَّحظات،‏ لحظة أصدر الحُكم عىل الحيَّة التي كانت قد أغوتْ‏<br />

آدم وحوَّاء ليُخطِ‏ ئا.‏ إليك ما يُخربنا سفر التكوين بشأن ما قالَه الله:‏<br />

85<br />

)14 رومية .19-18 :5


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

‏‘‘ألنَّكِ‏ فَعَلْتِ‏ ذلك،‏<br />

تَكوننيَ‏ مَلعونَةً‏ أكرثَ‏ َ من كلِّ‏ البَهائِمِ‏<br />

ومن كلِّ‏ الحَيواناتِ‏ الربِّيَّة.‏<br />

وكلَّ‏ أيَّامِ‏ حَياتِكِ‏ ،<br />

سَ‏ تَزحَفنيَ‏ عىل بَطنِك،‏<br />

وستَتَعَفَّرينَ‏ بِالرتُّ‏ اب.‏<br />

وَسَ‏ أجعَلُ‏ عَداوةً‏ بَينَكِ‏ وبَني املرأة،‏<br />

وبَنيَ‏ نَسلِكِ‏ وَنَسلِها.‏<br />

سَ‏ يَسحَقُ‏ نَسلُها رَأْسَ‏ كِ‏ ،<br />

وَأنتِ‏ سَ‏ تَلْدَغنيَ‏ عَقِبَه’’.‏ 15<br />

هل الحظت الوعد يف نهاية الكالم؟ سريُ‏ سِ‏ ل الله يف أحد األيَّام رجُالً‏<br />

يسحق رأسَ‏ الحيَّة سحقًا.‏ وبعباراتٍ‏ أُخرى،‏ سيقوم هذا الرجُل مبا كان<br />

ينبغي آلدم فعله،‏ بوَصفه ممثِّل البرشيَّة،‏ لهذا سيُنقذها من الدَّمار الذي<br />

جلَبَتْه الخطيَّة عليهم وعىل العامل كلِّه.‏<br />

ومن تلك اللحظة فصاعدًا أصبح الوعد مبُمثِّلٍ‏ آخر–‏ بآدم آخر–‏ رجاء<br />

البرشيَّة األعظم.‏ وتطلَّعت األجيال املُتعاقبة نحو اليوم الذي سيُحقِّق الله<br />

فيه وعده،‏ كام تساءَلوا من حنيٍ‏ إىل آخر إذا ما كان هذا أو ذاك هو<br />

الفادي املوعود.‏ فمثالً‏ تساءل المَك أبو نوحٍ‏ عند والدة ابنه قائالً‏ : ‏‘‘لَيتَ‏<br />

ابْنِي هَذا يُرِيحُنا مِنْ‏ كُلِّ‏ عَمَلِنا وَمِنْ‏ كُلِّ‏ تَعَبٍ‏ أيضً‏ ا بِسَ‏ بَبِ‏ اللَّعنةِ‏ التي<br />

)15 تكوين .15-14 :3<br />

86


وَضَ‏ عَها الله عََى األرْضِ‏ ’’. 16 لكنَّ‏ هذا مل يحدُث.‏ ورغم أنَّ‏ نوحًا مثَّل الجنس<br />

البرشيَّ‏ كام فعل آدم،‏ فإنَّه أثبتَ‏ فَورًا بعد خروجه من الفُلك بأنَّه خاطئٌ‏<br />

أيضً‏ ا.‏ فقد فشِ‏ ل هذا اآلدم املُعيب اآلخَر متامًا كآدم األوَّل،‏ وبانَ‏ أنَّ‏ الفادي<br />

العظيم مل يأتِ‏ بعد.‏<br />

وضع الناس عىل مرِّ‏ األزمنة املتعاقبة-‏ وال سيَّام يف تاريخ إرسائيل-‏<br />

رجاءهم بتتميم وعد الله عىل ممثِّلٍ‏ تلو اآلخر.‏ فقد ارتجى كلُّ‏ جيلٍ‏ من<br />

أيَّام موىس ويشوع وداوُد وسُ‏ لَيامن والقضاة وامللوك أن يكون هؤالء هم<br />

الشخص املرجوّ.‏ غري أنَّ‏ آمالهم ذهبت أدراج الريح.‏<br />

حتَّى جاء يسوعُ،‏ آدمُ‏ األخري الذي سيُمثِّل البرشيَّة،‏ ويقوم مبا فشل<br />

آدم األوَّل يف فعله.‏ وهذا هو السبب وراء أهمِّيَّة مواجهة املسيح للشيطان<br />

يف الربِّيَّة،‏ إذ كان يسوع ليس فقط امللك الداوديَّ‏ - بطل إرسائيل-‏ بل بطل<br />

البرشيَّة كلِّها أيضً‏ ا.‏ البطل الذي سينترص حيث هُزِمَ‏ آدم؛ األب األوَّل للبرشيَّة.‏<br />

هل تَذكُر التجارب الثالث التي جُرِّب فيها يسوع املسيح يف الربِّيَّة؟<br />

أجل،‏ كانت هذه التجارب أشهر ثالثة إخفاقاتٍ‏ إلرسائيل،‏ غري أنَّها كانت<br />

كذلك يف صُ‏ لب تجرِبة الشيطان آلدم وحوَّاء يف جنَّة عدن.‏ الحظ صداها يف<br />

تجربته للمسيح:‏<br />

حوِّل الحجارة إىل خُبزٍ،‏ يا يسوع؛ فأنت جائعٌ.‏ لَبِّ‏ رغباتك<br />

الذاتيَّة اآلن!‏<br />

انظر إىل هذه الثمرة،‏ يا آدم؛ إنَّها حسنةُ‏ املنظر.‏ خُذها<br />

اآلن!‏<br />

87<br />

)16 تكوين .29 :5<br />

انتصار آدم األخير


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

هل يفي الله مبواعيده،‏ يا يسوع؟ أنا أقول إنَّه ال يفعل.‏<br />

ملاذا ال تَجعله يُثبت ذلك؟<br />

أحقًّا قال الله ستموتان،‏ يا آدم؟ أنا أقول إنَّكُام لن متوتا.‏<br />

لنُجرِّبِ‏ الله ونرَ.‏<br />

اركع واعبُدن،‏ يا يسوع،‏ وسأُعطيك جميع ماملك األرض.‏<br />

أطعني،‏ يا آدم.‏ اعبُدن وسأجعلُك مثل العيلِّ.‏<br />

مل تكُن معركة يسوع ضدَّ‏ الشيطان يف ذلك الوقت شخصيَّةً.‏ ومع<br />

أنَّه خاض التجربة بأن يُشابه شعبه مبا خاضوه،‏ فإنَّه قامَ‏ بأكرث مامَّ‏ فعله<br />

الشعب:‏ مُقاومة التجربة حتَّى نهاية قوَّتها،‏ فأنهكها وغَلَبها.‏ ويف خِ‏ ضمِّ‏<br />

معركة يسوع املسيح يف مواجهة عدوِّهم الفان،‏ كان يقوم مبَّا كان عليهم<br />

فعله من البداية:‏ الخضوع لله وإطاعته وإجالله نيابةً‏ عنهم،‏ كونه ملكهم<br />

وممثِّلهم وبطلهم.‏<br />

غري أنَّها مل تكُنِ‏ النهاية؛ فمع أنَّ‏ إبليس غُلب،‏ فقد كانت اللعنة ‏‘‘موتًا<br />

متوت’’‏ ما زالت كالسيف املصلَت عىل أعناق البرش.‏ ومع أنَّ‏ امللك يسوع<br />

غلب إبليس بتحمُّل تجاربه حتَّى النهاية والعيش حياة بأكملها من الربِ‏ ِّ أمام<br />

الله،‏ فإنَّ‏ العدل كان ال يزال يرصُخُ‏ بأنَّ‏ خطايا الشعب ال ميُ‏ كن تجاهُلها بكلِّ‏<br />

بساطة.‏ فالناسُ‏ مترَّدوا عىل الخالق،‏ كلٌّ‏ منهم،‏ والعدل يتطلَّبُ‏ تنفيذ ما رصَّح<br />

الله به كعقابٍ‏ لإلثم إىل التامم:‏ املوت واالنفصال عن الله والسخط اإللهيّ‏ .<br />

فام نقص عن ذلك كان سُ‏ يعرِّض صفات الله إىل املُساءلة.‏<br />

الحظ أنَّ‏ انتصار امللك يسوع عىل عدوِّ‏ شعبه اللَّدود مل يكن كافيًا<br />

88


انتصار آدم األخير<br />

لتخليصِ‏ هم من آثامِهِم.‏ ففي نهاية املطاف،‏ كان كلُّ‏ ما فعله الشيطان هو<br />

إغواءهم ليُخطئوا.‏ هم الذين اختاروا التمرُّد عىل الله مبا فعلوه.‏ ويعني<br />

هذا أنَّ‏ عاقبة املوت ما زالت مُستَحَقَّة وقامئة.‏ ويف سبيل تخليص الشعب،‏<br />

كان عىل يسوع أن يُبطل اللعنة،‏ وكان عليه أن ميتصَّ‏ عقاب املوت وسخط<br />

الله املوجَّه ضدَّ‏ الخطاة إىل نفسه بدالً‏ منهم.‏ وأن يقف كمُمثِّلهم،‏ ليس<br />

فقط يف الحياة،‏ بل أيضً‏ ا يف املوت.‏<br />

كلُّ‏ هذا يصُ‏ بُّ‏ هنا:‏ إذا ما كان للشعب أن يعيش،‏ ال بدَّ‏ لبطلهم أن ميوت.‏<br />

89


الفصل 7<br />

حمل اهلل والذبيحة<br />

من أجل اإلنسان<br />

كان يوحنَّا املعمدان يَعلَمُ‏ السببَ‏ الذي أىت املسيح ألجله،‏ وعَلِمَ‏ ما ينبغي<br />

للمسيح القيام به يف لخالصِ‏ شعبه.‏ لذا أشارَ‏ يوحنَّا إىل يسوع بينام رآهُ‏<br />

مُقبالً‏ إىل نهر األردن ليعتمدَ،‏ ورفعَ‏ صوتَه وقال شيئًا أثارَ‏ حامسَ‏ الجمع،‏<br />

وأربكه يف الوقت ذاته:‏ ‏‘‘هذا هو حملُ‏ الله الَّذي يُزيلُ‏ خَطيَّةَ‏ العالَم!’’.‏ 1<br />

كانت فكرةُ‏ حملٍ‏ يُقدَّم إىل الله ذبيحةً‏ للتَّكفري عن الخطايا مألوفةً‏ جدًّا<br />

لدى اليهود.‏ لكنْ‏ ملاذا استخدمَ‏ يوحنَّا هذا الوصفَ‏ يف اإلشارة إىل شخص؟<br />

ال بدَّ‏ أنَّ‏ كالمَه بعثَ‏ فيهم الشُّ‏ ؤم؛ فالجميع يعلَمون ما هو مصري الحمل<br />

املُقدَّم إىل الله ذبيحةً‏ للتَّكفري عن الخطايا.‏<br />

كان عُنق الحمل يُحَزُّ‏ وينزف حتَّى املوت.‏<br />

ال بدَّ‏ أن يموتَ‏ أحَدٌ‏ ما<br />

غالبًا ما يُقال إنَّ‏ نظام الذبائح اليهوديَّ‏ يعود يف جذوره إىل هروب الشعب<br />

من العبوديَّة يف مرص،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ أعمقَ‏ جذوره تعودُ‏ فعليًّا إىل ما قبل ذلك-‏<br />

91<br />

)1 يوحنَّا .29 :1


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

92<br />

إىل جنَّة عدن،‏ وال سيَّام ذلك الوقت الذي توعَّد فيه الله مبُعاقَبة آدم<br />

وحوَّاء باملوت نتيجة مترُّدهم عليه.‏ إذا ما أردْتَ‏ فهم القصد من الذبائح<br />

اليهوديَّة-‏ وفوق ذلك القصد مامَّ‏ فعله يسوع املسيح-‏ ال بدَّ‏ أن تعرفَ‏ أنَّ‏<br />

الحُكم باملوت الذي نطقَ‏ به الربُّ‏ عليهم مل يكُن عشوائيًّا.‏ مبعنى أنَّه مل<br />

يكن مُمكنًا مثالً‏ أن يُعاقبَهم بأن يجعلَهم ضفادعَ‏ إذا ما أكلوا من الشجرة،‏<br />

أو شيئًا آخر عدا ما قالَه الله بالتَّحديد.‏<br />

فالحُكم باملوت الذي أصدره الله كان مناسبًا متامًا وصحيحًا،‏ وكام قال<br />

بولس الحقًا يف العهد الجديد:‏ ‏‘‘ألنَّ‏ األجرَ‏ الذي يُدفَعُ‏ مُقابلَ‏ الخَطيَّةِ‏ هو<br />

املوتُ‏ ’’. 2 ليس من الصعب معرفة السبب.‏ يجب أن نُالحظ بدايةَ‏ األمر أنَّ‏<br />

الخطيَّة التي ارتكبَها آدم وحوَّاء مل تكُن مجرَّد خرقٍ‏ لقانونٍ‏ غري مُهمٍّ‏ سَ‏ نَّه<br />

الله،‏ بل اختاروا حينها كام سبق أن أوضَ‏ حْنا محاوَلةَ‏ التخلُّص من سُ‏ لطة<br />

الله عليهم.‏ ويف جوهر ذلك أعلَنوا استقاللَهم عن الله.‏ واملشكلة هنا هي<br />

أنَّ‏ اإلله الذي أعلَنوا استقاللهم عنه هو نفسه مَن رزقَهم الحياة حينام<br />

نفخَ‏ فيهم نسمة الحياة،‏ وأبقاهم عىل قيد الحياة من حينها.‏ لذا حينام<br />

انقطعَتْ‏ عالقتهم به وانفصَ‏ لوا عنه مُبتَعِدين،‏ انقطعت أيضً‏ ا صِ‏ لَتهم<br />

باملصدر الواحد والوحيد للحياة.‏<br />

ليس ذلك فحسب،‏ بل كان أيضً‏ ا مُناسبًا متامًا وصحيحًا أن يسخط الله<br />

عىل املتمرِّدين.‏ يُخربنا الكتاب املُقدَّس بشأن الصِّ‏ فات الكاملة لصالح الله<br />

وبره وعدله.‏ وعند وضْ‏ عِ‏ هذا يف الحسبان،‏ ال ينبغي أن نُدهَشَ‏ من رده<br />

الذي يكره الخطيَّة،‏ والتي يف جوهرها تُعدُّ‏ قبولَ‏ الرشِّ‏ ورفضَ‏ كلِّ‏ ما هو<br />

صالحٌ‏ وبارٌّ‏ وعادل.‏ دون شكّ‏ ، ليس سخطُ‏ الله وغضبه مثل غضبنا نحنُ‏ ؛ فهو<br />

)2 رومية .23 :6


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

ليس مندفِعًا وخارجًا عن السيطرة مثل غضبنا،‏ بل بالعكس متامًا،‏ فهو تصدٍّ‏<br />

مُحكَمٌ‏ ومُوجَّه نحو الخطيَّة والتزامُ‏ تدمريها.‏ لذا قال الله آلدم وامرأته إنَّهام<br />

سيموتان إذا ما أخطأا،‏ ومن ثَمَّ‏ يحيا كلُّ‏ إنسانٍ‏ اآلن تحت عقاب املوت؛<br />

فخطايانا ومُقايَضتُنا لصالح الله مُقابل الرشِّ‏ األنانِّ‏ جعلتنا مستحقِّني لغضب<br />

الله وسخطه،‏ كام جعلَتْنا ننفصل عن مصدر الحياة.‏<br />

هذا هو أصلُ‏ نظام الذبائح الخاصِّ‏ ببني إرسائيل.‏ كان الله يعلِّمُ‏<br />

شعبَه أنَّ‏ الخطيَّة بطبيعتها تتطلَّب املوتَ‏ وتستحقُّه جزاءً‏ لها.‏ غري أنَّ‏<br />

الربَّ‏ كان يريدُ‏ أنَّ‏ يعلِّم شعبَه مبدأً‏ آخر أيضً‏ ا بواسطة الذبائح-‏ مبدأً‏<br />

سيُعطيهم بصيصَ‏ رجاءٍ‏ يف وسطٍ‏ بدا يائسً‏ ا متامًا:‏ ليس عىل الخاطئ نفسِ‏ ه<br />

دفْعَ‏ غرامةِ‏ املوت!‏<br />

دون شكّ‏ ، يجب أن يدفعَها أحدٌ‏ ما؛ فعاقبة الخطيَّة ما زالت<br />

املوت،‏ غري أنَّ‏ رحمةَ‏ الله ومحبَّته جعلت من املمكن أن يُطبَّق حُكم<br />

املوت عىل بديلٍ‏ ميثِّل الخاطئَ‏ الذي يستحقُّ‏ املجازاة.‏ وإنْ‏ فكَّرتَ‏ يف<br />

األمر مليًّا،‏ سرتى توافُقَ‏ هذا بصورةٍ‏ عجيبةٍ‏ مع عدالة الله ورحمته.‏<br />

وهكذا تأخذُ‏ العدالة مجراها بأن يُدفَع أجرُ‏ الخطيَّة،‏ لكنَّ‏ الخاطئ<br />

نفسه ال ميوت بالضَّ‏ ورة.‏<br />

لرمبَّ‏ ا يكون عيد العبور ‏)أو عيد الفصح اليهوديّ‏ ) أوضَ‏ حَ‏ مثلٍ‏ عىل هذا<br />

املبدأ،‏ وهو عيدٌ‏ أُقيم لالحتفال بتَخليص الله شعبَه من العبوديَّة يف مرص.‏<br />

يصوِّر احتفال الفصح تلك الليلة التي نفَّذ الله فيها حُكامً‏ قاسيًا باملوت<br />

عىل شعب مِرص؛ إذ حذَّرَ‏ الله فِرْعَون مِرارًا وتَكرارًا يف غضون األسابيع<br />

السابقة لتلك الليلة بأنَّ‏ رفضَ‏ ه إطالقَ‏ بني إرسائيل سيجلبُ‏ املوتَ‏ عليه<br />

93


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

94<br />

وعىل شعبه مِرص.‏ كان هذا بسلسلةٍ‏ من تسعِ‏ رضباتٍ‏ مُختلفةٍ‏ أصابَتِ‏<br />

الشعب،‏ وأظهَرَ‏ فيها الله بوضوح قوَّته وسيادتَه عىل مِرص.‏ كانت هذه<br />

الضبات مواجَهةً‏ بني الله وآلهة مِرص،‏ أسفرَتْ‏ عنِ‏ انكسارهم وقَطْع الشكِّ‏<br />

باليقني أنَّ‏ الله هو وحدَه اإللهُ‏ الحقيقيُّ‏ .<br />

وصلت الضباتُ‏ إىل أوجِ‏ حِ‏ دَّتها بالضبة العارشة.‏ إليك كيف وصف<br />

الله ملوىس ما كان مُزمعًا أن يصنعَ‏ بشعبِ‏ مِرص:‏<br />

‏‘‘وقالَ‏ الله ملوىس:‏ سآيت بضَ‏ بةٍ‏ واحدةٍ‏ أُخرى عىل فِرْعَونَ‏<br />

وعَىل مِرصَ.‏ وبعدَ‏ ذلك سيُطلقُكم من هنا.‏ وحنيَ‏ يُطلقُكم،‏<br />

فإنَّه سَ‏ يَطردُكم طَردًا...وقالَ‏ موىس:‏ هَذا هو ما يَقولُه الله:‏<br />

قُرْبَ‏ مُنتَصَ‏ ف اللَّيل،‏ سأخرُجُ‏ إىل وَسَ‏ ط مِرصَ،‏ فيَموتُ‏<br />

كلُّ‏ بكرٍ‏ يف أرض مِرصَ،‏ ابتداءً‏ بِابْن فِرْعَونَ‏ الجالس عىل<br />

عَرشه،‏ حتَّى بكر الجارية الجالسة خَلفَ‏ حَجَر الرَّحَى،‏<br />

وكلِّ‏ بكرٍ‏ من الحَيوانات.‏ سيكونُ‏ هناكَ‏ نُواحٌ‏ عَظيمٌ‏ يف<br />

كلِّ‏ أرض مرصَ‏ لَم يَأتِ‏ مثلُه من قَبلُ‏ ، ولَن يأيتَ.‏ أمَّا وسَ‏ طَ‏<br />

بَني إرسائيلَ‏ ، فَلَن يَكونَ‏ هناك وال حتَّى كَلبٌ‏ ليَنبَحَ‏ وسطَ‏<br />

النَّاس أو الحَيوانات،‏ ليَعرفُوا أنَّ‏ الله ميُ‏ يِّزُ‏ بنيَ‏ املرصيِّنيَ‏<br />

واإلرسائيليِّني’’.‏ 3<br />

كانت هذه دينونةً‏ ساحقةً‏ سيُنزلها الله بهم،‏ غري أنَّ‏ وعدًا بتجنُّب<br />

شعبه منها إذا ما أطاعوه وتتبَّعوا إرشاداته.‏<br />

وما أمر الله به شعبَه كان أيضً‏ ا يبعثُ‏ عىل الرهبة؛ فقد أمرَهم يف<br />

)3 خروج .7-4 ،1 :11


الليلة التي كان مُزمعًا أن يضبَ‏ فيها كلَّ‏ بكرٍ‏ باملوت بأن يُحضِ‏ كلُّ‏<br />

بيتٍ‏ حمالً‏ صحيحًا ليس فيه عيبٌ‏ أو شائبة لذبحه عند العشيَّة.‏ وتىل<br />

ذلك إقامة العائالت عشاءً‏ من الحيوان املذبوح.‏ وأهمُّ‏ من ذلك،‏ أمرَهم<br />

الله بأخذ يشءٍ‏ من دم الحمل املذبوح ووضعه عىل قامئتَي باب البيت<br />

وعتَبَته العُليا.‏ كان هذا أساسَ‏ العملِ‏ كلِّه؛ فالله بنيَّ‏ لهم أنَّه حينام يعرب يف<br />

أرض مِرص لقَتْل كلِّ‏ بكرٍ‏ فيها ‏‘‘سيعربُ‏ ُ’’ عن البيوت التي يرى عىل أبوابها<br />

الدَّماء،‏ ولن يضبه.‏ وهكذا إنْ‏ فعلوا هذا وذبحوا الحمل واختبأوا وراءَ‏<br />

دمه،‏ سيُنقَذون.‏ 4<br />

توقَّفِ‏ اآلن وفكِّرْ‏ للحظات وجيزة يف اليهود وكيف انبهَروا بسَ‏ امعهم<br />

أنَّ‏ الله كان سيجتاز بيوتَهم وقراهُم أيضً‏ ا!‏ مل يكن األمرُ‏ كذلك خالل<br />

الضبات التسع السابقة.‏ ففيها أصابت الضفادع والبَعوض والذُّباب<br />

والجراد والربَ‏ ‏َد والظلمة والدم يف النهر والدمامل كلَّ‏ أرضَ‏ مِرص ما عدا<br />

املناطق التي سكنَها اليهود.‏ وكان الله حتَّى هذه اللحظة يحرصُ‏ عىل<br />

الفصل بينهم وبني املرصيِّني بوُضوح،‏ وما كان عليهم سوى مشاهدةٍ‏ ما<br />

يحدُث.‏ أمَّا يف تلك اللحظة فقد أخربهم الله بأنَّه ينوي االجتيازَ‏ وسط<br />

بيوتهم بضَ‏ بةِ‏ املوت،‏ وأنَّهم سيموتون كاملرصيِّني متامًا إنْ‏ مل يُصدِّقوا<br />

الله ويطيعوه.‏<br />

كانت ليلةً‏ مُرعبةً‏ حينام اجتاز الله وسط مدن أرض مِرص وقَتَل األبكار<br />

واحدًا تلو اآلخر عقابًا عىل خطايا الشعب.‏ ال بدَّ‏ أنَّ‏ األرضَ‏ امتألَت بصَ‏ يحاتِ‏<br />

املرصيِّني الذين مات أوالدهم األبكار تلك الليلة.‏ ونتساءل ما إذا صاحبَتْ‏<br />

رصخاتِ‏ املرصيِّني رصخاتُ‏ النَّدم واألىس من بني إرسائيل أيضً‏ ا،‏ من الذين<br />

95<br />

)4 خروج .13-1 :12<br />

حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

مل يؤمنوا بالله وازدَروا بكالمه.‏ ال يُطلِعُنا الكتاب املقدَّس عىل ذلك.‏<br />

هل الحظت ما كان الله يعلِّمه لشعبه يومها؟ فمن جهةٍ‏ كان هذا<br />

تذكريًا صادمًا بذنبهم هُم أيضً‏ ا.‏ فبعد كلِّ‏ املُجريات العجيبة التي حدثت<br />

أمامهم،‏ أرادَ‏ الله تذكريَهم بأنَّهم ليسوا أقلَّ‏ استحقاقًا من املرصيِّني لعقاب<br />

املوت؛ فهُم أيضً‏ ا مُذنِبون باإلثم.‏<br />

لكن من جهةٍ‏ أُخرى،‏ كان هناك درسٌ‏ آخر أيضً‏ ا.‏ فقد انطبعت يف<br />

عقولهم وقلوبهم إثرَ‏ هذا أهمِّيَّةُ‏ الذبيحة البديلة ومعناها.‏ مل يكُن ذبحُ‏<br />

الحمل عمالً‏ نظيفًا،‏ بل هو عملٌ‏ دمويّ‏ . كان األب يجثو عىل رُكبتَيه<br />

ويتناول سكِّينًا ويحزُّ‏ عنقَ‏ الحيوان،‏ فتسيل الدماء عىل األرض حتَّى يلفظَ‏<br />

الحيوان أنفاسَ‏ ه األخرية وميوت.‏ وبينام كان هذا يحدث،‏ كانت أعنيُ‏ أفراد<br />

العائلة تنتقل ال محالة من الحيوان املُحتَضَ‏ إىل ولدٍ‏ صغري عاملني أنَّ‏ هذا<br />

الحمل مات لئالَّ‏ ميوتَ‏ الفتى يشوع.‏ كان الحمل ميوت بدلَ‏ يشوع.‏ كان<br />

الله يعلِّم شعبَه بطريقةٍ‏ جادَّةٍ‏ دمويَّة بأنَّه لن-‏ بل ال ميكنُ‏ له أن-‏ ميَ‏ ‏ْسح<br />

خطاياهم ببساطة.‏ كان ال بدَّ‏ من سَ‏ فْك الدِّماء باملُقابل.‏ وال بدَّ‏ من مَوتِ‏<br />

أحَدِ‏ هم،‏ ألنَّ‏ هذا هو العقابُ‏ الذي تتطلَّبه الخطيَّة.‏<br />

ومن ثَمَّ‏ بعدَما رشَّ‏ األبُ‏ عتبةَ‏ الباب بالدَّم،‏ وحمل الفتى يشوعَ‏ بني<br />

ذراعَيه وأغلقَ‏ الباب من خلفه،‏ كانت العائلةُ‏ كلُّها تتعلَّمُ‏ درسَ‏ ذنبها<br />

واستحقاقها للموت.‏ ما كان الله ليعفي عنهم بسبب براءتهم الذاتيَّة<br />

وكأنَّهم بشكلٍ‏ أو بآخَر أقلُّ‏ استحقاقًا للموت من املرصيِّني.‏ كالَّ‏ ! كان<br />

سيعربُ‏ ُ عنهُم ألنَّ‏ آخرَ‏ ماتَ‏ بدالً‏ منهم.‏ ورَيثَام عربَ‏ الله عنهُم حامالً‏ سَ‏ يفَ‏<br />

العِقاب يف يده،‏ كانت ثِقتُهم يف دمِ‏ الحمل.‏<br />

96


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

لن يكونَ‏ هذه المرَّة حيوانٌ‏<br />

رشَّ‏ ع الله بعد ذلك نظامًا مُتكامالً‏ من الذبائح الحيوانيَّة لتعليم شعبه أنَّ‏<br />

خطاياهم الرشِّيرة بطبيعتها ميُ‏ كن وضعها عىل بديلٍ‏ ليدفعَ‏ مثنها.‏ لكنَّه رشعَ‏<br />

أيضً‏ ا بتعليمهم بأنْ‏ ليسَ‏ تِ‏ الحيواناتُ‏ فقط مَن تحمل عقابَ‏ خطاياهُم.‏<br />

أحد أبرز األمثلة عىل هذا ميكن إغفاله بسهولة،‏ لكَونه غري ملحوظ،‏<br />

غري أنَّه أحد أهمِّ‏ األفكار وأعمقها يف العهد القديم.‏ فبعد أن خرج<br />

الشعب من أرض مرص،‏ أمضوا زمنًا طويالً‏ يف التنقُّل يف الربِّيَّة ‏)وصدِّق أو<br />

ال تُصدِّق(‏ وهم يتذمَّرون بأنَّ‏ الله مل يكن يُعطيهم طعامًا وماءً‏ كافِيَني أو<br />

حتَّى جيِّدًا بصورةٍ‏ كافية.‏ ورُغمَ‏ أنَّ‏ الله وفَّر لهم ذلك مِرارًا وتَكرارًا،‏ فإنَّهم<br />

ظلُّوا يتذمَّرون ويتأفَّفون.‏ ويف األصحاح السابع عرش من سفر الخروج،‏<br />

يقصُّ‏ علينا الكتاب املقدَّس حادثةً‏ قد تبدو للوهلة األوىل مثل غَريها من<br />

املرَّات التي وفَّر فيها الله املاء بعد أن تذمَّر اليهود عليه.‏ لكنَّ‏ الحادثةَ‏<br />

كانت أهمَّ‏ من ذلك بكثريٍ؛ إذ إنَّ‏ الله كان عىل وشك أن يُعلِّم شعبَه درسً‏ ا<br />

مُذهالً‏ وغري متوقَّع.‏<br />

كان الشعب قد أىت يف ذلك اليوم إىل موضعٍ‏ اسمهُ‏ رفيديم،‏ وتذمَّروا<br />

عىل الله كام هي الحالُ‏ من قبل،‏ مُدَّعني أنَّه جاء بهم إىل الربِّيَّة ليقتُلَهم<br />

عَطَشً‏ ا.‏ غري أنَّ‏ تذمُّر الشعبِ‏ وَصَ‏ لَ‏ إىل مرحلةٍ‏ جديدة هنا يف رفيديم.‏ إذ<br />

يُخربنا الكتاب املقدَّس بوُضوحٍ‏ أنَّ‏ الشعبَ‏ أرادوا مُحاكمةَ‏ الله!‏ أجل!‏ كان<br />

موىس عىل وشك التعرُّضِ‏ للرَّجْم،‏ لكنَّه املُتحدِّثُ‏ الرسميُّ‏ عن الله.‏ مل تكن<br />

مشكلةُ‏ الشعب الحقيقيَّة مع موىس،‏ بل مع الله.‏ فهو مَن جاء بِهم إىل<br />

الربِّيَّة ليَموتوا كام ادَّعوا،‏ وها هُم اآلن يتَّهمونه بالقتل!‏<br />

97


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

يصفُ‏ لنا الكتاب املقدَّس إرشاداتِ‏ الله ملوىس يف صورةِ‏ اتِّهاماتهم<br />

ضدَّه.‏ فيأمُر موىس بأن يَجمع الشعبَ‏ ليَقِفوا أمامه وأمام جميع شيوخ<br />

الشعب.‏ كان القصد من جَمْع الشيوخ هو أنَّهم قُضاةُ‏ األُمَّةِ‏ الذين يحكمون<br />

يف القضايا التي تُطرَح أمامهم،‏ متامًا كهذه.‏ ثمَّ‏ أمرَ‏ الله موىس بإحضار<br />

عصاه.‏ والقصدُ‏ من ذلك مُهمٌّ‏ أيضً‏ ا؛ ألنَّ‏ عصا موىس ليست كأيِّ‏ عصً‏ ا.‏<br />

فهذه العصا التي رضب بها موىس نهر النيل وحوَّل مياهَه دمًا،‏ ورضب بها<br />

أيضً‏ ا الرَّمل وحوَّله بَعوضً‏ ا،‏ والعصا التي رفعها عىل البحر األحمر ليجعلَه<br />

ينهال عىل مركبات املرصيِّني الحربيَّة.‏ وبعباراتٍ‏ أُخرى،‏ كانت العصا التي<br />

استخدمها موىس إلنزال القِصاص.‏<br />

قطع املشهدُ‏ الشكَّ‏ باليقني.‏ اجتمعَ‏ الشعب وجاء الشيوخُ‏ وأُحضَت<br />

عصا القضاء.‏ وكأنَّ‏ الله كان يقولُ‏ لشعبه املتمرِّد املتذمِّر:‏ ‏‘‘أتُريدون<br />

مُحاكمة؟ حسنًا،‏ إليكم مبحاكمة’’.‏ كان أحدٌ‏ ما عىل وشك التعرُّض للحُكم،‏<br />

وكان القضاءُ‏ عىل وشك أن يُنزَل.‏<br />

لكنْ‏ عىل مَن؟ ليس عىل الله،‏ بل عىل اليهود بسبب مترُّدهم<br />

وتذمُّرهم وعدم أمانتهم بعد أن كان الله أمينًا معهم مرَّة تلو مرَّة.‏ كانت<br />

عصا القَضاء عىل وشك أن تضبَهم.‏<br />

لكنَّ‏ تحوُّالً‏ مُدهشً‏ ا يف مجرى األحداث يُغفله كثريٌ‏ من املسيحيِّني<br />

القُدامى جرى بعد ذلك.‏ انظر إىل ما يُخربنا به الكتاب املقدَّس:‏<br />

‏‘‘فرصَ‏ خَ‏ موىس إىل الله وقالَ‏ : ‏»ماذا أفعَلُ‏ بهذا الشَّ‏ عب؟<br />

إنَّهُم يَكادونَ‏ يَرجُمونَني«.‏ وقالَ‏ الله ملوىس:‏ ‏»مُرَّ‏ من أمام<br />

الشَّ‏ عب،‏ وخُذْ‏ معكَ‏ بعضَ‏ شُ‏ يوخ إرسائيلَ‏ . وخُذْ‏ بيَدكَ‏<br />

98


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

عَصاكَ‏ التي رضَ‏ ‏َبتَ‏ بها نهرَ‏ النِّيل،‏ واذهَبْ‏ . سأقفُ‏ أمامَكَ‏<br />

هناكَ‏ عىل صَ‏ خرة حوريب.‏ فحنيَ‏ تَضبُ‏ الصَّ‏ خرةَ،‏ سيَخرُجُ‏<br />

منها ماءٌ‏ ليَرشَبَ‏ الشَّ‏ عب«.‏ ففعَلَ‏ موىس ذلكَ‏ أمامَ‏ شُ‏ يوخ<br />

إرسائيل’’.‏ 5<br />

هل الحظت ما قيل يف منتصف النصِّ‏ السابق؟ هل الحظت مَن<br />

رضبَتْ‏ عصا القَضاء؟ رضبت الصخرةُ،‏ أجل.‏ لكن مَن الذي كان يقفُ‏ عىل<br />

الصَّ‏ خرة؟ الله مَن وقف عليها،‏ إذ قال:‘‘سَ‏ أقفُ‏ أمامَكَ‏ هناكَ‏ عىل صَ‏ خرة<br />

حوريب.‏ فحني تَضبُ‏ الصَّ‏ خرةَ...’’.‏ وبكلامتٍ‏ أخرى،‏ كأنَّ‏ الله يقول:‏ ‏‘‘بدلَ‏<br />

أن تضبَ‏ شعبي بعصا القضاء الذين استحقُّوا ذلك بسبب تذمُّرهم وعدم<br />

أمانتهم،‏ ارضبني أنا!’’.‏ وهذا ما فعله موىس،‏ وما النتيجة؟ تدفَّقتِ‏ الحياة<br />

بأن خرج ماءٌ‏ من الصخرة!‏<br />

كان مبدأ التعويض أو البدليَّة يُرفعُ‏ إىل مستوًى جديدٍ‏ متامًا.‏ وهذه<br />

املرَّة ليس البديلُ‏ حيوانًا،‏ بل الله نفسُ‏ ه هو مَنِ‏ اتَّخذ الحُكمَ‏ عىل نفسه<br />

واللعنة التي كان ينبغي أن تنزلَ‏ بشعبه!‏ ونتيجةَ‏ هذا كانت لهم الحياة<br />

بدلَ‏ املوت.‏<br />

الملك العظيم والعبد المتألِّم<br />

استمرَّ‏ الله عىل مدى قرون بتعليم شعبه مبدأ البدليَّة أكرث فأكرث حتَّى<br />

جاء النبيُّ‏ إشعياء ووصل النقاط بعضها ببعضٍ‏ أكرثَ‏ من غريه يف العهد<br />

القديم.‏ سبقَ‏ ونظرنا إىل نبوَّة إشَ‏ عياء بامللك اإلله الذي سيملُك عىل األرض<br />

99<br />

)5 خروج .6-4 :17


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

بعدلٍ‏ وبرٍّ‏ كاملَني،‏ ويُخلِّص شعبَه من أعدائهم.‏ 6 كان هذا مجيدًا بحدِّ‏<br />

ذاته.‏ غري أنَّ‏ النبيَّ‏ أنبأ أيضً‏ ا أنَّ‏ هذا امللك اإلله-‏ املدعوَّ‏ ‏‘‘الله القدير’’-‏<br />

سيلعبُ‏ أيضً‏ ا دَورَ‏ العبد املتألِّم الذي سيحمل خطايا شعبه ويقبَل عقابَ‏<br />

املوت الذي استَحقُّوه.‏<br />

إليك وصفَ‏ إشعياء ملا سيفعله هذا اإلله امللكُ‏ والعبد املتألِّم:‏<br />

‏‘‘لكنَّهُ‏ رفعَ‏ اعتَالالتنا،‏<br />

وحملَ‏ أمراضَ‏ نا.‏<br />

ونحنُ‏ ظَنَنَّا أنَّ‏ الله يَضبُه ويُذلُّه.‏<br />

لكنَّه جُرحَ‏ بسببِ‏ مَعاصينا،‏<br />

وسُ‏ حقَ‏ بسَ‏ بَب آثامنا.‏<br />

وَقعَت عليه عُقوبتُنا فنَعُمنا بالسَّ‏ الم.‏<br />

وشفينا بسبب جُروحه.‏<br />

كلُّنا ضَ‏ لَلنا كالغَنَم،‏<br />

وكلُّ‏ واحدٍ‏ ذَهَبَ‏ يف طَريقه.‏<br />

لكنَّ‏ الله وضعَ‏ عليه عقابَ‏ آثامنا جميعًا...‏<br />

سريَ‏ ى مثَ‏ ‏َرَ‏ مُعاناته<br />

وسريُ‏ ضيه أن يعرفَ‏ ذلك.‏<br />

ألنَّ‏ عَبدي البارَّ‏ سيُربِّرُ‏ كثريين،‏<br />

وسيحملُ‏ ذُنوبَهم’’.‏ 7<br />

)6 إشعياء .7-6 :9<br />

)7 إشعياء ،6-4 :53 .11<br />

100


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

أفهمتَ‏ ما يقولُه إشَ‏ عياء هنا؟ يقول إنَّ‏ هذا امللك العظيم سيؤسِّ‏ س<br />

مملكةَ‏ برٍّ‏ مثايلّ،‏ وسيكونُ‏ أيضً‏ ا العبد املتألِّم الذي سيأخذُ‏ قِصاص املوت<br />

عىل عاتقه وبدلَ‏ شعبه.‏ سيحمل اللعنة التي وقفت ضدَّهم،‏ ليؤهِّلَهم<br />

ليَحيَوا معه إىل األبد يف اململكة التي سيُؤسِّ‏ سها.‏<br />

كان يعلمُ‏ السببَ‏ الذي أتى ألجله<br />

تبادَرَ‏ كلُّ‏ هذا إىل ذهن يوحنَّا املعمدان حينام صاح يف ذلك اليوم قائالً‏ :<br />

‏‘‘هذا هو حمَلُ‏ الله الذي يزيلُ‏ خطيَّةَ‏ العالَم’’.‏ 8 كان عىل درايةٍ‏ أنَّ‏ املسيح<br />

هو الذبيحةُ‏ الكاملة،‏ وأنَّه سيُقدِّمُ‏ نفسَ‏ ه للموت بدلَ‏ شعبه.‏ إنَّه العبد<br />

املُتألِّم الذي أُخرب به قبل زمنٍ‏ طويل،‏ والذي سيُسحَق من أجل آثام شعبه.‏<br />

وهذا ما عنيناه حينام قُلنا إنَّ‏ يسوع مل يعتمِدْ‏ بسبب حاجَتِه إىل<br />

التَّوبة من خطاياه الشخصيَّة،‏ بل ليتمثَّل ويوحِّدَ‏ نفسه مع الخُطاة الذين<br />

أىت ليُخلِّصهم بوصفه ابنَ‏ الله،‏ والبديلَ‏ وامللكَ‏ والبطلَ‏ وعبد الربِّ‏ املتألِّم.‏<br />

هذه هي الناحية األخرية مامَّ‏ عناه الصوت السامويُّ‏ الذي قال:‏ ‏‘‘أنتَ‏ هو<br />

ابني املحبوب.‏ أنا راضٍ‏ عنكَ‏ كلَّ‏ الرِّضا’’.‏ 9 يرتدَّد عىل مسامعنا يف عبارة<br />

‏‘‘أنا راضٍ‏ عنكَ‏ كلَّ‏ الرِّضا’’‏ صدى كلامت سفر إشعياء التي قالها الربُّ‏ عن<br />

العبد املتألِّم.‏<br />

أرجو أن ميُ‏ كِّنك هذا من رؤية مدى استثنائيَّة ما حصل عىل جانب<br />

النهر يف ذلك اليوم.‏ كان يسوعُ‏ يف املعموديَّة حينام كان الصوتُ‏ السامويُّ‏<br />

يسلِّمُه هذه األدوار-‏ أو املناصب-‏ التي أرادها له الله من البداية.‏ وميكن<br />

101<br />

)8 يوحنَّا .29 :1<br />

)9 متَّى .17 :3


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

القول أيضً‏ ا إنَّ‏ هذا الصوتَ‏ السامويَّ‏ كان إعالنَ‏ الله عن تتويج ثاليثٍّ‏<br />

ليسوع:‏ تاجُ‏ السامء كَونه ابن الله،‏ وتاجُ‏ الحُكم كونه امللك املنتظر،‏ وتاجُ‏<br />

الشوك كونه العبد املتألِّم الذي سيخلِّص شعبَه باملوت عنهُم.‏<br />

ومع هذا مل يكن أيٌّ‏ مامَّ‏ سبق وذكرناه مُفاجئًا للمَسيح؛ إذ كان<br />

يعلم مُسبَّقًا القصدَ‏ من مجيئه،‏ وما كان ينبغي فعله يف سبيل خالص<br />

شعبه من عاقبة خطاياهُم،‏ وأنَّه ينبغي أن يحملَ‏ غضبَ‏ الله مكاننا.‏<br />

هذا ما عناه حينام قال إنَّه جاء ‏‘‘ليُقَدِّمَ‏ حَياتَه فديَة لتَحرير كَثريين’’‏ ، 10<br />

وما عناه حينام ناولَ‏ تالميذه الكأسَ‏ من نِتاج الكرمة يف العشاء األخري<br />

قبل صَ‏ لبه وقال لهم:‏ ‏‘‘ارشَبوا من هَذه كلُّكُم.‏ ألنَّ‏ هذا هو دمي،‏ دَمُ‏<br />

العَهد الذي يُسفَكُ‏ من أجل كثريين،‏ ملَغفرة خَطاياهم’’.‏ 11 كانت تلك<br />

كلامتٍ‏ مجازيَّةً‏ تُشريُ‏ إىل واقعٍ‏ حقيقيٍّ‏ واضح وُضوحَ‏ الشمس.‏ كان<br />

يسوع عىل وشك املوت.‏ وبعد أن التقطَ‏ ابنُ‏ الله األزيلُّ‏ وامللكُ‏ املنتظر<br />

عدَّة الحرب وانترص يف معركة شعبه الخارسة مع تجارب الشيطان،‏ كان<br />

يف تلك اللحظة مستعدًّا لدَفْع مثن خطاياهم.‏ كان العبدُ‏ املتألِّم عىل<br />

وشك أن يحملَ‏ آثامَ‏ شعبه،‏ وميوت عنهُم ليجعلَهم أبرارًا أمام الله.‏<br />

ليس ثمَّ‏ ة سبيلٌ‏ آخر<br />

تناوَلَ‏ يسوع العشاء يف الليلة السابقة ملوته يف جلسةٍ‏ أوضحَ‏ فيها جليًّا ما<br />

عناه من كلِّ‏ ما سبق.‏ كانت تلك الليلة وقتَ‏ احتفال اليهود بعيد العبور<br />

‏)أو عيد الفصح اليهوديّ‏ (، حيث يتناوَلون فيها وجبةً‏ من الطعام بعضهم<br />

)10 متَّى .28 :20<br />

)11 متَّى .28-27 :26<br />

102


مع بعض يستذكرون فيها إنقاذَ‏ الله لهم بقُدرةٍ‏ عظيمةٍ‏ من العبوديَّة يف<br />

مرص.‏ وهذا الخالص العظيم هو ما احتفل به يسوع املسيح مع تالميذه<br />

يف تلك الليلة.‏ غري أنَّ‏ أمرًا ما كان يجول يف خاطر يسوع؛ فإذ شاركَ‏ هذه<br />

الوجبة معهم كان جليًّا بأنَّ‏ ما عىل وشك الحدوث هو خالصٌ‏ أعظم-‏<br />

خالصٌ‏ سيُنقذ شعبَ‏ الله ليس فقط من عبوديَّةٍ‏ برشيَّة،‏ بل عبوديَّتهم<br />

للخطيَّة واملوت واالنفصال عن الله.‏ ما كان عىل وشك الحدوث هو فعلُ‏<br />

محبَّةٍ‏ أعظمُ‏ من الخروج من مرص.‏ وإليك ما قالَه املسيح يف العشاء األخري:‏<br />

‏‘‘وبينَام كانوا يَأكُلونَ‏ ، أخَذَ‏ خُبزًا وبارَكَ‏ الله،‏ وقسَّ‏ مَه<br />

وأعطَى التَّالميذَ‏ وقالَ‏ : ‏»خُذُوا كُلوا،‏ فهَذا هو جَسَ‏ دي«.‏<br />

ثمَّ‏ أخَذَ‏ كأسَ‏ نَبيذٍ‏ ، وشكرَ،‏ وأعطاها لهم وقالَ‏ : ‏»ارشَبوا<br />

من هَذه كلُّكُم.‏ ألنَّ‏ هَذا هو دَمي،‏ دمُ‏ العَهد الذي يُسفَكُ‏<br />

من أجل كثريينَ‏ ، ملغفرةِ‏ خَطاياهم«’’.‏ 12<br />

آلَتْ‏ محبَّةُ‏ يسوع لتالميذه إىل هذا:‏ سفكِ‏ دمه طَوعًا من أجل<br />

خالصهم.‏ وسيكونُ‏ مَوتُه سببَ‏ حُرِّيَّتهم،‏ وغُفران خطاياهم جرَّاء<br />

تقاعصهم ومترُّدهم عىل الله.‏<br />

ما سنَستعرضُ‏ ه اآلن من الكتاب املقدَّس هو أحد املشاهد األكرث هَيبةً‏<br />

وإجالالً‏ ؛ ألنَّه حميمٌ‏ وأليمٌ‏ جدًّا.‏ أخذَ‏ يسوعُ‏ تالميذَه بعد العشاء إىل بُستانٍ‏<br />

يُدعى جَثسَ‏ يامن،‏ وذهب ليصيلِّ‏ َ هناك عاملًا ما كان بانتظاره.‏ كانت الصالة<br />

التي رفعَها يسوعُ‏ هناك يف البُستان صالةَ‏ أملٍ‏ وحُزن،‏ غري أنَّها أطلَعَتْنا<br />

مجدَّدًا عىل محبَّة املسيح التي دفعَتْه ليَحتملَ‏ آالمَ‏ الصليب:‏ ‏‘‘وسجدَ‏<br />

103<br />

)12 متَّى .28-26 :26<br />

حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

وَوَجهُه إىل األرض وبدأ يُصيلِّ‏ : ‏»يا أيب،‏ إنْ‏ كانَ‏ مُمكنًا،‏ فَلتَتَجاوَزن هذه<br />

الكَأسُ‏ . لَكن لَيسَ‏ كام أريدُ‏ أنا،‏ بل كام تُريد«’’.‏ 13<br />

كان ميُ‏ كنُ‏ أن تتجاوَزَ‏ الكأس-‏ كأس غضب الله التي كان يسوع عىل<br />

وشك أن يرشبَها-‏ عن يسوع.‏ كان ميكنُ‏ له أن يرفضَ‏ ها وال يرشبَها،‏ وذلك<br />

بأن يرتكنا،‏ نحن الخطاةَ،‏ نقع تحت العقاب املوت والغضب اإللهيِّ‏ إىل األبد.‏<br />

وحينام أرادَ‏ أحَدٌ‏ من تالميذه الدِّفاع عنه وإبعاد الذين جاءوا ليصلبوه،‏<br />

وبَّخه يسوع وقال إنَّه ليس مُحتاجًا إىل مَن يدافع عنه،‏ إذ ميكنُه أن يطلبَ‏<br />

اثنتَي عرشةَ‏ فرقة‎14ً‎ من املالئكة.‏ اثنا عرش ألفًا من املالئكة الحارضة يف أيَّة<br />

لحظةٍ‏ للوقوف يف وجه الجنود،‏ وإحضار يسوع إىل السامء يف غضون همسةٍ‏<br />

من شفتَيه.‏ وهناك سيَحظى باملجد وتسبيح ألوفٍ‏ وربوات من املالئكة التي<br />

ستُكرِّمه إىل األبد ألنَّه ابن الله كاملُ‏ العدل والربّ.‏<br />

غري أنَّه مل يُنادهم،‏ بل تركهم واقفني عىل عتبة السامء حائرين مامَّ‏<br />

يحدث؛ ألنَّ‏ يسوع واآلب السامويَّ‏ عزما عىل إنقاذ شعبه اآلثم.‏ ويف سبيل<br />

تحقيق ذلك كان ال بدَّ‏ أن يرشبَ‏ يسوعُ‏ كأس غضب الله.‏ أمَّا يسوع فكان<br />

يف البستان وكأنَّه يسأل قائالً‏ : ‏‘‘هل مثَّة سبيل آخر إلنقاذهم،‏ يا أيب؟ هل<br />

ميكن إنقاذ هؤالء دون أن أقايسَ‏ عقابَ‏ املوت واالنفصال عنك؟’’.‏ والردُّ‏<br />

كان صمتًا يرصخ:‏ ‏‘‘ال!‏ ليس مثَّة سبيل آخر’’.‏<br />

ملاذا؟ ألنَّه ال ميكن أن يكنسَ‏ الله الخطيئة ويخفيها تحت البساط.‏ ال<br />

ميكن أن يتجاهلَها أو يتظاهَرَ‏ بأنَّها مل تحدُثْ‏ قَطّ‏ ، أو يغفرَها ببساطة ودون<br />

حساب.‏ ففوق كلِّ‏ يشءٍ،‏ وكام يطلعنا ناظمُ‏ املزمور:‏ ‏‘‘العَدلُ‏ واإلنصافُ‏<br />

)13 متَّى .39 :26<br />

14( كانت تتألَّف فرقة الجيش آنذاك من ألفِ‏ جُنديّ‏ ‏)املرتجم(.‏<br />

104


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

يَسندان عَرشَ‏ ه’’.‏ 15 لذا اختار يسوع طَوعًا أن يرشب كأس غضب الله،‏ ألنَّه<br />

أحبَّنا وأراد أن ينقذنا.‏ أجل!‏ وألنَّه أيضً‏ ا أحبَّ‏ الله اآلب ومل يُرد أن يتالىش<br />

مجده يف األثناء.‏ وهكذا سنخلُص نحن وسيتمجَّدُ‏ الله.‏<br />

رشيطةَ‏ أن ميوتَ‏ امللك يسوع.‏<br />

بينما تعلَّق هناك ليموت<br />

سيبقى حُكم الصلب الذي مارسه الرومان أكرث طرق اإلعدام بشاعةً‏ وإذالالً‏<br />

شهدَها العامل يومًا.‏ كان فظيعًا حتَّى إنَّ‏ أفرادَ‏ الطبقة الربجوازيَّة واملتحضِّ‏ ة<br />

يف املجتمعات الرومانيَّة واليونانيَّة مل يتجرَّأوا عىل لفظ كلمة ‏‘‘الصليب’’‏ يف<br />

املجالس املحرتمة.‏ كانت هذه كلمةً‏ بغيضةً‏ تُشري إىل أحقر أساليب املوت<br />

وأبغضها.‏<br />

مل يكن الصَّ‏ لبُ‏ يف العامل الرومانِّ‏ حَدَثًا رسِّيًّا،‏ بل كان علنيًّا مبارشًا<br />

بصورةٍ‏ مُؤملة.‏ والقصد منه هو إخضاع الجموع للسُّ‏ لطات بالتَّخويف.‏<br />

فقد حرصَ‏ الرومان عىل نصب الصُّ‏ لبان التي تحملُ‏ أجسادَ‏ املحتَضَ‏ ين<br />

الشاحبة واملشوَّهة-‏ أو حتَّى أجساد املوىت العَفِنة-‏ بانتظامٍ‏ عىل جوانب<br />

الطرق املؤديَّة إىل املُدن.‏ بل حدَّدوا أوقاتًا مُعيَّنة للصَّ‏ لب تتوافق مع<br />

األعياد الدينيَّة واملدنيَّة ليشهدَ‏ أكرب عددٍ‏ من الناس الرُّعبَ‏ الحاصل.‏ كان<br />

الصلب عقابًا منترشًا يف أرجاء اإلمرباطوريَّة بأكملها،‏ ويستهدفُ‏ آالفًا من<br />

القتلة واللصوص والخَوَنة،‏ وال سيَّام العبيد،‏ ليصلبهم بقسوةٍ‏ عىل مرأًى<br />

من الجميع.‏ كان رُعب الصلب ال مفرَّ‏ منه يف الحياة اليوميَّة تحت السلطة<br />

الرومانيَّة التي قَصَ‏ دت ذلك متامًا.‏<br />

105<br />

)15 مزمور .2 :97 ،14 :89


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

ورُغمَ‏ أعداد عمليَّات الصلب وتكرارها،‏ فاألمرُ‏ املفاجئ هو نُدرة<br />

السجالَّ‏ ت التي توثقِّها.‏ والسبب مرَّةً‏ أُخرى هو نُفور الجميع من التحدُّث<br />

بشأنها.‏ وملَ‏ ال؟ فالصليب كان فرصةً‏ للمُعذِّبني أَباحَتها الحكومة الرومانيَّة<br />

بل شجَّعتها أيضً‏ ا،‏ ليامرسوا فيها أرشسَ‏ وأقىس رضباتٍ‏ يف مُخيَّلتهم،‏ مامَّ‏<br />

يبنيِّ‏ ُ ملا كانت أغلبُ‏ السجالَّ‏ ت التي تتحدَّث بذلك قصرية،‏ والكتَّاب عادةً‏<br />

ما ينوِّهون إىل سوء ما حصل بدل أن يُعطوا أيَّ‏ تفصيلٍ‏ عنه.‏ وكأنَّهم<br />

يقولون:‏ ‏‘‘أنت ال تُريد أن تَعلم’’.‏<br />

جسدٌ‏ ممزَّقٌ‏ عىل خشبة،‏ ومسامريُ‏ حديديَّة اخرتقَتْ‏ ما بني العظام<br />

واألعصاب التالفة،‏ ومفاصلُ‏ مخلوعة إثر ثقل الجسد شبه امليت،‏ وذلٌّ‏ عىل<br />

مرأًى من العائلة واألصدقاء والعامل أجمَع.‏ هذا هو املوت عىل الصليب.‏ أو<br />

ما دعاه الرومان ‏‘‘بالعمود الشائن’’‏ و‘‘الخشبة القاحلة’’‏ وبلغتهم ‏‘‘ماكسيام<br />

ماال كروكس’’‏ crux) .(maxima mala ويلفظُه الرومان باشمئزازٍ‏ قائلني:‏<br />

‏‘‘ستاوروس’’‏ .(stauros) ليس من العجب أنَّ‏ أحدًا مل يرغب يف التحدُّث<br />

بشأنه،‏ واآلباء واألمَّهات غطُّوا أعنيُ‏ أطفالهم عن مشاهدته.‏ كان الستاوروس<br />

مثريًا لالشمئزاز،‏ وكذلك الذي مات عليه كان مُجرمًا كريهًا ال فائدة منه سوى<br />

التعلُّق هناك،‏ ليكونَ‏ تحذيرًا باليًا وعَفِنًا لكلِّ‏ مَن يسريُ‏ عىل خُطاه.‏<br />

هكذا مات يسوع.‏<br />

غري أنَّ‏ صَ‏ لبَه كان مُختلفًا عامَّ‏ سبق وشاهدَتْه أعنيُ‏ الناس.‏ كان مشهدُ‏<br />

الصلب هذا ينبئُ‏ بأنَّ‏ الرجُل املعلَّق عىل هذا الصليب كان استثنائيًّا.‏ أمرٌ‏<br />

غري اعتياديٍّ‏ كان يحصل يف تلك األثناء.‏<br />

يف بادئ األمر،‏ كانت ترصُّفات يسوع وأقواله بينام كان عىل الصليب<br />

106


غري مسبوقة.‏ فقد كان أغلب املُجرمني الذين يصلبهم الرومان ميُ‏ ضون<br />

ساعاتهم األخرية يرجون الرحمة أو يشتمون الجنود واملتفرِّجني من<br />

حولهم أو يئنُّون متألِّمني،‏ وهذا عىل خالف يسوع.‏ فبينامَّ‏ كان يسوع<br />

عىل الصليب،‏ احتمل استهزاءَ‏ قادة اليهود به،‏ وتهكُّم الرجال الذين صُ‏ لبوا<br />

إىل جانبه،‏ ونظرات الجنود الرومان الباردة واملجرَّدة.‏ بل أبدى فوق هذا<br />

املحبَّة للَّذين صَ‏ لَبوه.‏ وحينام عَلم أحدُ‏ الرجال املصلوبني إىل جانبه مَن<br />

يكون وآمن به،‏ قال له يسوع:‏ ‏‘‘أقولُ‏ الحقَّ‏ لَكَ‏ ، اليَومَ‏ ستَكونُ‏ مَعي يف<br />

الفِرْدَوس’’.‏ 16 وبينام اقرتع الجنود أسفل الصليب عىل لباسه،‏ رفعَ‏ عَينَيه<br />

إىل السامء وصىلَّ‏ : ‏‘‘يا أيب،‏ سامحهُم ألنَّهُم ال يَدرُونَ‏ ما يَفعَلونَ’’.‏ 17 إنَّ‏ هذا<br />

أمرٌ‏ مثريٌ‏ للدَّهشة!‏ فبينام كان يسوع مصلوبًا مل تبطُل محبَّته وال اهتاممه<br />

بخالصِ‏ مَن حوله وإعطائهم رجاء.‏<br />

كام احتمل يسوع السخرية التي مل تتوقَّف،‏ والتي بدأها الرومان<br />

بعدما جلدوه؛ إذ ألبسوه رداءً‏ أرجوانيًّا،‏ ووضعوا يف يده عصً‏ ا لتبدو<br />

كصَ‏ ولجان،‏ وصنعوا تاجًا من الشوك وغرزوه يف رأسه.‏ ثمَّ‏ انحنوا له وهم<br />

يضحَكون قائلني:‏ ‏‘‘يعيشُ‏ مَلكُ‏ اليَهود!’’.‏ كان القصد من إهانة يسوع<br />

هو إهانةَ‏ الشعب اليهوديِّ‏ كلِّه معه،‏ ومع هذا أطلق الشعبُ‏ اليهوديُّ‏<br />

صَ‏ يحاتِ‏ االستهزاء نحو السيِّد املسيح متامًا كالجنود الرومان بينام تعلَّق<br />

هو عىل الصليب.‏ وقال أحدهم:‏ ‏‘‘إنْ‏ كُنتَ‏ ابنَ‏ الله،‏ فَخلِّص نَفسَ‏ كَ‏ ،<br />

وانزل عن الصَّ‏ ليب!’’.‏ وصاح آخر قائالً‏ : ‏‘‘خلَّصَ‏ غَريه،‏ لكنَّه ال يَستطيعُ‏<br />

أن يُخلِّصَ‏ نَفسَ‏ ه!’’.‏<br />

107<br />

)16 لوقا .43 :23<br />

)17 لوقا .34 :23<br />

حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

وإذِ‏ انهالَتْ‏ الصَّ‏ يحات عىل يسوعَ،‏ مل يَقُل كلمةً‏ يف املُقابل،‏ عاملًا أنَّ‏ بعضً‏ ا<br />

مامَّ‏ قالوه مُستهزئني كانَتْ‏ فيه أوصافٌ‏ صحيحةٌ‏ مل يقصِ‏ دوها.‏ لكنَّه احتمل.‏ 18<br />

ثمَّ‏ خيَّمت الظلمة عىل املكان.‏ إذ يُخربنا كُتَّابُ‏ األناجيل بأنَّ‏ ظلمةً‏<br />

حالكةً‏ لفَّتْ‏ أورشليم من الساعة السادسة حتَّى التاسعة،‏ أي ما بني<br />

الظَّهرية والساعة الثالثة بعد الظُّهر بالتَّوقيت الحايلّ.‏ كثريًا ما حاول<br />

املفرسِّ‏ ون جاهِدين تفسريَ‏ تلك الظاهرة:‏ لرمبَّ‏ ا كان كسوفًا،‏ أو عاصفة<br />

رمليَّة،‏ أو نشاطًا بُركانيًّا.‏ غري أنَّ‏ املتفرِّجني أدركوا فورًا أنَّه عملٌ‏ من الله.‏<br />

فيقول لوقا ببساطة:‏ ‏‘‘فلَم تُرسلِ‏ الشَّ‏ مسُ‏ ضَ‏ وءَها طَوالَ‏ ذَلكَ‏ الوَقت’’.‏ 19<br />

ويف الحقيقة،‏ كانت الظلمةُ‏ التي لفَّت املنطقة إشارةً‏ أكيدة إىل ما<br />

كان يحدُث عىل الصليب بينام لفظَ‏ يسوع أنفاسَ‏ ه األخرية.‏ إذ يصوِّرُ‏<br />

الكتاب املقدَّس الظلمةَ‏ مرَّة تلو املرَّة إشارةً‏ إىل دينونة الله.‏ كأنَّها ظُلمة<br />

املوت والقرب.‏ وهناك عىل الجُلجُثة حلَّتْ‏ ظُلمةُ‏ الدينونة عىل العبد املتألِّم<br />

يسوعَ‏ ابنِ‏ الله.‏<br />

وملَّا ارتفعت الظُّلمة،‏ يُخربنا البشري متَّى بأنَّ‏ يسوع رصخ عاليًا:‏<br />

‏‘‘إييل،‏ إييل،‏ لَام شَ‏ بَقتَني؟’’،‏ وهي لغةٌ‏ أراميَّة تعني:‏ ‏‘‘إلَهي،‏ إلَهي،‏ ملاذا<br />

تَرَكتَني؟’’.‏ 20 كان هذا اقتباسً‏ ا من املزمور ، 22 الذي هو أُنشودةٌ‏ تألَّم فيها<br />

امللك داوُد مجازيًّا بدلَ‏ اليهود.‏ فام الذي قصده يسوع بذلك؟ قصدَ‏ أن<br />

يبنيِّ‏ َ أنَّه كان يف وسط ظلمة العقاب تلك ميُ‏ ثِّلُ‏ شعبَه بأخذه القِصاص الذي<br />

استحقُّوه-‏ قصاصَ‏ الرتك من الله واالنفصال والتخيلِّ‏ والنَّبذ.‏ ما حدث<br />

)18 متَّى .42 ،40 ،29 :27<br />

)19 لوقا .45 :23<br />

)20 متَّى .46 :27<br />

108


حمل اهلل والذبيحة من أجل اإلنسان<br />

هناك عىل الصليب كان أن وُضِ‏ عَتْ‏ كلُّ‏ خطايا شعب الله عىل يسوع<br />

وموته إثرَ‏ ذلك.‏ بدالً‏ منهُم،‏ فكان بطلهم،‏ وممثِّلهم وملكهُم.‏<br />

وهكذا طُبِّق الحكمُ‏ املقيض قدميًا جدًّا يف جنَّة عدن.‏ كُرست اللعنة.‏<br />

نُبذ يسوع ابن الله من اآلب السامويِّ‏ من أجل خطايا شعبه،‏ وبعد أن<br />

رصخَ‏ قائالً‏ : ‏‘‘قد تمَّ’’،‏ أسلمَ‏ الروحَ‏ ومات.‏<br />

وما حصل بعد ذلك يُثري العجب.‏ يقول لنا متَّى إنَّ‏ ستارةَ‏ الهيكل-‏<br />

وهي ستارةٌ‏ يبلغُ‏ ارتفاعُها نحو مثانية عرش مرتًا،‏ فَصلَت الناس عن قُدس<br />

أقداس الهيكل حيث كان الله حارضًا-‏ متزَّقت من املنتصف من أعىل إىل<br />

أسفل.‏ 21 وبهذا بنيَّ‏ الله للبرشيَّة بأنَّ‏ مَنْفاهُم الطويلَ‏ عن محضه وصل<br />

إىل نهايته.‏ بعد آالف السنني من اليوم الذي نظر آدم وحوَّاء إىل الوراء<br />

نادِمَني يبكيان عىل طردهام من جنَّة عدن،‏ عاد البرش مُرحَّبًا بهم مرَّةً‏<br />

أُخرى للدُّخول يف قُدس األقداس،‏ إىل محض الله.‏<br />

أتمَّ‏ العبد املتألِّم وملك املُلوك وبطل البرشيَّة عمله.‏ فبحياته أنجزَ‏ كلَّ‏<br />

عملٍ‏ بارٍّ‏ مطلوب،‏ وبدمه دفع العقاب الذي استحقَّه الشعب لخطاياهُم.‏<br />

قلبَ‏ انتصارَ‏ الشيطان،‏ وظفرَ‏ بالخالص إىل األبد!‏<br />

لكنَّه كان راقدًا يف قرب حتَّى تلك اللحظة.‏<br />

109<br />

)21 متَّى .51 :27


الفصل 8<br />

الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

كان املُجرمان املصلوبان إىل جانبَي يسوع ال يزاالن حيَّني،‏ والوقت كان<br />

يلوح نحو مساء يوم الجمعة.‏ ولو أنَّهُام كانا يف مدينةٍ‏ أُخرى لرُمبَّ‏ ا<br />

تركَهُام الرومان مُعلَّقَني عىل الصليب طَوال الليل،‏ أو ناوَلوهام فُتاتًا<br />

من الطعام ورشفة ماءٍ‏ ليَبقَيا أحياءً‏ ويتألَّام بضعة أيَّام أُخرى.‏ غري<br />

أنَّ‏ الرومان قرَّروا هذه املرَّة عدم القيام بذلك يف أورشليم.‏ ورُغمَ‏ أنَّ‏<br />

الرومان كانوا يُطبِقون عىل أعناق الشعوب التي احتلُّوها،‏ فإنَّهُم كانوا<br />

يُبدون شيئًا من االحرتام للشعائر الدينيَّة لهذه الشعوب.‏ وكانت هذه<br />

هي حالهم مع اليهود؛ فغروب الشمس يومها كان يعني بداية سبتِ‏<br />

العيد،‏ وهو يومُ‏ عبادةٍ‏ وراحة لليهود ينتهي وقت غروب شمس اليوم<br />

التايل،‏ وحينام التمس قادة اليهود الحاكِم ليترصَّفَ‏ حِ‏ يال األجساد<br />

املعلَّقة عىل الصُّ‏ لبان لئالَّ‏ تبقى كذلك يف السبت،‏ وافقَ‏ عىل طلبهم.‏<br />

لكنَّ‏ هذا عنى أنَّه ينبغي أن ميوتَ‏ الرجال الثالثة املعلَّقون حاالً‏ ؛<br />

لذا أُعطي الجنودُ‏ األمرَ‏ بتنفيذ ما سُ‏ مِّي بالكروريفراغيوم .(Crurifragium)<br />

يعني هذا أنَّ‏ أحدَ‏ الجنود جاءَ‏ بعصا رُمحِ‏ ه ورضبَ‏ ساقَيْ‏ أحد اللِّصني<br />

وهشَّ‏ مَهُام.‏ حتامً‏ رصخ الرجلُ‏ بأملٍ‏ شديد،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ فِعلَ‏ الرحمة القاسية<br />

111


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

هذا،‏ بحسب ما اعتقده الرومان،‏ كان يعني نهاية املعاناة برسعةٍ‏ أكرب؛<br />

فالرجُل ال يقدر اآلن أن يرفع نفسه ليلتقطَ‏ أنفاسَ‏ ه،‏ وسيَموتُ‏ يف غضون<br />

بضع دقائق.‏ وهذا ما حصل مع الرجُل اآلخر.‏ أمَّا يسوع فحينام جاءوه<br />

بالرُّمح أدركوا أنَّه مات.‏ أدهشَ‏ هم هذا؛ ألنَّ‏ املصلوبني ال ميوتون غالبًا بهذه<br />

الرسُّ‏ عة.‏ وللتحقُّق،‏ رفعَ‏ أحد الجنود رمحه وغرزَه عميقًا يف جنبِ‏ يسوع.‏<br />

وملَّا سحبَ‏ الرُّمح سالَ‏ من الجُرحِ‏ دمٌ‏ وماءٌ‏ منفصلَني؛ وكان هذا عالمةً‏<br />

حتميَّةً‏ عىل موته.‏<br />

كان بعضُ‏ تالميذ يسوع مع مريم أمِّه حارضين يف الجُلجُثة هناك<br />

يشاهدون ما حدث.‏ شاهَدوا الجنودَ‏ يدقُّون املسامري يف مِعصمَي يسوع<br />

عىل الصليب،‏ وقضيبًا حديديًّا آخرَ‏ يف قدمَيه.‏ ثمَّ‏ شاهدوا الصليب يُرفَعُ‏<br />

عاليًا يف مكانه،‏ والظلمةُ‏ تحجُبُ‏ الشمسَ‏ عند الظَّهرية.‏ وسمعوا يسوع<br />

أيضً‏ ا يرصُخُ‏ متألِّامً‏ بينام اختربَ‏ رفْضَ‏ اآلب له،‏ وما قاله مُعلِنًا نهاية العَمَل.‏<br />

ورأوه أخريًا يُرخي جسده إىل األمام وميوت.‏ فأدركوا حينها أنَّه ينبغي أن<br />

يُنزلوا جسده؛ فالرُّومان لن يفعَلوا هذا لهم.‏<br />

وكان هناك رجُلٌ‏ ثريٌّ‏ اسمُهُ‏ يوسف الراميّ‏ ، أحدُ‏ أتباعِ‏ املسيح،‏ قد<br />

أبقى إميانَه باملسيح مخفيًّا حتَّى باح به يف تلك اللحظة لسببٍ‏ ما.‏ فذهبَ‏<br />

إىل الحاكِم بيالطُس واستأذنه أن يترصَّفَ‏ بجسد يسوع؛ فقد كان يوسف<br />

ميلُكُ‏ قربًا قُطِ‏ عَ‏ يف الصَّ‏ خرِ‏ حديثًا يف بستانٍ‏ مُجاور،‏ أراد أن يضعَ‏ يسوعَ‏<br />

فيه.‏ وبعد أن أُذِنَ‏ لهم بذلك،‏ رشعَ‏ يوسُ‏ فُ‏ وبعضٌ‏ من تالميذ يسوع<br />

بعملٍ‏ غريَ‏ سارّ:‏ تجهيز الجسد للدَّفن.‏ أُنزِل الصليبُ‏ ، وانتُزعت املسامري<br />

الحديديَّة من يَدَيْ‏ يسوع وقدمَيه،‏ وأُزيلَ‏ تاجُ‏ الشَّ‏ وك املوضوع عىل رأسه.‏<br />

ثمَّ‏ لُفَّ‏ جسدُه باألكفان ووُضع بينها خليطٌ‏ من األطياب والزيوت يَزِنُ‏<br />

112


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

نحو خمسةٍ‏ وثالثني كِيلوغرامًا،‏ بحسب ما يُخربنا به أحد الكُتَّاب.‏ 1<br />

غري أنَّهُم مل يستطيعوا إنهاءَ‏ العمل يف الوقت املناسب؛ ألنَّ‏ الشمسَ‏<br />

كانت تغرُب.‏ فاضطُرُّوا ألن يَدَعوا إكامل عادات الدفن إىل صباح يوم<br />

األحد بعد انتهاء السبت.‏ وحتَّى ذلك الحني لفُّوا جسد يسوع باألكفان<br />

وحملوه إىل القرب ووضعوه فيه.‏ بعدها،‏ دَحرَجوا حجرًا كبريًا ليُغلِقوا<br />

املدخلَ‏ وذَهَبوا إىل منازلهم.‏<br />

لطاملا تساءَلتُ‏ عامَّ‏ شَ‏ عَرَ‏ به هؤالء الذين كرَّسوا السنوات الثالث<br />

السابقة من حياتهم التِّباع يسوع يف يوم السبتِ‏ ذاك.‏ ال بدَّ‏ أنَّ‏<br />

أحداث األيَّام القليلة املاضية جالَتْ‏ يف أذهانهم مُتسائلني عن الوعود<br />

واملعجزات والنبوَّات والترصيحات التي وصلَتِ‏ اآلن إىل نهايتها.‏ حتامً‏<br />

كانت لديهم أسئلةٌ‏ كثرية.‏ لكن مهام كانت تلك األسئلة،‏ فالجيلُّ‏ يف األمر<br />

هو أنَّ‏ يسوع ميِّتٌ‏ ، متامًا كأيِّ‏ شخصٍ‏ آخر.‏ كان الرومان قد جعلوا منه<br />

أيضً‏ ا عربةً‏ ملن يعتَربِ‏ ، وتخلَّصَ‏ القادةُ‏ اليهود من مشكلةٍ‏ أُخرى.‏ أمَّا رجاءُ‏<br />

هؤالء الذي ألقوه بالتَّامم عىل يسوع آمِلني أنَّه املسيحُ‏ املنتظَر ابن الله<br />

الحيِّ‏ ، فقد مات معه هناك عىل الصليب.‏<br />

لذا أتساءل عامَّ‏ كانت عليه حالُ‏ ذلك السبت.‏ يُخربنا اإلنجيل بأنَّ‏<br />

التالميذ تشتَّتوا بعد أن أُلقي القبضُ‏ عىل يسوع،‏ ويبدو أنَّهم كانوا<br />

مُختَبِئني.‏ ال نعلمُ‏ سِ‏ وى أنَّ‏ عددًا قليالً‏ منهم كان حارضِ‏ ‏ًا لحظة الصَّ‏ لب.‏<br />

وبالفعل كان يحقُّ‏ لهم أن يقلقوا من مُطاردة السُّ‏ لطات لهم؛ ألنَّهم أتباعُ‏<br />

ذلك ‏‘‘املسيح الكاذب’’‏ ليقتلوهم مِثلَه.‏ لذا دفعهُم الجنبُ‏ لالختباء يف<br />

113<br />

)1 يوحنَّا .42-38 :19


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

منازلهم،‏ أو حتَّى منازل أصدقائهم،‏ فرارًا من سخط الرومان.‏ ورمبَّ‏ ا راحوا<br />

ينوحون أيضً‏ ا.‏ فام الذي يسعُك فعله سوى هذا بعد أن صارَ‏ كلُّ‏ ما رجوتَه<br />

وهامً‏ ، أو أمنيةً‏ اضمحلَّتْ‏ وتالشَ‏ ت؟<br />

أمَّا يسوع ‏‘‘ابن الله’’‏ و‘‘املسيح’’‏ و‘‘ملك إرسائيل’’‏ و‘‘وارِثُ‏ داوُد’’‏<br />

و‘‘آدم األخري’’‏ و‘‘العبدُ‏ املتألِّم’’‏ ...<br />

كانَ‏ وَهامً‏ .<br />

والحقيقة املرَّة هي أنَّ‏ :<br />

يسوع كانَ‏ مُجرَّد نجارٍ.‏<br />

من مدينة النارصة.‏<br />

كان صاحبَهُم.‏<br />

لكنَّهُ‏ اآلن ميت.‏<br />

وال بدَّ‏ أنَّ‏ هذا ما شعرتْ‏ به أيضً‏ ا مريمُ‏ والنساء األُخريات يومَ‏ األحد<br />

بينام كنَّ‏ ذاهباتٍ‏ إىل قرب يسوع.‏ مل يذهنبْ‏ َ لينظُرنَ‏ إذا ما حَفِظَ‏ يسوع<br />

وعدَه الجسور بالقيامة من املوت.‏ فحتَّى تلك اللحظة،‏ مل يتذكَّرنَ‏ حتَّى<br />

أنَّه قطع وعدًا كهذا،‏ بل ذهنبْ‏ َ الستِكامل عاداتِ‏ التَّكفني التي مل يتسنَّ‏<br />

إمتامها ملَّا غابَتِ‏ الشمسُ‏ يوم الجُمعة.‏ وملَّا أتَتِ‏ الفُرصة،‏ أرسَعْنَ‏ إىل قرب<br />

جسدِ‏ ذلك الذي صُ‏ لب قبلَ‏ يومَني.‏<br />

ورغم أنَّهنَّ‏ توقَّعْنَ‏ صباحًا حزينًا ومغمومًا،‏ فإنَّ‏ شيئًا من ذلك مل<br />

يتحقَّق؛ فام رأَينَه لحظة وصولِهِنَّ‏ إىل القرب صعقهُنَّ‏ بالدَّهشة،‏ بل غريَّ‏ َ<br />

تاريخَ‏ العامل كُلِّه.‏ وإليك ما قاله البشري مَرقُس عن ذلك:‏<br />

114


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

‏‘‘ولَامَّ‏ مرَّ‏ السَّ‏ بتُ‏ ، اشرتَ‏ ‏َت مَريَمُ‏ املجدليَّةُ‏ ومَريَمُ‏ أمُّ‏ يَعقوبَ‏<br />

وسالومَةُ‏ طُيوبًا ليَذهَنبَ‏ ويَدهَنَّ‏ جَسَ‏ دَ‏ يَسوعَ.‏ وباكرًا جدًّا<br />

يف أوَّل األُسبوع،‏ ذَهَنبَ‏ إىل القَرب مع رشُ‏ وق الشَّ‏ مس.‏ وكنَّ‏<br />

يَتَساءَلنَ‏ : ‏»مَن سَ‏ يحَرِّكُ‏ لَنا الحَجَرَ‏ عن مَدخَل القَرب؟«.‏<br />

وذَلكَ‏ ألنَّ‏ الحَجَرَ‏ كانَ‏ كَبريًا جدًّا.‏ ثمَّ‏ نَظَرنَ‏ ، وإذا بالحَجَر<br />

قد دُحرجَ‏ عَن مَدخَل القَرب.‏ فَدَخَلنَ‏ القَربَ،‏ فَرَأينَ‏ شابًّا<br />

يَجلسُ‏ عىل الجانب األميَن،‏ البسً‏ ا ثَوبًا أبيَضَ‏ ، فَفَزعنَ‏ . فَقالَ‏<br />

لهنَّ‏ : ‏»ال تَفزَعنَ‏ ، أننتُ‏ َّ تَبحَنثَ‏ عن يَسوعَ‏ النارصيَّ‏ الذي كانَ‏<br />

مَصلوبًا.‏ لقد قامَ‏ من املَوت!‏ هو ليسَ‏ هنا.‏ انظُرنَ‏ املكانَ‏<br />

الذي كانَ‏ مَوضوعًا فيه.‏ ولكن اذهَنبَ‏ وأخربنَ‏ تالميذَه<br />

وبطرسَ‏ أنَّه سَ‏ يَسبقُهُم إىل الجَليل،‏ وسريَ‏ ‏َونَه هناك،‏ كام<br />

أخربَ‏ ‏َهُم من قَبل«’’.‏ 2<br />

تطلَّب ما وَقَعَ‏ عىل مسامِعِهِنَّ‏ وقتًا ليستَوعبْنَه.‏ فهُنَّ‏ أصالً‏ مل يرَينَ‏<br />

يسوعَ‏ نفسه؛ بل أخربهُنَّ‏ هذا ‏‘‘الشابُّ‏ ’’ ذو اللِّباس األبيض-‏ وهو املالك-‏<br />

بأنَّ‏ يسوع حَيّ‏ . أرسعَتِ‏ النساءُ‏ ليُخربِ‏ ن التالميذ،‏ الذين بدَورهِم أتوا إىل<br />

القرب ونظروا وإذ باألكفان التي لفَّت يسوع قد طُويَتْ‏ بعِنايةٍ‏ ووُضعَتْ‏<br />

جانبًا.‏ فعادوا إىل منازلهِم مدهوشني وحائرين ومملوئني بالرَّجاء.‏<br />

كان أوَّلَ‏ مَن رأى يسوعَ‏ املُقام من املوت هي امرأةٌ‏ تلميذةٌ‏ منذ<br />

زمنٍ‏ اسمُها مريم املجدليَّة.‏ فبعدما غادر سائر التالميذ القرب،‏ ظلَّتْ‏ مريمُ‏<br />

لتَنوح.‏ وملَّا انحنت مجدَّدًا لتنظُر إىل داخل القرب الفارغ رأتْ‏ مالكَني<br />

115<br />

)2 مرقس .7-1 :16


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

جالسَ‏ ني حيث كان جسدُ‏ يسوع موضوعًا،‏ فسأالها:‏ ‏»ملاذا تَبكنيَ‏ يا<br />

امرأة؟«.‏ فأجابت مريم:‏ ‏»لقد أخذوا سيِّدي،‏ وال أدرِي أينَ‏ وَضَ‏ عوه!«’’.‏ 3<br />

لنتوقَّف اآلن قليالً‏ لنستوعبَ‏ األمر:‏ بعد كلِّ‏ ما حصل-‏ الحجر املدحرَج،‏<br />

والقرب الفارغ،‏ واملالئكة املبرشِّ‏ ة بقيامة املسيح من املوت-‏ ال يزال أقربُ‏<br />

تالميذ يسوع ال يُصدِّقون أنَّه عادَ‏ إىل الحياة.‏ فهُم مل يعودوا بعدُ‏ ساذجني<br />

كام كانوا يف كثري من األحيان قَبالً‏ . ويا للعجب!‏ حتَّى إنَّ‏ مريم املجدليَّة<br />

نظرَتْ‏ يف عينَي مالكٍ‏ وقالت له إنَّها تعتقدُ‏ أنَّ‏ أحدًا ما أخذَ‏ جسد املسيح!‏<br />

ويخربنا البشري يوحنَّا أنَّ‏ يسوع يف تلك اللحظة متامًا ظهرَ‏ من ورائها.‏<br />

لكنْ‏ مل يَخطر عىل بالِها أنَّه هو،‏ وظنَّت أنَّه البُستانُّ.‏ فسألها يسوع:‏ ‏‘‘لِامذا<br />

تَبكِنيَ‏ يا امرأةُ؟ عَمَّن تَبحَثني؟’’.‏ فقالت مريمُ:‏ ‏‘‘يا سيِّدُ،‏ إنْ‏ كُنتَ‏ أنتَ‏ مَن<br />

أخَذَه،‏ فَقُل يل أينَ‏ وَضَ‏ عتَه فَأذْهَبْ‏ وآخُذه’’.‏ 4 ظنَّت مريم أنَّ‏ البُستانَّ‏ أخذ<br />

الجسد لسببٍ‏ ما.‏ أمَّا يسوع،‏ فلَم يُجب عن سؤالها.‏<br />

فالوقت حان ملريم أن تعرِف.‏<br />

‏‘‘فَقالَ‏ لها يَسوعُ:‏ ‏»يا مَريَم!«’’.‏ نطقَ‏ باسمِها فقط،‏ ومعه املحبَّة<br />

والحنان والقوَّة التي أبداها يسوع كثريًا ملن حوله.‏ فعرفتهُ‏ مريم.‏<br />

‏‘‘فَاستَدارَتْ‏ وقالَت له باألراميَّة:‏ ‏»رابونِ‏ !« أيْ‏ ‏»يا مُعَلِّمِي العَظيم!«’’.‏ 5<br />

كان هو!‏ يف نهاية األمر كان يسوع املصلوبُ‏ حيًّا من جديد!‏<br />

وجاء يسوع إىل تالميذه مرَّة تلو املرَّة عىل مدى األربعني يومًا التالية،‏<br />

أحيانًا ملجموعاتٍ‏ صغرية وأحيانًا ملجموعاتٍ‏ كبرية جدًّا.‏ كلَّمهم مُجتمعني،‏<br />

)3 يوحنَّا .13 :20<br />

)4 يوحنَّا .15 :20<br />

)5 يوحنَّا .16 :20<br />

116


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

وخاطبَ‏ بعضً‏ ا منهُم شخصيًّا وعىل انفرادٍ.‏ علَّمهُم أهمِّيَّة ما حصل،‏ وأعانَ‏<br />

إميانَهم بأنَّه قامَ‏ من املوت فعالً‏ ! فحينام ظنُّوه روحًا،‏ أكلَ‏ أمامهُم شيئًا<br />

من السمك.‏ وحينام تغلغل الندمُ‏ يف أعامق بطرس،‏ سامَحَه.‏ حتَّى إنَّ‏<br />

أحد التالميذ،‏ واسمُهُ‏ توما،‏ قال برصيحِ‏ العِبارة إنَّه لن يُصدِّق أنَّ‏ يسوع<br />

قامَ‏ من املوت إنْ‏ مل يتمكَّن من وَضْ‏ ع إصبَعِه يف ثُقبَي املسامري يف يدَي<br />

يسوع ويف جُرح الرُّمح يف جنبهِ.‏ وبعد نحو أسبوع،‏ كان الجميعُ‏ مُجتمعني<br />

واألبواب مُغلَّقة،‏ فوقف يسوع بينهُم.‏ ال يُذكر أنَّه طرقَ‏ الباب ودخل،‏ بل<br />

قال الحارضون إنَّه...وقف بينهم...وكان هناك ببساطة!‏ ويف الحال التفتَ‏<br />

إىل توما وتناوَلَ‏ يده وقال:‏ ‏‘‘تَعالَ‏ وَضَ‏ عْ‏ إصبِعَكَ‏ هنا وَانظُرْ‏ إىل يَدَيَّ‏ ، وَضَ‏ عْ‏<br />

يَدَكَ‏ يف جَنْبِي.‏ كَفاكَ‏ شَ‏ كًّا وَآمِن’’.‏ أمَّا توما فذُهِل.‏ ويف طرفةِ‏ عنيٍ‏ عَلِمَ‏<br />

وقال للمسيح:‏ ‏‘‘ريبِّ‏ وإلَهي!’’.‏ 6<br />

ال بدَّ‏ أن تُدرِك أنَّ‏ الرجل املاثِل أمامهُم مل يكُن شخصً‏ ا انتعش من<br />

غَيبوبة،‏ وكأنَّهُ‏ مل يكُن حقًّا ميِّتًا عىل الصليب واستطاعَ‏ بطريقةٍ‏ ما استعادةَ‏<br />

وعيه.‏ بل مل ميُت يسوع ويُنادى عليه من املوت كام حدث مع ابن األرملة أو<br />

لِعازر اللذين ماتا بعد سنواتٍ‏ من ذلك.‏ كالَّ‏ ! فام حدث مع يسوع كأنَّه خاضَ‏<br />

املوت بأكمله وخرجَ‏ من الجهة األُخرى.‏ كانت الجراح ال تزال هناك.‏ ورغمَ‏<br />

أنَّها ليست بحاجة إىل الشفاء أو العِالج،‏ فقد كانت بُرهانًا مجيدًا عىل املوت<br />

الذي غُلب.‏ كان هذا يعني تغيريًا جذريًّا للتالميذ.‏ فاإلحباطُ‏ آلَ‏ إىل النُّرصة،‏<br />

واملوت إىل الحياة،‏ والدينونة إىل الخالص،‏ والهزميةُ‏ إىل الفوز الساحق.‏<br />

فيسوع حيٌّ‏ .<br />

117<br />

)6 يوحنَّا .28-27 :20


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

قيامةُ‏ المسيح من بين األموات:‏<br />

األساس والمحور والسَّ‏ ند<br />

دار جدلٌ‏ واسع حول موضوعِ‏ قيامة املسيح عىل مدى العصور،‏ ليكونَ‏<br />

السؤالُ‏ األبرز فيها:‏ هل حدثت بالفعل؟ ميُ‏ كن تفهُّم سبب وجود هذا<br />

الجدل،‏ فالكثري سيَقفُ‏ عىل املحكِّ‏ . فكِّر مليًّا يف هذا:‏ إنْ‏ كان يسوع قد قامَ‏<br />

فِعالً‏ من املوت بعد أن ماتَ‏ عىل الصليب،‏ فإنَّ‏ أمرًا استثنائيًّا وعجيبًا حصل<br />

فعالً‏ ، وال بدَّ‏ لنا جميعًا أن نُصغيَ‏ إليه ألنَّ‏ هذا أيَّدَ‏ جميعَ‏ ما قالَه عن نفسه-‏<br />

بأنَّه هو ابن الله وملك امللوك وربُّ‏ الحياة والعبدُ‏ املتألِّم واألُقنوم الثان من<br />

الثالوث األقدَس.‏ ومن الناحية األُخرى،‏ إنْ‏ مل يقُم يسوع من املوت،‏ فانسَ‏<br />

األمر كلَّه.‏ لقد انتهى كلُّ‏ يشء.‏ مل يكُنِ‏ األمرُ‏ مُستحقًّا من البداية أن يُعريَه<br />

تاريخُ‏ البرشيَّة انتباهًا هائالً‏ كالذي نراه،‏ وميكنُنا جميعًا اآلن امليضَّ‏ قُدُمًا يف<br />

حياتنا ألنَّ‏ يسوع كان مجرَّد يهوديٍّ‏ آخرَ‏ من آالف اليهود يف القرن األوَّل من<br />

التاريخ الذين ادَّعوا ادِّعاءاتٍ‏ جريئة ثمَّ‏ ماتوا.‏ انتهى األمر.‏<br />

هل ترى السبب الذي يدفَع املسيحيِّني لتَفخيم حَدَث قيامة املسيح؟<br />

إنَّها املحوَر الذي يَدورُ‏ حولَه اإلميان املسيحيُّ‏ كامالً‏ ، واألساس الذي يُثبَّت<br />

عليه كلُّ‏ يشءٍ‏ آخر،‏ والسَّ‏ ند الذي يرتكز عليه كلُّ‏ ما يف اإلميان املسيحيّ‏ .<br />

ويعني هذا أنَّ‏ ما يُعلنُه املسيحيُّون عن قيامة املسيح من املوت هو<br />

ترصيحٌ‏ جوهريٌّ‏ مُتعلِّق بالتاريخ،‏ وليس بالدِّين.‏ دون شكّ‏ ، هناك نتائج<br />

‏‘‘دينيَّة’’‏ مرتتِّبة عىل هذا الترصيح إنْ‏ أردتَ‏ وصفَها بهذا،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ هذه<br />

النتائج باطلة إنْ‏ مل يعُدْ‏ يسوع إىل الحياة بالقيامة من املوت حقًّا وتاريخيًّا.‏<br />

حتَّى إنَّ‏ املسيحيِّني األوائل فَهِموا هذا جيِّدًا،‏ فهُم مل يكونوا مُهتمِّنيَ‏ مبجرَّد<br />

نرشِ‏ قصَّ‏ ةٍ‏ دينيَّةٍ‏ تُشجِّع الناسَ‏ ، وتساعدهُم عىل عَيشِ‏ حياتهِم بصورةٍ‏<br />

118


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

أفضل،‏ ورمبَّ‏ ا تُعطيهِم عِربة تتَّسم بالرَّجاء يف وسط عواصف الحياة املخيِّبة<br />

لألمل.‏ كالَّ‏ ! فاملسيحيُّون األوائل أرادوا أن يعلمَ‏ العامل بأرسه أنَّهُم آمنوا حقًّا<br />

بخروج يسوع من القرب،‏ وكانوا أنفسهُم يعلَمون أنَّه إنْ‏ مل يقُم يسوعُ‏ حقًّا<br />

من املوت فكلُّ‏ يشءٍ‏ دافعوا عنه باطلٌ‏ وليس سوى وَهْمٍ‏ وبال معنًى.‏ وكام<br />

قال بولس الرسول يف إحدى رسائله:‏ ‏‘‘فإنْ‏ لَم تَكُنْ‏ هناكَ‏ قيامةٌ‏ لألموات،‏<br />

فَمعنى هذا أنَّ‏ املسيحَ‏ مل يُقَم منَ‏ املوت.‏ وإن كانَ‏ هَذا صَ‏ حيحًا فَإنَّ‏<br />

رسالَتَنا فارغةٌ،‏ وإميانُكم فارغٌ...‏ وإنْ‏ مل يَكُن املسيح قد قام من املوت،‏<br />

يَكونُ‏ إميانُكم باطالً‏ ، وخَطاياكُم لَم تُغفَر بَعدُ...وإنْ‏ كانَ‏ رَجاؤنا يف املسيح<br />

مُرتَبطًا بهَذه الحَياة فَقَط،‏ فَنَحنُ‏ أكرثَ‏ ُ النَّاس استحقاقًا للشَّ‏ فَقة’’.‏ 7<br />

وعباراتٍ‏ أُخرى،‏ إنْ‏ مل يكُن املسيح قد قام من بني األموات،‏<br />

فاملسيحيِّون أُناسٌ‏ مُثريون للشَّ‏ فقة.‏<br />

وإليك الوجهَ‏ اآلخرَ‏ للعُملة:‏ إنْ‏ قام املسيحُ‏ فِعالً‏ من املوت،‏ فيعني<br />

هذا أنَّ‏ كلَّ‏ إنسانٍ‏ مُطالبٌ‏ بتصديقِ‏ ما قاله املسيح،‏ واالعرتاف مبَلَكيَّته،‏<br />

والخضوع له بوصفه املخلِّصَ‏ والسيِّد.‏ وهذا بالتأكيد يشمَلُكَ‏ أنت أيضً‏ ا.‏<br />

لذا من املهمِّ‏ لك-‏ أجل،‏ لك أنت،‏ يا مَن تقرأ هذا الكتاب-‏ أن تتَّخذَ‏<br />

قرارًا تُجاه قيامة املسيح.‏ ليس كافيًا أن ال يكونَ‏ لك رأيٌ‏ معنيَّ‏ تُجاهَ‏<br />

املسألة.‏ إذ تحتاج ألن تفكِّر لبعض الوقت وتُقرَّ‏ إمَّا:‏ ‏‘‘أجل،‏ أعتقد أنَّ‏<br />

هذا حدث فعالً‏ . أظنُّ‏ أنَّ‏ يسوع قام من املوت فِعالً‏ ، وهو مَن قال إنَّه<br />

هو’’،‏ وإمَّا ‏‘‘ال،‏ ال أعتقد أنَّ‏ هذا حصل بالفعل.‏ وأرفُض أيَّ‏ ادِّعاءٍ‏ نادى<br />

به’’.‏ قد تسمَعُ‏ بعضَ‏ الناس يقولون إنَّه من الصحيح أالَّ‏ يكونَ‏ للمرءِ‏ رأيٌ‏<br />

7( رسالة بولس األوىل إىل أهل كورنثوس 19-13. 15:<br />

119


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

جازمٌ‏ بشأن قيامة املسيح ألنَّه ال يسعُنا الوُصول إىل حقيقة االدِّعاءات<br />

الدينيَّة بُطالنها.‏ لكنْ‏ كام ذكرنا سابِقًا:‏ ليست قيامة املسيح ادِّعاءً‏ دينيًّا<br />

يقومُ‏ به املسيحيِّون،‏ بل هي أمرٌ‏ تاريخيّ‏ . كأنَّهُم يقولون إنَّ‏ هذا حدثٌ‏<br />

أكيدٌ‏ وفِعيلٌّ‏ كام أنَّ‏ اعتالءَ‏ يوليوس قيرص عرشَ‏ اإلمرباطوريَّة هو حدثٌ‏<br />

أكيدٌ‏ وفعيلٌّ.‏ إنَّهُ‏ إدِّعاءٌ‏ قابلٌ‏ للفَحص والتَّحقيق،‏ أي ميُ‏ كن الحُكم عليه<br />

والوُصول إىل نتيجة.‏<br />

هل تؤمن بأنَّها حدثت أم ال؟<br />

إليك قناعةَ‏ املسيحيِّني الجوهريَّة:‏ نحنُ‏ نؤمن بقيامة املسيح من<br />

املوت.‏<br />

ال نعتقد أنَّ‏ التالميذَ‏ أُصيبوا بهَلوَسةٍ‏ جامعيَّة؛ فهذا غري معقول إنْ‏<br />

وضعنا يف الحسبان عددَ‏ املرَّات التي رأى أُناسٌ‏ فيها املسيح حيًّا بعد مَوته<br />

ودفنه،‏ ومدَّة ذلك،‏ فضالً‏ عن املجموعات املختلفة التي رأته.‏<br />

وال نعتقد أنَّ‏ هذا كان خطأً‏ فادِحًا.‏ فآخرُ‏ يشءٍ‏ أراده قادة اليهود<br />

هو إشاعةٌ‏ عن مسيَّا مُقامٍ‏ من املوت تنترش يف األرجاء،‏ لذا كانوا حتامً‏<br />

سيعرضون جسدَ‏ املسيح أمام الناس ليَدحَضوا اإلشاعة.‏ لكنَّهُم مل يتمكَّنوا<br />

من هذا.‏ ومن جهةٍ‏ أُخرى،‏ إنْ‏ نجا يسوع بطريقةٍ‏ ما من املوت إثر<br />

الصلب،‏ كيفَ‏ يقدر رجُلٌ‏ مُصاب ومجروح ومصلوب ومطعون إقناعَ‏<br />

أتباعه الشكَّاكني املتعنِّتني أنَّه ربُّ‏ الحياة وغالب املوت؟ ليس احتاملٌ‏<br />

وارد برأيي.‏<br />

فضالً‏ عن أنَّنا،‏ نحن املسيحيِّني،‏ ال نظنُّ‏ أنَّ‏ التالميذ كانوا يحبكون<br />

خدعة.‏ فإنْ‏ فعلوا،‏ ما الذي توقَّعوا الحصول عليه منها؟ لِمَ‏ مل يبوحوا<br />

120


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

باألمر ملَّا اتَّضح أنَّهم لن يحصلوا عىل ما أرادوه،‏ ولو بقليلٍ‏ قبلام قطع<br />

الرومان رؤوسهم وساقوا املسامري يف أيديهِم هُم أيضً‏ ا؟<br />

كالَّ‏ ! مل تكُن هلوَسةً‏ أو خطأً‏ أو خِ‏ دعة،‏ بل أمرٌ‏ آخر-‏ أمرٌ‏ ما جعل من<br />

هؤالء الرجال الجُبناء الشكَّاكني شُ‏ هداء ليسوع،‏ وشهودَ‏ عِيان خاطَروا بكلِّ‏<br />

يشءٍ‏ من أجله تحمَّلوا الكثري-‏ حتَّى القتل املعذِّب-‏ ليقولوا للعامل:‏ ‏‘‘لقد<br />

صُ‏ لب يسوع،‏ لكنَّه حيٌّ‏ اآلن!’’.‏<br />

السُّ‏ لطة للحُكم والحساب...واإلنقاذ<br />

بعد يوم األحد ذاك،‏ أمىض يسوع أربعنيَ‏ يومًا يف تعليم تالميذه وإرسالهم<br />

ليُنادوا مبُلكه اآليت عىل العامل عند رجوعه يف نهاية الزمان.‏ ثمَّ‏ صعد إىل<br />

السامء.‏ قد يبدو لك هذا تعبريًا دينيًّا وخرافيًّا آخرَ‏ بال معنى،‏ إالَّ‏ أنَّ‏ كُتَّاب<br />

اإلنجيل مل يظنُّوه هكذا.‏ بل وَصَ‏ فوا صعودَ‏ يسوع إىل السامء بكلامتٍ‏ حرفيَّةٍ‏<br />

ومبارشة كام ييل:‏<br />

‏‘‘وبَعدَ‏ أن أنهى قَولَه هَذا،‏ رُفعَ‏ إىل السَّ‏ امء وَهُم يُراقبونَ‏ .<br />

وأخفَته سَ‏ حابَةٌ‏ عن أنظارهم.‏ وبَينَام كانوا يُحدِّقونَ‏ فيه<br />

وهو يَصعَدُ،‏ وَقَفَ‏ فَجأةً‏ إىل جانبهم رَجُالن يَرتَديان ثيابًا<br />

بَيضاءَ.‏ فَقاال:‏ ‏»أيُّها الرِّجالُ‏ الجليليُّونَ‏ ، ملاذا تَقفونَ‏ هكذا<br />

ناظرينَ‏ إىل السَّ‏ امء؟ إنَّ‏ يَسوعَ‏ هذا الذي رُفعَ‏ عَنكُم إىل<br />

السَّ‏ امء،‏ سيأيت ثانيةً‏ بالطَّريقَة نَفسها التي رَأيتُموه يَصعَدُ‏<br />

بها إىل السَّ‏ امء«’’.‏ 8<br />

121<br />

)8 أعامل .11-9 :1


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

كانت حادثةً‏ مالَتْ‏ برؤوس التالميذ إىل األعىل ناظرين إىل الغيوم<br />

ومُتساءلني عن مكانِ‏ ذهاب يسوع.‏ مل يكُن هذا صعودًا روحيًّا،‏ بل كان<br />

جسديًّا.‏<br />

وتكمُن أهمِّيَّةُ‏ صعود يسوع يف داللتها أكرث منها يف حقيقتها.‏ فليس<br />

القصد من هذا خروج املسيح من املشهد بطريقةٍ‏ دراميَّة،‏ بل كان عمالً‏<br />

إلهيًّا يُقصَ‏ د به تتويج يسوع وتسليمه سلطة الحُكم والحِ‏ ساب،‏ وأروعُها،‏<br />

سلطة اإلنقاذ!‏ إنْ‏ كُنتَ‏ مُدركًا أنَّك خاطئٌ‏ ومُستحقٌّ‏ عقابَ‏ غضبِ‏<br />

الله بسبب مترُّدك عليه،‏ فحقيقة جلوس املسيح اآلن عىل عرش الكَونِ‏<br />

هي أخبارٌ‏ سارَّة لك.‏ ألنَّ‏ هذا يعني أنَّ‏ امللك األعظم الذي له الحقُّ‏ يف<br />

مُحاسبَتِك والحُكم عليك،‏ هو نفسه من يحبُّك ويدعوك لتحصُ‏ لَ‏ عىل<br />

الخالص والرحمة والنعمة من يده.‏<br />

هذا مع يعنيه الكتاب املقدَّس يف قوله:‏ ‏‘‘كلُّ‏ مَن يَتَّكِلُ‏ عىل الربِّ‏<br />

سَ‏ يَخلُص’’.‏ 9 ويعني هذا أنَّ‏ ليسوع،‏ الربِّ‏ املُقام والحاكم،‏ الذي أعطاه<br />

الله كلَّ‏ سُ‏ لطانٍ‏ يف السامء ويف األرض،‏ الحقَّ‏ والسلطان أن يخلِّص الناس<br />

من خطاياهم.‏<br />

ماذا ستفعل اآلن؟<br />

فألسألك:‏ إنْ‏ كان هذا كلُّه حقيقيًّا،‏ ماذا ستفعل اآلن؟ إنْ‏ قام يسوع من<br />

املوت حقًّا،‏ وهو فعالً‏ مَن قال عن نفسه إنَّه هو،‏ ما الذي ستفعله اآلن؟<br />

فألُخربك مبا قاله يسوع عامَّ‏ ينبغي أن تفعَل.‏ ليسَ‏ األمرُ‏ مُبهَامً‏ أو<br />

9( رسالة بولس إىل أهل رومية 13. 10:<br />

122


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

مُعقَّدًا؛ فيسوعَ‏ أخربنا جليًّا.‏ مِرارًا وتَكرارًا بينام كان يسوع يُعلِّم الجموع<br />

ويحبُّهم ويواجِهُهم بخطاياهُم،‏ ويخربهم عن نفسه،‏ أخربَهُم أن يُؤمنوا<br />

به-‏ أي أن يَضَ‏ عوا إميانَهم وثقتَهم فيه.‏ إذ قال:‏ ‏‘‘توبوا وآمِنوا بِهذِ‏ ه<br />

البِشارة’’.‏ ويُخربُنا أحد كتَّاب اإلنجيل:‏ ‏‘‘فَقَد أحَبَّ‏ الله العالَمَ‏ كَثريًا،‏ حتَّى<br />

إنَّه قَدَّمَ‏ ابنَه الوَحيدَ،‏ لِيكَ‏ ْ ال يَهلِكَ‏ كلُّ‏ مَن يؤمِنُ‏ بِه،‏ بل تَكونُ‏ له الحياةُ‏<br />

األبَديَّة’’.‏ 10<br />

لكنْ‏ لألسف،‏ صارت كلمة ‏‘‘إميان’’‏ لكثري من الناس خاليةً‏ من املعنى<br />

وعقيمة،‏ كاإلميان بوجود فضائيِّني أو حوريَّات بحر.‏ لكنْ‏ كانت كلمة<br />

اإلميان منذ قرون قويَّةً‏ وجدِّيَّة تُقال عن شِ‏ دَّة من بَرهن نفسَ‏ ه مُستحقًّا<br />

لها وعن مصداقيَّته وأمانته.‏ وهذا ما عناه يسوع حينام قال للناس أن<br />

يُؤمنوا به.‏ ومل يقصِ‏ د مجرَّد استنتاج أنَّه كان موجودًا يف وقتٍ‏ ما،‏ بل أن<br />

تتَّكل عليه كلِّيًّا؛ أي ينبغي أن متُ‏ عنَ‏ يف النظر يف ما قاله وفعَلَه،‏ وأن تُقرِّرَ‏<br />

إنْ‏ كان يستحقُّ‏ ثقتَك واملخاطَرة بحياتك من أجله.‏<br />

لكنْ‏ ما معنى هذا؟ ملاذا نثق بيسوع؟ كام سبق ورأينا،‏ تُعلِّمنا قصَّ‏ ة<br />

الكتاب املقدَّس كلُّها أنَّنا جميعًا أعداءٌ‏ لله متمرِّدون عليه.‏ لقد أخطأنا<br />

تُجاهَه وانتَهَكْنا رشيعتَه وألقَينا بسُ‏ لطته بعيدًا من حياتنا مباليني األساليب.‏<br />

وبسبب هذه الخطيَّة،‏ نستحقُّ‏ أن نُقايسِ‏ َ العقابَ‏ الذي تتطلَّبه الخطيَّة:‏<br />

املوت.‏ نستحقُّ‏ أن نوتَ‏ جسديًّا وأن يسكُبَ‏ الله غضبَه غري املحدود<br />

علينا.‏ املوت هو األجر الذي جلبتْه علينا الخطيَّة.‏<br />

ما نحتاج إليه أكرث الكلِّ‏ إذًا هو أن نكونَ‏ أبرارًا أمامَ‏ الله،‏ ال مُذنِبني.‏<br />

123<br />

)10 مرقس ‎15‎؛ :1 يوحنَّا .16 :3


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

نحتاج ألن يُصدِ‏ رَ‏ حُكامً‏ يكونُ‏ ملصلحتنا،‏ وال يكونُ‏ ضدَّنا.‏ وهنا يأيت دورُ‏<br />

اإلميان بيسوع.‏ إليك بشارةَ‏ اإلنجيل،‏ الخرب السارُّ‏ بيسوع املسيح:‏ أنَّ‏ الغاية<br />

من مجيء املسيح هي وُقوفُه يف مكان خطاة مثيل ومثلك،‏ والقيام مبا<br />

كان ينبغي أن نفعله منذ البداية،‏ واستنفاد لعنة املوت التي ضدَّنا.‏ لذا<br />

فإنَّ‏ اإلميان بيسوع هو عملٌ‏ بالغُ‏ األهمِّيَّة.‏ يخربنا الكتاب املقدَّس بأنَّنا<br />

حينام نؤمنُ‏ بيسوع املسيح ونثقُ‏ به ونتَّكل عليه،‏ نتَّحد فيه بوصفه مَلِكَنا<br />

ومُمثِّلنا وبَدِ‏ يلَنا.‏ ويف طرفة عَني،‏ صار سجلُّ‏ حياتِنا وما يحويه من إثمٍ‏<br />

وعِصيانٍ‏ ومترُّدٍ‏ ضدَّ‏ الله منسوبًا إىل يسوع،‏ فامتَ‏ نتيجةَ‏ هذا،‏ بدالً‏ عنَّا.‏ ويف<br />

اللحظة نفسها،‏ يُنسبُ‏ إلينا سِ‏ جلُّ‏ حياة يسوع املثاليَّة من الطاعة واملسري<br />

مع الله،‏ فيحتَسِ‏ بُنا الله أبرارًا عىل أساس تلك الحياة الكاملة.‏<br />

أترى هذا؟ تحدُثُ‏ مبادلةٌ‏ عجيبةٌ‏ حينام تتَّحد بيسوع باالتِّكال عليه:‏<br />

يسوع يحمِل خطيَّتك وميوت بسببها.‏ وتأخذ أنت بِره،‏ وتحيا ألجله!‏<br />

وهناك املزيد أيضً‏ ا:‏ يعني االتِّحاد بيسوع باإلميان أنَّ‏ كلَّ‏ ما هو من حقِّ‏<br />

يسوع بسبب طاعته الكاملة لآلب،‏ يصريُ‏ لك أيضً‏ ا!‏ إذ ليسَ‏ تْ‏ أيٌّ‏ من<br />

بركات الطاعة من حقِّنا؛ فنحنُ‏ ال نستحقُّها.‏ إالَّ‏ أنَّ‏ جميعها من حقِّ‏<br />

يسوع،‏ ونحنُ‏ نستقبلها التِّحادنا به بتشبُّثٍ‏ كبري وواثق.‏ وإذ إنَّ‏ يسوع<br />

حُسبَ‏ بارًّا تُحسبُ‏ أنت بارًّا بِهِ.‏ يسوعُ‏ متجَّد،‏ إذًا أنت ستتمجَّد.‏ قام<br />

يسوع من املوت،‏ وكذلك أنت-‏ ألنَّك اتَّحدْتَ‏ به-‏ ستقوم من األموات يف<br />

يوم عَودته إىل األرض يف نهاية الزمان.‏ لذلك يَصِ‏ ف الكتاب املقدَّس يسوع<br />

بأنَّه ‏‘‘أوَّلُ‏ حَصادِ’’‏ مَن ماتوا وسيقومون من املوت إىل الحياة.‏ 11 فإذ يحيا<br />

هو ألنَّ‏ له الحقَّ‏ يف ذلك،‏ نحيا نحن أيضً‏ ا باالتِّحاد به.‏<br />

11( رسالة بولس األوىل إىل أهل كورنثوس 20. 15:<br />

124


الربُّ‏ المُ‏ قام والحاكم<br />

ال يخصُّ‏ هذا الكالم عن املسيح،‏ بوصفه املمثِّل والبديل،‏ جميعَ‏ الناس<br />

يف العامل.‏ ال بل إنَّ‏ املسيح يقفُ‏ بديالً‏ عن أولئك الذين يعرتفون بأنَّه حقًّا<br />

مَن قال إنَّه هو،‏ ويجدون أنَّه قادرٌ‏ عىل فعل ما قال إنَّه قادرٌ‏ عليه،‏ ومَن<br />

يضعون إميانَهم وثقتهم واتِّكالهُم عليه نتيجةَ‏ ذلك.‏ الحظْ‏ أنَّنا،‏ نحن البرش،‏<br />

يف مترُّدٍ‏ مكشوف عىل اإلله خالقنا.‏ لذا ليس الله مُضطرًّا بتاتًا أن يُخلِّصنا.‏<br />

بل بالعكس،‏ كان ميُ‏ كنه إهالكنا وإرسالنا إىل نار جَهنَّم،‏ وسيكون هناك<br />

تسبيح من املالئكة لله عىل عدله الخالِص.‏ وكانوا سيقولون شيئًا كهذا:‏<br />

‏‘‘هذا مصريُ‏ كلِّ‏ مَن يتمرَّد عىل الله العيلِّ!’’.‏ لكنَّ‏ محبَّة الله الخالصة لنا<br />

جعلَتْه يُرسِ‏ لُ‏ ابنه الوحيد يسوع املسيح لريحمَنا نحنُ‏ املتمرِّدين،‏ إنْ‏ جِئنا<br />

وسجدنا له واعرتفنا به وتشبَّثنا به بوصفه ملِكَنا الرشعيَّ‏ . فإنْ‏ فعَلْنا هذا،‏<br />

سيَمثُلُ‏ هو بِدَوره بدافع محبَّته العجيبة ليكونَ‏ البديل عنَّا،‏ لينسِ‏ بَ‏ إلينا<br />

سجلَّ‏ حياته البارَّة،‏ ويحملَ‏ عنَّا عِقاب املوت.‏<br />

ال يعني هذا أنَّ‏ اإلميان بيسوع خالٍ‏ من املتطلَّبات املرتتِّبة عليك.‏ كالَّ‏ !<br />

فحينام تؤمن بيسوع وتعرتف به بوصفه ممثِّلك والبديل عنك،‏ وتعرتف<br />

بأنَّه املسيح امللك،‏ فيعني هذا أنَّه سيُامرسُ‏ سلطانَه عىل حياتك،‏ بتنبيهك<br />

بضورة الرُّجوع عن خطاياك ومترُّدك عىل الله.‏ وهذا ما يُسمِّيه الكتاب<br />

املقدَّس التَّوبة؛ وهي حربٌ‏ تُعلنها عىل اإلثمِ‏ يف حياتِك وتسعى إىل النموِّ‏<br />

يف الربِ‏ ِّ لتُشابِهَ‏ يسوعَ‏ أكرثَ‏ فأكرث.‏ لكنَّك لن تقومَ‏ بهذا وحدك؛ فالكتاب<br />

املقدَّس يُخربِ‏ نا بأنَّنا حينام نتَّحِ‏ د بيسوع باإلميان يأيت الروح القُدُس-‏<br />

األقنوم الثالث من الثالوث األقدس-‏ ليسكُنَ‏ فيك،‏ وهو مَن يُعطيك القوَّة<br />

والرغبة لتُحاربَ‏ الخطيَّة وتسعى إىل الربّ.‏<br />

فام يعنيه اإلميان بيسوع هو االتِّكالُ‏ عليه ليُنقذكَ‏ ؛ إذ ليس مثَّة<br />

125


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

سبيلٌ‏ آخر لخالص نفسك،‏ وإدراك أنَّه ليس لك رجاءٌ‏ يف الوقوف أمام<br />

الله واحتامل عِقاب املوت الذي تستحقُّه،‏ وليس لك رجاءٌ‏ أن تَنالَ‏ الحُكم<br />

بالرباءة حينام يَنظرُ‏ إىل سجلِّ‏ حياتك.‏ ويف الوقت نفسه،‏ أن تؤمنَ‏ بأنَّ‏<br />

يسوع سبقَ‏ وحملَ‏ عقابَ‏ املوت بدالً‏ عن خُطاة مثيل ومثلك،‏ وأنَّه سبق<br />

ونالَ‏ حُكم الرباءة من أجلك،‏ وأنَّ‏ رجاءَك الوحيد هو باالتِّكال متامًا عىل<br />

وُقوفه يف مكانك بديالً‏ عنك.‏<br />

هذا ما يدعو إليه يسوعُ‏ امللك كلَّ‏ إنسان.‏ ويسوع هو املقام من<br />

املوت والحاكم من السامء.‏ إنَّها دعوة مفتوحةٌ‏ بال قيود وال مُؤهِّالت.‏ لن<br />

تبقى يدُ‏ يسوع امللك مفتوحة دامئًا،‏ إالَّ‏ أنَّها كذلك اآلن.‏ والسؤال الوحيد<br />

هو ما إذا كُنت ستأخذ بيده وتنزل عىل رُكبتيك أمامه مُعرتفًا به وواثقًا<br />

بأنَّه أخذَ‏ مكانَك تحت دينونة الله،‏ أو ما إذا كُنت ستُقرِّر املثولَ‏ تحت<br />

هذه الدينونة وحدَك.‏<br />

القرار يعود إليك.‏ لكنْ‏ ملدَّةٍ‏ وجيزة.‏<br />

126


الخاتمة<br />

مَن تقول إنَّه <strong>هو؟</strong><br />

لكنْ‏ ملدَّةٍ‏ وجيزة.‏<br />

ليس هذا كالمًا بالغيًّا منمَّقًا.‏ فالحقيقة هي أنَّ‏ يدَ‏ يسوع امللك لن<br />

تظلَّ‏ ممتدَّة بالرحمة إىل األبد.‏ ويف يومٍ‏ ما،‏ وقد يكونُ‏ يومًا قريبًا،‏ سينتهي<br />

زمنُ‏ الرحمة ويأيت وقتُ‏ الحساب.‏ قطعَ‏ يسوعُ‏ وعدًا بينام كان يوم صلبه<br />

يلوحُ‏ مُقرتبًا أنَّه سيعودُ‏ يومًا ليَدينَ‏ األحياء واألموات نهائيًّا.‏ زمنُ‏ الخالص<br />

والرحمة والنعمة مديدٌ‏ كفاية،‏ حتَّى ذلك اليوم الذي ال يعودُ‏ فيه القرارُ‏<br />

لك،‏ بل سيُتَّخذُ‏ قرارٌ‏ يف حقِّك.‏ فلو مل يكُنْ‏ قرارُك إىل حينه صحيحًا،‏ سيُتَّخذُ‏<br />

يف حقِّك قرارُ‏ االبتعاد عن الله،‏ عن يسوع،‏ إىل األبد.‏<br />

هذا ما يلحُّ‏ عليك باإلجابة اآلن عن سؤال ‏‘‘مَن هو يسوع املسيح؟’’.‏<br />

كم أرجو أن تكونَ‏ قراءة هذا الكتاب قد جعلَتْك تُدرك عىل األقلِّ‏ عدم<br />

إمكانيَّة تجاهُل هذا السؤال ببساطة.‏ فأينام انتهى بك املطاف باالعتقاد<br />

عن املسيح يسوع،‏ تبقى الحقيقة راسخةً‏ أنَّه زَعمَ‏ بقوَّة وجسارة بأُمورٍ‏<br />

عنك وعن عالقتك بالله القدُّوس.‏ دون شكّ‏ ، ميُ‏ كنك تجاهُل ما زعمَه،‏ أو أيِّ‏<br />

يشءٍ‏ آخر إنْ‏ حاولت جاهدًا،‏ إالَّ‏ أنَّك حينام تسمعُ‏ أحَدَهم يقولُ‏ لك شيئًا<br />

من هذا القبيل:‏ ‏‘‘لقد مترَّدت عىل خالقك،‏ وعاقبةُ‏ ذلك املوت.‏ إالَّ‏ أنِّ‏ أتَيتُ‏<br />

127


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

آلخُذَ‏ مكانَك،‏ وآخذ العقابَ‏ وأُخلِّصك’’،‏ ال بدَّ‏ أن تُعريَه بعضَ‏ االهتامم.‏<br />

قد ال تكون مُستعدًّا لإلميان بيسوع املسيح فعالً‏ . وإنْ‏ كانت هذه<br />

حالُك،‏ فلامذا أنتَ‏ لستَ‏ كذلك؟ هل هناك تساؤالتٌ‏ أُخرى لديك؟ ما<br />

الذي مينعُك؟ وقتام تتَّضح لك املُعيقات،‏ ال تتجاهلها،‏ بل امتحنها وفصِّ‏ لها<br />

وابحث عن إجاباتٍ‏ صادقة لها.‏ مسألة ‏‘‘مَن هو يسوع املسيح؟’’‏ مسألةٌ‏<br />

مفصليَّة؛ فال تتجاهلها أو تؤجِّلها.‏ وإنِ‏ استنتجْتَ‏ قائالً‏ : ‏‘‘كالَّ‏ ! ال أُومن مبا<br />

قاله الكتاب املقدَّس عن املسيح يسوع،‏ وال أُومن مبا قاله هو عن نفسه’’،‏<br />

فليكُن.‏ عىل األقلِّ‏ لديك يشءٌ‏ من الجزم يف هذا.‏<br />

لكن،‏ يا صديقي،‏ فأللتمِسْ‏ منك هذا:‏ ال تدَعْ‏ يومَ‏ الحساب يُباغتك<br />

فتقول:‏ ‏‘‘ليتَني فكَّرتُ‏ يف األمرِ‏ مليًّا!‏ ولَيتَني سعيتُ‏ إىل التعامل مع األمر!‏<br />

ليتني رصفتُ‏ وقتًا كافيًا ألتجاوَب بحقّ‏ !’’. مهام ندمتَ‏ يف هذه الحياة،‏ لن<br />

يكونَ‏ ندمُك بشدَّةِ‏ ذلك الذي يف اليوم األخري.‏<br />

غري أنَّك قد تكون مُستعدًّا اآلن لتقول:‏ ‏‘‘أجل!‏ أعلمُ‏ يقينًا اآلن أنَّ‏ يسوع<br />

هو امللك وابن الله والخادم املتألِّم.‏ وأعلَمُ‏ أنِّ‏ خاطئٌ‏ ومتمرِّدٌ‏ عىل ريبِّ‏<br />

العظيم،‏ وأعلم أنَّ‏ أستحقُّ‏ املوتَ‏ لقاء هذا،‏ وأعلمُ‏ أنَّ‏ يسوع وحده ميُ‏ كنه<br />

إنقاذي’’.‏ وإنْ‏ كانت هذه حالُك،‏ فينبغي أن تعلمَ‏ أنَّ‏ اتِّباعك للمسيح مُمكنٌ‏<br />

مبعونة الله القادر عىل كلِّ‏ يشء.‏ وليس من شكليَّاتٍ‏ لتقومَ‏ بها سوى أن<br />

ترتك خطاياك وتَثِقَ‏ بيسوع املسيح،‏ وتستندَ‏ إليه،‏ وتعتمد عليه حتَّى النهاية<br />

ليُخلِّصك يف ذلك اليوم،‏ ثمَّ‏ تشهدَ‏ للعامل أجمع بأنَّ‏ هذا هو يسوع املسيح<br />

فِعالً‏ . هو مَن يُنقذ من اإلثم واملوتِ‏ أُناسً‏ ا مثيل متامًا.‏<br />

ومثلك أنت أيضً‏ ا!‏<br />

128


عن السلسلة<br />

بُنيت سلسة الكُتب التي توفِّرها خدمة ‏‘‘العالمات التسع’’‏ (9Marks) عىل<br />

فكرتني أساسيَّتَني:‏ أوَّالً‏ ، أهمِّيَّة الكنيسة املحلِّيَّة للحياة املسيحيَّة،‏ والتي<br />

قد تتخطَّى كثريًا إدراكَ‏ الكثري من املسيحيِّني.‏ فنحنُ‏ نؤمن يف خدمة<br />

‏‘‘العالمات التسع’’‏ بأنَّ‏ املؤمن املسيحيَّ‏ السليم هو عضوٌ‏ سليمٌ‏ يف كنيسة.‏<br />

وثانيًا،‏ نوُّ‏ حياةِ‏ الكنيسة املحلِّيَّة ونشاطها مبَحوَرَةِ‏ حياتهم حول كلمة<br />

الله.‏ فالله يتكلَّم.‏ والكنيسة ينبغي أن تُصغي وتتبع.‏ األمر بهذه البساطة.‏<br />

فحينام تُصغي الكنيسة وتتبع،‏ تبدأ تتَّخذُ‏ صورة ذاك الذي تتبعه.‏ تبدأ<br />

يف عكس محبَّته وقداسته،‏ وتكشف عن مجده.‏ ستتشبَّه الكنيسة به<br />

بينام تُصغي إليه.‏ وقد يُالحظ القارئ بعد االطِّالع عىل شارة الخدمة بأنَّ‏<br />

العالمات التسع املأخوذة من كِتاب ‏‘‘العالمات التسع للكنيسة السليمة’’‏<br />

Church) (Nine Marks of a Healthy للكاتِب مارك دَفر Dever) (Mark تستندُ‏<br />

حرصًا إىل الكتاب املقدَّس:‏<br />

‏•الوعظُ‏ التفسرييُّ‏ .<br />

‏•علمُ‏ الالهوت الكتايبُّ.‏<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لبشارة اإلنجيل.‏<br />

129


مَن هو يسوع المسيح؟<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لالهتداء.‏<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للكِرازة.‏<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لعضويَّة الكنيسة.‏<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للتَّأديب الكنيسِّ‏ .<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للتَّلمذة والنموِّ.‏<br />

‏•فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لقيادة الكنيسة.‏<br />

ميُ‏ كن قول الكثري عامَّ‏ يجب عىل الكنيسة فعله لتكونَ‏ سليمة،‏<br />

كالصالة مثل.‏ غري أنَّ‏ املامرسات التسعة اآلنفة الذِّكر هي برأينا األكرثُ‏<br />

إغفاالً‏ اليوم ‏)عىل عكس الصالة(.‏ لذا أساسُ‏ رسالتنا للكنيسة هو أالَّ‏<br />

تنظرَ‏ إىل املُامرسات الدعائيَّة أو إىل أحدَث الصَّ‏ يحات،‏ بل إىل الله.‏ ابدأوا<br />

باإلصغاء إىل كلمة الله من جديد.‏<br />

ومن هذا املرشوع الشامل تأتيكم سلسلة الكُتب الخاصَّ‏ ة بخدمة<br />

‏‘‘العالمات التسع’’‏ والتي تسعى إىل فحص العالمات التسع من كثبٍ‏ ومن<br />

مُختلف الزوايا.‏ وبعضُ‏ ها يستهدف رُعاة الكنائس،‏ وبعضُ‏ ها اآلخر أعضاء<br />

الكنائس.‏ ونأملُ‏ أن تدمج جميعها فحصً‏ ا كتابيًّا دقيقًا وبُعدًا الهوتيًّا<br />

واعتبارًا ثقافيًا وتطبيقًا جامعيًّا وحتَّى شيئًا من الجهد الشخيصِّ‏ . فأفضل<br />

الكُتب املسيحيَّة هي التي تجمع ما بني عِلم الالهوت والتطبيق.‏<br />

نُصيلِّ‏ أن يستخدم الله هذه الكتابات وغريها يف املساهمة يف إعداد<br />

كنيسته العروس باإلرشاقة والجامل إىل يوم مجيئه الثان.‏<br />

130


لبناء كنائس سليمة<br />

تسعى خدمة ‏‘‘العالمات التسع’’‏ إىل متكني قادة الكنيسة برؤية كتابيَّة ومصادر<br />

عمليَّة إلظهار مجد الله للشعوب بواسطة كنائس سليمة.‏<br />

ولتحقيق هذا نُريد أن نرى الكنائس تتَّسم بهذه العالمات التسع التي تدلُّ‏<br />

عىل سالمتها:‏<br />

الوعظُ‏ التفسرييُّ‏ .<br />

1. علمُ‏ الالهوت الكتايبُّ.‏<br />

2. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لبشارة اإلنجيل.‏<br />

3. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لالهتداء.‏<br />

4. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للكِرازة.‏<br />

5. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لعضويَّة الكنيسة.‏<br />

6. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للتَّأديب الكنيسِّ‏ .<br />

7. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ للتَّلمذة والنموِّ.‏<br />

8. فهمٌ‏ كتايبٌّ‏ لقيادة الكنيسة.‏<br />

9. ميكنك زيارة موقعنا باللغة اإلنكليزيَّة www.9Marks.org لتجدَ‏ جميعَ‏<br />

منشوراتنا بالتعاون مع النارش ،(Crossway) وغريها من املصادر األخرى.‏<br />

131


قريبًا باللغة العربيَّة من غريغ غيلبرت<br />

كتاب ‏‘‘ما هي بشارة اإلنجيل؟’’‏<br />

‏‘‘كتب غريغ غيلربت،‏ ذو العقل الالمع والقلب الرعويِّ‏ ، كتابًا سيساعد الباحثني عن الحقِّ‏<br />

واملسيحيِّني الجُدد وكلَّ‏ مَن أراد فهم بشارة اإلنجيل بأكرث وضوح.‏ لطاملا انتظرت كتابًا كهذا!’’‏<br />

كيفن دي يونغ DeYoung( )Kevin<br />

راعي كنيسة يُنيفريستي املُصلِحة Church( )University Reformed<br />

يف إيست النسينغ،‏ ميشيغن<br />

‏‘‘أجِدُ‏ هذا الكتيِّبَ‏ عن بشارة اإلنجيل أكرث الكتبُ‏ وأوضحها وأهمِّها بني الكُتُب التي قرأتُها<br />

يف السنوات األخرية’’.‏<br />

مارك دَفر Dever( )Mark<br />

راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( )Capitol Hill Baptist<br />

واشنطن دي.‏ يس.‏<br />

للمزيد من املعلومات ‏)باللغة اإلنكليزيَّة(،‏<br />

يُرجى زيارة موقع النارش www.crossway.org<br />

133


جِ‏ دِ‏ اإلجابة عن األسئلة األهمِّ‏ على اإلطالق<br />

‏‘‘يبحثُ‏ غريغ غيلربت Gilbert( )Greg صفحات الكتاب املقدَّس بطريقةٍ‏ مقروءةٍ‏ وموجزةٍ‏<br />

ومدهشة ليُخرِج حقيقة ما قاله السيِّد املسيح عن نفسِ‏ ه.‏ إنَّ‏ هذا الكتاب رضوريٌّ‏ للمؤمن<br />

باملسيح والباحث عن الحقّ‏ ’’.<br />

جيم دايل Daly( )Jim<br />

رئيس هيئة ‏‘‘الرتكيز عىل العائلة’’‏ Family( )Focus on the<br />

‏‘‘سيكون لهذا الكتاب القصري دورٌ‏ عظيمٌ‏ لتَعريف الناس إىل أروع شخصٍ‏ عىل مرِّ‏ العصور’’.‏<br />

رون براون Brown( )Ron<br />

مدرِّبٌ‏ فريق كورن هسكرز يف جامعة نرباسكا Cornhuskers( )University of Nebraska<br />

‏‘‘إنَّ‏ أمثنَ‏ ما لدى غريغ هو قُدرته عىل تبسيط األمور العميقة.‏ يُساعدنا كتابُه هذا عىل<br />

متييز السيِّد املسيح مثلام قدَّم نفسَ‏ ه مقارنةً‏ مبا ابتدَعْناه عنه’’.‏<br />

جاي.‏ دي.‏ غريَر Greear( .J( .D<br />

راعي كنيسة القمَّة Church( )The Summit يف دورهام،‏ كارولينا الشامليَّة<br />

‏‘‘يسلِّطُ‏ غريغ الضَّ‏ وء من جديدٍ‏ عىل مشاهدَ‏ مألوفةٍ،‏ وهكذا فإنَّه يربط الحقائقَ‏ مبعانيها.‏<br />

إنَّها دعوةٌ‏ لك،‏ أيُّها القارئ،‏ لتتعرَّفَ‏ إىل يسوع املسيح’’.‏<br />

مارك دَفر Dever( )Mark<br />

راعي كنيسة كابيتول هِل املعمدانيَّة Church( ،)Capitol Hill Baptist واشنطن دي.‏ يس<br />

ورئيس منظَّمة ‏‘‘العالمات التسع’’‏ )9Marks(<br />

غريغ غيلربت Gilbert( )Greg يحمل شهادة املاجستري يف اإللهيَّات )M.Div( من كلِّيَّة سَ‏ ذرن<br />

بابتِست املعمدانيَّة للدراسات الالهوتيَّة Seminary( ،)Southern Baptist Theological وهو<br />

الراعي املسؤول يف كنيسة ثريد آفِنيو املعمدانيَّة Church( ،)Third Avenue Baptist يف<br />

لويسفيل،‏ كنتايك.‏ ألَّف عددًا من الكتب،‏ وشارك كيفن دي يونغ DeYoung( )Kevin يف<br />

تأليف كتابٍ‏ عن مهمَّة الكنيسة.‏

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!